(الصفحة 376)الأمر الثاني
مبحث التجرّي
هل البحث عن التجرّي من المباحث الاُصوليّـة أم لا؟
إنّما الكلام يقع في استحقاق العقوبـة على التجرّي والمثوبـة على الانقياد وعدمـه ، وهل البحث في المقام يكون بحثاً في المسألـة الاُصوليـة ، أو أنّها من المسائل الفقهيـة أو الكلاميـة ؟
لا إشكال في أنّـه إذا قرّر محلّ النزاع ثبوت الحرمـة للتجرّي ، فيقال التجرّي هل هو حرام أو لا ؟ تصير المسألـة فقهيـة محضـة ، كما أنّـه إذا قرّر با لوجـه الذي ذكرنا ، وهو استحقاق العقوبـة على التجرّي وعدمـه تصير مسألـة عقليـة كلاميـة ; لأنّ مرجعـه إلى حسن عقوبـة المولى للمتجرّي وقبحها ، كما لايخفى .
وقد يقال:
بإمكان إدراجها في المسائل الاُصوليـة التي يكون الضابط فيها هو وقوعها كبرى لقياس استنباط الأحكام الكلّيـة الفقهيـة ، أو كونها حجّـة في الفقـه ، وذكر لـه وجوه :
منها:
ما تسا لموا عليـه من أنّ البحث إذا وقع في أنّ ارتكاب الشيء
(الصفحة 377)
ا لمقطوع حرمتـه هل هو قبيح أو لايندرج المسألـة في المسائل الاُصوليـة التي يستدلّ بها على الحكم الشرعي ; وذلك لأنّـه بعد ثبوت القبح يستكشف الحرمـة ; لقاعدة الملازمـة . ومرجع هذا الوجـه إلى أنّ النزاع إنّما هو في قبح التجرّي وعدمـه(1) .
وفيـه ما لايخفى:
ضرورة أنّ قاعدة الملازمـة ـ على تقدير تسليمها ـ إنّما هو في غير المقام ممّا لايكون حكم العقل معلولاً لحكم الشرع ، نظير قبح الظلم ، وأمّا في مثل المقام ممّا يكون حكم العقل واقعاً في سلسلـة المعلولات للأحكام الشرعيـة فلا تجري قاعدة الملازمـة أصلاً . ألا ترى أنّ العقل يحكم بقبح العصيان ولزوم الإطاعـة ، مع أنّـه لو كانت المعصيـة منهياً عنها ، والإطاعـة مأموراً بها من قبل الشارع يلزم النواهي والأوامر الغير المتناهيـة ; ضرورة أنّ لذلك النهي أيضاً عصياناً وإطاعـة ، وللنهي الثا لث أيضاً كذلك ، إلى أن يتسلسل . وقبح التجرّي أيضاً كقبح المعصيـة لايكون مورداً لقاعدة الملازمـة أصلاً .
سلّمنا ذلك ، لكنّـه لايوجب صحّـة إدراج المقام في المسائل الاُصوليـة ; ضرورة أنّ البحث في ثبوت حكم العقل با لقبح إنّما هو بحث صغروي ; إذ بعد ثبوت القبح نحتاج أيضاً إلى ضمّ الكبرى ليستنتج الحكم الشرعي . ووقوع المسألـة في صغرى قياس الاستنباط يخرجها عن كونها مسألـة اُصوليـة ، وإلاّ يلزم دخول كثير من المسائل الخارجـة عنها فيها ، كا لبحث عن كون شيء مقدّمـة للواجب ونظائره ، وهو ممّا لايلتزم بـه أحد ، كما لايخفى .
منها:
ما في تقريرات المحقّق النائيني(قدس سره) من أنّـه لو كان مستند القائل باستحقاق المتجرّي للعقاب هي دعوى أنّ الخطابات الشرعيـة تعمّ صورتي
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 36.
(الصفحة 378)
مصادفـة القطع للواقع ومخا لفتـه ، ويندرج المتجرّي في عموم الخطابات الشرعيـة حقيقـة تصير المسألـة من المباحث الاُصوليـة(1) .
وفيـه ما لايخفى ; فإنّ دعوى إطلاق الخطاب لايوجب اندراج المسألـة في المسائل الاُصوليـة ، فإنّها بحث صغروي مندرج في الفقهيات ; لأنّك قد عرفت أنّ المسائل الاُصوليـة هي الكبريات الواقعـة في قياس استنباط الأحكام الفرعيـة ، كا لبحث عن حجّيـة أصا لـة الإطلاق ، لا البحث عن شمولـه لمورد ، وإلاّ يلزم دخول جلّ المسائل الفقهيـة في الاُصول ، ضرورة أنّـه قلّما يتّفق في مسألـة من المسائل الفقهيـة أن لايقع البحث عن شمول العموم أو الإطلاق با لنسبـة إلى بعض الموضوعات ، كما لايخفى .
هل يمكن عدّ مسألـة التجرّي من المسائل الفقهيـة؟
ثمّ
إنّـه قد استشكل في جعل النزاع في حرمـة التجرّي ; بحيث صار من المسائل الفقهيـة بوجهين :
أحدهما:
ما ذكره في «ا لكفايـة» من أنّ الفعل المتجرّى بـه أو المنقاد بـه بما هو مقطوع الحرمـة أو الوجوب لايكون اختيارياً ، فإنّ القاطع لايقصده إلاّ بما قطع أنّـه عليـه من عنوانـه الواقعي الاستقلالي ، لابعنوانـه الطارئ الآلي ، بل لايكون غا لباً بهذا العنوان ممّا يلتفت إليـه .
فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلاً ، ومن مناطات الوجوب أو الحرمـة شرعاً ، ولايكاد يكون صفـة موجبـة لذلك إلاّ إذا كانت اختياريـة . وزاد في ذيل كلامـه : أنّ المتجرّي قد لايصدر منـه فعل بالاختيار ، كما في التجرّي
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 37.
(الصفحة 379)
بارتكاب ما قطع أنّـه من مصاديق الخمر(1) .
ويرد عليـه:
وضوح إمكان الالتفات إلى العلم ; لأنّـه ليس من العناوين التي لايمكن الالتفات إليها ، كعنوان التجرّي مثلاً ; حيث إنّ التوجّـه والالتفات إليـه يخرج الملتفت عن كونـه متجرّياً ، كما هو واضح . وأمّا العلم ونظائره من العناوين ـ كعنوان القصد ـ فيمكن الالتفات إليـه .
وحينئذ فلا إشكال في اختصاص الخطاب بـه ، فإنّ العا لم با لخمر ـ بعدما التفت إلى أنّ معلومـه بما أنّـه معلوم يكون موضوعاً للحرمـة ـ يتوجّـه با لتوجّـه الثانوي إلى علمـه ، توجّهاً استقلالياً . ويدلّ على ذلك وقوع العلم في الشريعـة متعلّقاً للأحكام كثيراً ، كقولـه(عليه السلام) :
«كلّ شيء طاهر، حتّى تعلم أنّـه قذر»
(2) .
وأمّا ما أفاده في ذيل كلامـه ففساده أظهر من أن يخفى ; ضرورة أنّ شرب المايع في المثال كان اختيارياً لـه بلا إشكال ; ولذا يترتّب عليـه بطلان الصوم ونظائره ، كما لايخفى .
ثانيهما:
ما في تقريرات المحقّق المتقدّم من أنّ توجيـه الخطاب بمثل «لاتشرب معلوم الخمريـة» مستلزم لاجتماع المثلين في نظر العا لم دائماً ، وإن لم يلزم ذلك واقعاً ; لأنّ النسبـة بين الخمر الواقعي والخمر المعلوم هي العموم من وجـه ، وفي مادّة الاجتماع يتأكّد الحكمان ، كما في مثل «أكرم العا لم ، وأكرم الهاشمي» إلاّ أنّـه في نظر العا لم دائماً يلزم اجتماع المثلين ; لأنّ العا لم لايحتمل المخا لفـة ، ودائماً يرى مصادفـة علمـه للواقع ، فدائماً يجتمع في نظره حكمان .
ولايصلح كلّ من هذين الحكمين لأن يكون داعياً ومحرّكاً لإرادة العبد
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 299 ـ 302.
- 2 ـ تهذيب الأحكام 1: 284 / 832، وسائل الشيعـة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
(الصفحة 380)
بحيال ذاتـه ، فإنّـه لو فرض أنّ للخمر حكماً ، ولمعلوم الخمريـة أيضاً حكماً فبمجرّد العلم بخمريـة شيء يعلم بوجوب الاجتناب عنـه ، الذي فرض أنّـه رتّب على ذات الخمر ، فيكون هو المحرّك والباعث للاجتناب ، والحكم الآخر المترتّب على معلوم الخمريـة لايصلح لأن يكون باعثاً ، ويلزم لغويتـه . وليس لـه مورد آخر يمكن استقلالـه في الباعثيـة ، فإنّ العلم با لخمريـة دائماً ملازم للعلم بوجوب الاجتناب عنـه ، المترتّب على الخمر الواقعي ، وذلك واضح بعدما كان العا لم لايحتمل المخا لفـة . فتوجيـه خطاب آخر على معلوم الخمريـة لايصحّ(1) . انتهى .
وفيـه ما لايخفى;
لأنّ تعلّق الحكمين با لخمر الواقعي وبمعلوم الخمريـة لايكاد يكون مستلزماً لاجتماع المثلين ، بعد وضوح كون النسبـة بين المتعلّقين هي العموم من وجـه . ومجرّد اجتماعهما في نظر القاطع لايوجب اجتماع المثلين عنده ، بعد ثبوت الاختلاف بين المفهومين في نظر القاطع أيضاً ; لأنّـه لايرى إلاّ مصادفـة قطعـه للواقع ، وهذا لايستلزم اتحاد المفهومين في عا لم المفهوميـة ، الذي هو عا لم تعلّق الأحكام ، كما حقّقناه في المباحث السابقـة بما لا مزيد عليـه .
مضافاً إلى أنّ الحكم لاينحصر بهذا القاطع ; ضرورة اشتراك الكلّ في الأحكام ، فهذا القاطع ـ مع أنّـه يرى مصادفـة قطعـه للواقع ، المستلزمـة لاجتماع المثلين عنده ، بناءً على ما ذكره(قدس سره) ـ يحتمل الخطأ با لنسبـة إلى القاطع الآخر ، فلم يجتمع الحكمان با لنسبـة إليـه في نظر هذا القاطع ، كما هو واضح .
وأمّا ما ذكره من عدم صلاحيـة كلّ من الحكمين لأن يكون داعياً ومحرّكاً فيرد عليـه وضوح أنّ المكلّف قد لاينبعث بأمر واحد ، وينبعث بأمرين أو أكثر .
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 45 ـ 46.