(الصفحة 291)
في تقريب هذا القول ما ملخّصـه : أنّ العوارض على قسمين : قسم يعرض الماهيّـة مع قطع النظر عن الوجودين : الذهني والخارجي بحيث لو كان للماهيـة تقرّر وثبوت في غير عا لم الوجود ، لكان يعرضها ، كا لزوجيـة العارضـة لماهيّـة الأربعـة في عا لم التقرّر ، وقسم يعرض الوجود كالأبيضيـة الحاصلـة للجسم الموجود ، والفاسقيـة والقرشيـة وغيرها من العوارض القائمـة با لوجود ، وحينئذ نقول : لابأس في القسم الثاني بجريان استصحاب عدم تلك الأوصاف با لنسبـة إلى موصوفها وإن كان الموصوف حينما يتحقّق لايخلو من اتّصافـه بذلك الوصف ، بمعنى أ نّـه لو كان متّصفاً بـه ، لكان ذلك من أوّل وجوده وتحقّقـه ، كوصف القرشيـة ; لإمكان أن يقال : هذه المرأة ـ مشيراً إلى ماهيّتها ـ لم تكن قبل الوجود قرشيـة ، فيستصحب ذلك إلى زمان الوجود .
تحقيق في المقام
هذا ، وتحقيق الحال في هذا المقام ـ بحيث يظهر حال ما قيل أو يمكن أن يقال ـ يتوقّف على بيان حال القضايا ومناط الحمل .
فا لكلام يتمّ في ضمن مقدّمات :
الاُولى : أقسام القضايا بلحاظ النسبـة
فنقول : قد اشتهر بينهم بل اتّفقوا على أنّ القضيّـة متقوّمـة بثلاثـة أجزاء : الموضوع والمحمول والنسبـة ، ولكن لايخفى أنّ هذا المعنى لايصحّ على نحو الكلّيـة ; فإنّ القضايا مختلفـة ، فبعضها مشتملـة على النسبـة المتقوّمـة با لمنتسبين ، وبعضها بل أكثرها خا ليـة عن النسبـة بين الشيئين .
توضيح ذلك : أنّ القضايا الحمليـة على قسمين : الحمليّات المستقيمـة الغير
(الصفحة 292)
ا لمأوّلـة ، مثل : زيد موجود ، والإنسان حيوان ناطق ، والحمليّات المأوّلـة ، مثل : زيد لـه البياض ، وعمرو على السطح ، ومناط الحمل في الأوّل هو الهوهويـة ، ولايكون بين الموضوع والمحمول فيها نسبـة ; لأنّ النسبـة إنّما تتحقّق بين الشيئين المتغايرين ; إذ لايعقل تحقّقها بين الشيء ونفسـه .
وحينئذ نقول:
إنّ القضيـة إنّما تحكي عن الواقع ، فلابدّ من ملاحظتـه ليظهر حا لها ، وملاحظتـه تقضي بعدم كون «زيد» و«موجود» في الواقع شيئين ، وعدم كون الإنسان شيئاً والحيوان الناطق شيئاً ، وكذا لايكون في الواقع مغايرة بين الجسم وبين الأبيض ، ومع اتّحادهما بحسب الواقع لايعقل النسبـة بينهما ; لما عرفت من أنّ قوامها إنّما هو با لمنتسبين ، وإذا كان الواقع كذلك فا لقضيّـة المعقولـة وكذا الملفوظـة إنّما هما كذلك ; لأنّهما حاكيتان عنـه ، ومرآتان لـه ، فلايعقل النسبـة فيهما ، بل ملاك الحمل فيها إنّما هو الهوهويـة والاتّحاد المنافي للمغايرة المحقّقـة للنسبـة ، بل نقول : إنّ الأصل في الحمليّات إنّما هو هذا القسم الذي لايكون فيـه نسبـة ، ولذا نسمّيها با لحمليّات الغير المأوّلـة .
وأمّا غيرها من الحمليّات فمشتملـة على النسبـة ; لأنّ البياض لايعقل أن يتّحد مع زيد ويتحقّق بينهما الهوهويـة ، نعم لـه ارتباط وإضافـة إليـه باعتبار كونـه محلاّ لـه ، وهو حالّ فيـه عارض عليـه ، وهذا القسم هو الحمليّات المأوّلـة ، نحو : زيد في الدار ، ووجـه التسميـة بذلك أ نّها مأوّلـة ; لأنّ تقديره : زيد كائن في الدار ; إذ لايحمل المحمول فيها على موضوعها بدون تقدير الكون والحصول ونحوهما .
هذا في الموجبات، وأمّا السوالب:
فا لتحقيق أ نّها خا ليـة عن النسبـة مطلقاً ; لما ذكرنا من أ نّها أيضاً حاكيـة عن الواقع ، ومن الواضح أ نّـه خال عن النسبـة ، فقولـه : زيد ليس بقائم ، يرجع إلى أنّ الواقع خال عن النسبـة بين زيد
(الصفحة 293)
وبين القيام ، لا أ نّـه لـه نسبـة إلى عدم ا لقيام ، فهذه القضايا متضمّنـة لسلب الحمل ، لا أ نّها يكون ا لسلب فيها محمولاً .
ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو في الحمليّات الغير الموجبـة المأوّلـة ، وأمّا السوا لب الغير المأوّلـة : فا لسلب فيها إنّما يتعلّق با لهوهويـة ، بمعنى أنّ السوا لب على قسمين أيضاً : قسم يتعلّق السلب با لهوهويـة ، كزيد ليس بموجود ، وقسم يكون السلب وارداً على النسبـة ، كقولـه : زيد ليس لـه القيام ، فقولنا بخلوّها عن النسبـة إنّما يكون النظر فيـه إلى السوا لب التي لو كانت موجبات تكون فيها النسبـة ، ضرورة أنّ غيرها لايتوهّم فيها النسبـة بعد منعها في الموجبات منها ، كما لايخفى .
الثانيـة : مناط الصدق والكذب في القضايا
ثمّ إنّ ممّا ذكرنا ظهر أنّ المناط في كون القضيّـة محتملةً للصدق والكذب ليس كون نسبتها تامّةً في مقابل النسبة الناقصة ، كما هو المعروف ; لما عرفت من خلوّ أكثر القضايا عن النسبـة حتّى تكون تامّةً أو غيرها ، بل المناط فيـه هي الحكايـة التصديقيّـة المقابلـة للحكايـة التصوّريـة ، فإنّ الحاكي عن الواقع قد يحكي عنـه تصوّراً بمعنى أ نّـه يوقع في ذهن المخاطب تصوّر الواقع ، مثل : قولـه : زيد الذي هو قائم ، وقد يحكي عنـه تصديقاً ، بمعنى أ نّـه يؤثّر با لنسبـة إلى المخاطب التصديق بها نفياً أو إثباتاً ، مثل قولـه : زيد قائم ، أو : زيد لـه القيام ، فا لملاك في احتمال القضيّـة للصدق والكذب هو هذه الحكايـة التصديقيـة لا النسبـة التامّـة ; لما عرفت ، والدالّ على تلك الحكايـة إنّما هو تركيب الجُمل الخبريـة وهيئتها الموضوعـة بإزاء ذلك .
كما أنّ ممّا ذكرنا ظهر أيضاً أنّ الملاك في كون القضيـة صادقةً ليس هو أن
(الصفحة 294)
يكون لنسبتها واقع تطابقـه ، كما هو المعروف ; لما عرفت من خلوّ أكثر القضايا عن النسبـة بحسب الواقع ، فلايكون لها بحسبـه نسبـة حتّى طابقتها ، بل المناط هو تطابقها مع نفس الواقع ونفس الأمر ، بمعنى أنّ الواقع لو كان زيد مثلاً موجوداً ، لكانت الحكايـة عنـه بقولـه : زيد موجود ، حكايـة صادقـة ; لأنّ الواقع مشتمل على الهوهويـة والاتّحاد بينهما ، وإن لم يكن كذلك ، لكانت كاذبةً ; لعدم تحقّقها في الواقع .
ثمّ لايخفى جريان هذا المعنى في السوا لب أيضاً ; فإنّها وإن لم يكن لها واقع بل قد يصدق مع عدم الموضوع أيضاً ، إلاّ أنّ واقعها هو خلوّ صفحـة الواقع عن الهوهويـة أو النسبـة بين موضوعها ومحمولها ، فصدق قولـه : زيد ليس بقائم ، إنّما هو بخلوّ الواقع عن الاتّحاد بينهما ، كما أنّ صدق قولـه : زيد ليس لـه البياض ، إنّما هو بخلوّه عن النسبـة والربط بينهما .
الثا لثـة : في القضايا المفتقرة إلى وجود الموضوع
إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ القضيّـة الموجبـة قد تكون محصّلةً ، وقد تكون معدولةً ، والمراد با لثاني هو أن يحمل المحمول السلبي على الموضوع ، مثل قولـه : زيد لا قائم .
وهذان القسمان يجريان في السوا لب أيضاً ; فإنّها أيضاً قد تكون محصّلةً ، وقد تكون معدولةً ، والمعدولة مطلقاً قد تكون معدولةَ الموضوع ، وقد تكون معدولةَ المحمول ، وقد تكون معدولةَ الطرفين ، وللقضيّة الموجبة قسم ثا لث يسمّى با لموجبـة السا لبـة المحمول ، وهو : أن يحمل القضيّـة السلبيـة على الموضوع ، مثل قولـه : زيد هو الذي ليس بقائم .
ولايخفى أنّ القضايا الموجبـة على أقسامها الثلاثـة تحتاج إلى وجود
(الصفحة 295)
الموضوع ; فإنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت لـه ، بخلاف القضايا السا لبـة ; فإنّها تصدق مع عدم الموضوع أيضاً ، كما هو واضح .
الرابعـة : اعتبارات موضوع العامّ المخصّص
إذا عرفت ذلك كلّـه ، فاعلم أنّ التخصيص وإن لم يوجب تقييد حكم العامّ بحيث يوجب أن يكون الحكم المنشأ متعلّقاً بغير مورد الخاصّ ، إلاّ أ نّـه يوجب تضييق الموضوع في الإرادة الجدّيـة ، وتخصيصـه بغير مورده ، فقولـه : أكرم العلماء ، بعد تخصيصـه بلا تكرم الفسّاق منهم ، يكون المراد بـه هو إكرام العلماء الغير الفسّاق ، وحينئذ نقول : إنّ أخذ هذا الأمر العدمي في الموضوع يمكن أن يكون نظير القضيـة الموجبـة المعدولـة المحمول بحيث يكون الأمر السلبي محمولاً عليـه ووصفاً لـه ، فيصير الموضوع حينئذ هو إكرام العلماء الموصوفين بغير الفسق ، ويمكن أن يكون نظير القضيّـة الموجبـة السا لبـة المحمول ، فيكون القيد كا لمحمول فيها قضيّـة سا لبـة ، فيصير الموضوع حينئذ هو إكرام العلماء الذين لايكونون فاسقين .
وأمّا احتمال أن يكون أخذ القيد العدمي في المقام نظير القضيّـة السا لبـة المحصّلـة الصادقـة مع عدم الموضوع بحيث يكون الموضوع في المقام هو : العا لم ليس بفاسق ، بحيث لاينافي عدم الموضوع ، فمندفع بأنّ هذا النحو من الموضوع لايعقل أن يكون موضوعاً للأحكام الشرعيـة ، فإنّـه لايعقل إيجاب إكرام العا لم ليس بفاسق الصادق مع عدم العلم أيضاً كما هو واضح .
نعم يمكن أن يؤخذ موضوعـه مفروض الوجود بأن يقال : العا لم الموجود ليس بفاسق ، مثل أن يقال : زيد الموجود ليس بقائم ، فإنّ مع فرض وجود الموضوع ينحصر فرض صدق القضيـة في عدم ثبوت المحمول لـه في الواقع ،
|