(الصفحة 187)
وا لسرّ في ذلك هو : أنّ كلاّ من الأمر والنهي تعلّق بموضوع خارجي ففيما إذا كان التركيب اتّحادياً يلزم أن يتعلّق كلٌّ منهما بعين ما تعلّق بـه الآخر ، وهذا ممّا لاشكّ في استحا لتـه(1) . انتهى ملخّص ما في تقريرات المحقّق النائيني .
وأنت خبير بعدم تماميّـة كلامـه.
أمّا اعتبار كون التركيب اتّحادياً : فلأنّ الوجـه فيـه ـ كما اعترف بـه(قدس سره)ـ هو : أنّ الأمر والنهي إنّما يتعلّق كلّ واحد منهما بموضوع خارجي ، ونحن سنبيّن فساد ذلك مفصّلاً ، فانتظر .
وأمّا كون متعلّق التكا ليف في العناوين التوليديـة هي السبب الذي يتولّد منـه : فقد عرفت سابقاً أ نّـه لا وجـه لصرف الأمر عن المسبّب بعد كونـه مقدوراً ولو مع الواسطـة ; إذ هذا المقدار من المقدوريـة كاف في تصحيح تعلّق التكليف بـه .
فانقدح من جميع ما ذكرنا:
أنّ العامّين من وجـه مطلقاً وكذا العامّين مطلقاً بقسميـه داخل في محلّ النزاع .
التحقيق في جواز الاجتماع
إذا عرفت هذه الاُمور ، فاعلم أنّ الأقوى في المسأ لـة هو القول با لجواز ، وتحقيق ذلك يتمّ برسم مقدّمات :
المقدّمـة الاُولى:
أنّ الحكم الوجوبي أو التحريمي المتعلّق إلى طبيعـة لايسري منها إلى مقارناتـه الوجوديـة وملازماتـه العينيـة ، ضرورة أنّ تعلّق
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 410 ـ 412.
(الصفحة 188)
الحكم بها إنّما هو لأجل الملاك المتحقّق فيها ; إذ لايعقل أن يصدر من الحاكم حكم متعلّق بشيء من دون أن يكون ملاك ذلك الحكم متحقّقاً فيـه .
وهذا نظير الإرادة التكوينيـة المتعلّقـة بالأفعال الخارجيـة ، فإنّـه كما لايعقل تعلّق الإرادة بشيء من دون حصول مبادئها من تصوّر ذلك الشيء والتصديق بفائدتـه وغيرهما فكذلك لايعقل البعث إليـه مثلاً من دون أن يكون فيـه خصوصيـة مقتضيـة لـه وحيثيـة موجبـة لتحقّقـه ، وحينئذ فبعدما كان المفروض أنّ المقارنات الوجوديـة والملازمات العينيـة ممّا لا مدخليـة لها أصلاً في ثبوت الملاك المقتضي للبعث أو الزجر ، ضرورة أ نّـه لو كان كذلك لكانت الطبيعـة متقيّدةً بها متعلّقـة للأمر أو النهي ، والمفروض خلافـه ، فلايبقى مجال لتوهّم سرايـة الحكم من الطبيعـة إليها أصلاً ، كما هو أوضح من أن يخفى .
المقدّمـة الثانيـة:
أنّ معنى الإطلاق ليس عبارة عن لحاظ سريان الحكم إلى جميع الخصوصيات والأفراد بحيث كان معنى قولـه : أعتق رقبـة ، مثلاً راجعاً إلى قولـه : أعتق رقبـة سواء كانت مؤمنـة أو فاسقـة ; لأنّـه ـ مضافاً إلى أ نّـه لو كان معنى الإطلاق ذلك يلزم عدم الفرق بينـه وبين العموم كما لايخفى ـ يرد عليـه : أ نّـه لايعقل أن تكون الطبيعـة مرآةً للخصوصيّات وحاكيةً لها ، ضرورة ثبوت المبائنة بينها وبين تلك الخصوصيات في عا لم المفهوم ، فكيف يمكن أن يكون لفظ الإنسان مثلاً حاكياً عن الطول والقصر مثلاً مع أ نّهما مفهومان متغايران .
فا لتحقيق أنّ لفظ الإنسان لايحكي إلاّ عمّا جعل ذلك اللّفظ موضوعاً بإزائـه ، وهو طبيعـة الإنسانيـة ، بل الإطلاق عبارة عن عدم مدخليـة شيء من القيود في متعلّق الحكم ، فإنّ المتكلّم المختار بعدما فرض كونـه بصدد بيان تمام متعلّق حكمـه ومع ذلك لم يأخذ شيئاً من الخصوصيات ليستكشف العقل أنّ هذا تمام موضوع حكمـه ، ولا مدخليـة لشيء آخر فيـه أصلاً ، ففي الحقيقـة لايكون
(الصفحة 189)
الإطلاق من الدلالات اللفظيـة ، بل من الدلالات العقليـة ، نظير حكم العقل بكون معنى اللّفظ الصادر من المتكلّم المختار مراداً لـه .
وبا لجملـة ، فالإطلاق عبارة عن تماميـة ما جعل متعلّقاً للحكم من حيث كونـه متعلّقاً لـه بمعنى عدم مدخليـة شيء آخر فيـه ، وأين هذا ممّا ذكر من أ نّـه عبارة عن ملاحظـة الشمول والسريان ، وقد عرفت ما فيـه .
وما اشتهر بينهم من أنّ الطبيعـة اللا بشرط يجتمع مع ألف شرط ليس معناه اتّحادها مع الشروط في عا لم المفهوميـة بحيث تكون حاكيةً لها وكاشفةً عنها ، بل معناه عدم إبائها عن اتّحاد بعض المفاهيم الاُخر معها في عا لم الوجود الذي هو جامع العناوين المختلفـة والمفاهيم المتشتّتـة ، وإلاّ فكيف يمكن أن يكشف بعض المفاهيم عن البعض الآخر في عا لم المفهوميـة مع ثبوت الاختلاف بينهما ، كما هو واضح .
المقدّمـة الثالثـة ـ التي هي العمدة في هذا الباب ـ:
أنّ متعلّق التكا ليف والأحكام إنّما هي نفس الطبائع والعناوين ، لا الطبيعـة الموجودة في العين ولا الماهيّـة المتحقّقـة في الذهن ، فاتّصافها بكونها موجودةً في الذهن أو الخارج خارج عن مرحلـة تعلّق الأحكام بها ، نظير سائر الأحكام الطارئـة على الطبائع من الكلّيـة والاشتراك ونحوهما ، ضرورة أنّ الطبيعـة الموجودة في الخارج لايعقل أن تتّصف با لكلّيـة ; لإبائها عن الصدق على الكثيرين ، وكذا الطبيعـة بوصف وجودها في الذهن ، بداهـة أ نّها أيضاً تكون جزئيّاً غير قابل للصدق واتّصافها بوصف الكلّيـة والاشتراك ونحوهما وإن كان في الذهن إلاّ أ نّـه لاينافي ذلك كون المعروض لهما إنّما هي نفس الطبيعـة بلا ملاحظـة وجودها الذهني ، ضرورة أ نّـه بمجرّد تصوّرها يحمل عليـه تلك الأحكام ، ولو كان اتّصافها با لوجود الذهني دخيلاً في هذا الحمل ، لاحتاج إلى تصوّر آخر متعلّقاً با لطبيعـة متقيّدة
(الصفحة 190)
بكونها متصوّرة با لتصوّر الأوّلي ; إذ التصوّر الأوّل إنّما تعلّق بنفس الطبيعـة فقط ، ولايعقل أن يتعلّق بها مع وصف كونها متصوّرةً بهذا التصوّر ، كما هو واضح .
وكيف كان فلا إشكال في كون المعروض لوصف الكلّيـة والاشتراك ونحوهما إنّما هي الطبيعـة المجرّدة عن الوجود العيني والذهني ، وإنّما الإشكال في متعلّق الأحكام وأ نّـه هل متعلّقاتها هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودين وإن كان ظرف التعلّق الذهن ، نظير الكلّيـة المعروضـة لها في الذهن ولكن لم يكن ذلك مأخوذاً على نحو القضيـة الشرطيـة ، بل على نحو القضيـة الحينيّـة ، وإلاّ لما كان يعرض لها بمجرّد تصوّرها ووجودها في الذهن ; إذ لايمكن في هذا اللحاظ تصوّر تعلّق اللحاظ بها أيضاً ، كما هو واضح ، أو أنّ متعلّقات الأحكام هي الطبائع المتّصفـة با لوجود الذهني ، أو أنّ متعلّقاتها هي الطبائع المنصبغـة بصبغـة الوجود الخارجي ؟ وجوه .
وا لتحقيق يقضي بأنّ معروض الأحكام هو بعينـه معروض الكلّيـة والاشتراك ونحوهما من لوازم نفس الماهيّات مع قطع النظر عن الوجودين ، وذلك لأنّـه لو كانت الأحكام متعلّقةً با لطبائع مع اتّصافها بوجودها في الذهن ، لكان امتثا لها ممتنعاً ; إذ لايعقل انطباق الموجود في الذهن بوصف كونـه موجوداً فيـه على الخارج ; لأنّـه أيضاً نظير الموجودات الخارجيـة يكون جزئيّاً ومتشخّصاً ، ولازمـه الإباء عن الصدق ، كما هو واضح .
ولو كانت الأحكام موضوعاتها هي الطبائع الموجودة في الخارج يلزم أن يكون تحقّقها متوقّفاً على وجودها في الخارج ; إذ لايعقل تقدّم الحكم على متعلّقـه ، ومن الواضح أنّ الغرض من البعث مثلاً إنّما هو انبعاث المكلّف بعد العلم بـه وبما يترتّب على مخا لفتـه من استحقاق العقوبـة وعلى موافقتـه من استحقاق المثوبـة ويتحرّك عضلاتـه نحو المبعوث إليـه ، فا لبعث متقدّم على الانبعاث
(الصفحة 191)
المتقدّم على تحقّق المبعوث إليـه ، فكيف يمكن أن يكون متأخّراً عنـه مع استلزام ذلك للّغويـة ; لأنّـه بعد تحقّق المبعوث إليـه المشتمل على المصلحـة التي هي الباعثـة على تعلّق البعث بـه يكون طلبـه تحصيلاً للحاصل في الأوامر ، وبعد تحقّق المزجور عنـه في النواهي يكون الزجر عنـه مستلزماً لطلب أعدام ما هو حاصل بنحو لم يحصل ، وكلاهما مستحيل بداهـة ، ولعمري أنّ سخافـة هذا الاحتمال الذي هو ظاهر بعض الأعلام(1) ممّا لا تكاد تخفى على عاقل فضلاً عن فاضل ، فلم يبق في البين إلاّ الالتزام بكون موضوعات الأحكام هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودين ، والأغراض وإن كانت مترتّبةً على الوجودات الخارجية إلاّ أ نّـه يتوصّل المولى إلى تحصيلها بسبب البعث إلى نفس الطبيعـة ; إذ لايتحقّق الانبعاث منـه ولايحصل موافقتـه إلاّ بإيجاد المبعوث إليـه في الخارج ، والتأمّل في الأوامر العرفيـة الصادرة من الموا لي با لنسبـة إلى عبيدهم يقضي بأنّ المولى في مقام إصدار الأمر لاينظر إلاّ إلى نفس الطبيعـة من دون توجّـه إلى الخصوصيّات المقارنـة لها في الوجود الغير المنفكّـة عنها ، ويبعث العبد نحوها ، غايـة الأمر أنّ تحصيل الموافقـة يتوقّف على إيجاد مطلوب المولى في الخارج وإخراجـه من كتم العدم إلى صفحـة الوجود .
وما اشتهر بينهم من التمسّك بقول أهل المعقول:
الماهيّـة من حيث هي ليست إلاّ هي لا موجودة ولا معدومـة ولا مطلوبـة ولا غير مطلوبـة لإثبات أنّ نفس الماهيّـة مع قطع النظر عن الوجودين لايمكن أن يتعلّق بها الحكم ; لأنّها ليست إلاّ هي ، كما أ نّها لا تكون كلّيـة ; لأنّها من حيث هي لا تكون كلّيةً ولا جزئيةً ، ولذا التجأ بعض المجوّزين في المقام إلى أنّ متعلّق الأحكام إنّما هي
- 1 ـ الفصول الغرويّـة: 126 / السطر 7 ـ 10.