(الصفحة 265)الأمر الثالث: في استغناء العامّ عن مقدّمات الحكمـة
ثمّ إنّ هنا إشكالاً ، وهو أ نّـه ليس لنا لفظ عام يدلّ على العموم مع قطع النظر عن جريان مقدّمات الحكمـة ، ضرورة أنّ كلمـة «كلّ» لا تدلّ إلاّ على استيعاب أفراد مدخولـه ، وأمّا أنّ مدخولـه مطلق أو مقيّد فلايستفاد منها أصلاً ، فإنّها تابعـة لمدخولها ، فإن اُخذ مطلقاً ، فهي تدلّ على تمام أفراد المطلق ، وإن اُخذ مقيّداً ، فهي تدلّ على جميع أفراد المقيّد ، فاستفادة العموم با لنسبـة إلى جميع أفراد المطلق موقوفـة على إحراز كون المدخول مطلقاً ، وذلك يتوقّف على إجراء مقدّمات الحكمـة ، كما هو واضح .
وقد أجاب عنـه في الدّرر(1) بما لايرجع إلى محصّل .
وا لتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ مقدّمات الحكمـة حيث تجري تكون نتيجتها إثبات الإطلاق في موضوع الحكم بمعنى أنّ تمام الموضوع لحكمـه المجعول إنّما هي الطبيعـة معرّاة عن جميع القيود ، وذلك حيث يكون الأمر دائراً بين كون الموضوع هي نفس الطبيعـة أو هي مقيّدة ، وأمّا في أمثال المقام ممّا لايكون الموضوع هو الطبيعـة بل أفرادها ـ كما فيما نحن فيـه ـ فلا مجال لإجراء المقدّمات في مدخول ألفاظ العموم بعد وضوح أنّ الموضوع ليس هو المدخول ، بل هو مع مضمون تلك الألفاظ الدالّـة على استيعاب الأفراد .
نعم بعبارة اُخرى نقول : التعبير بلفظ العموم الذي يدلّ على الاستيعاب ظاهر في كون المتكلّم متعرّضاً لبيان موضوع حكمـه ، والتعرّض ينافي الإهمال ،
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 210 ـ 211.
(الصفحة 266)
وحينئذ فا لشكّ في كون الموضوع هو جميع أفراد الرجل مثلاً أو أفراد الرجل العا لم ينشأ من احتمال الخطأ في عدم ذكر القيد ، وهو مدفوع بالأصل .
وبا لجملـة ، فمجرى المقدّمات هو ما إذا دار الأمر بين الإهمال وغيره ، وفي المقام لا مجال لاحتمال الإهمال بعد كون المتكلّم متعرّضاً لبيان الموضوع ، وأ نّـه هو جميع الأفراد ; إذ بعد دلالـة الكلام على هذه الجهـة يكون لا محا لـة الشكّ في سعـة الموضوع وضيقـه ، مستنداً إلى احتمال الخطأ في عدم ذكر القيد ، وقد عرفت أ نّـه مدفوع بالأصل العقلائي الذي يقتضي العدم ، فظهر أنّ دلالـة مثل لفظـة «كلّ» على العموم لا تحتاج إلى مقدّمات الحكمـة أصلاً ، فتأمّل فإنّـه دقيق .
الأمر الرابع: في أقسام العموم
ثمّ إنّ للعموم أقساماً من الاستغراقي والمجموعي والبدلي ، والمراد بالأوّل هو الشمول لجميع الأفراد بلا لحاظ الوحدة بينهما ، وبا لثاني هو جميعها مع ملاحظـة كونها شيئاً واحداً ، وبا لثا لث هو الشمول بحيث يكتفى بواحد منها في مقام الامتثال .
وا لظاهر أنّ كلمـة «كلّ» ونظائرها تدلّ على العموم الاستغراقي ، ولعلّ كلمـة المجموع دالّـة على المجموعي .
وا لظاهر أيضاً أنّ كلمـة «أيّ» ونظائرها تدلّ على البدلي .
ولايخفى أنّ هذه الأقسام الثلاثـة ثابتـة للموضوع مع قطع النظر عن تعلّق الحكم بـه ، كما يشهد بمراجعـة العرف ، فإنّـه لو سمع أحد منهم «كلّ رجل» مثلاً لايفهم منـه إلاّ العموم الاستغراقي ولو لم يعلم حكم ذلك الموضوع فضلاً عن كيفيّـة تعلّقـه بـه .
(الصفحة 267)
فما ذكره صاحب الكفايـة ـ وتبعـه بعض من أجلاّء تلامذتـه(1)ـ من أنّ هذه ا لأقسام إنّما هي بلحاظ كيفيّـة تعلّق الأحكام ، وإلاّ فا لعموم في الجميع بمعنى واحد وهو الشمول ، ممّا لايصحّ أصلاً ; فإنّ الجمع بين ذلك وبين كون كلّ واحد منها مدلولاً عليـه بلفظ غير ما يدلّ على الآخر ـ كما اعترف في حاشيـة الكفايـة(2)ـ مستبعد جدّاً ; فإنّ دلالـة الألفاظ على ما وُضعت بإزائها لايرتبط بباب تعلّق الأحكام أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .
ثمّ إنّ هذا التقسيم لايجري في باب الإطلاق أصلاً ; ضرورة أنّ معنى الإطلاق هو مجرّد كون المذكور تمام الموضوع لحكمـه المجعول بلا مدخليّـة لشيء آخر ، فقولـه : جئني برجل ، لايفيد إلاّ مجرّد كون الغرض مترتّباً على مجيء الرجل ، وأمّا شمولـه لجميع ما يصدق عليـه والتخيير بينـه فهو حكم عقلي مترتّب على تعلّق الحكم بنفس الطبيعـة ، لا أ نّـه يستفاد من الكلام هذا النحو من الإطلاق .
وا لدليل على ذلك أ نّـه لو كان المستفاد من الكلام الإطلاق الذي يسمّونـه بالإطلاق البدلي ، لكان قولـه بعد هذا الكلام : «أيّ رجل» تأكيداً لاستفادة مضمونـه من قولـه : جئني برجل ، مع أ نّـه ليس كذلك بداهـة ، بل إنّما هو تصريح بما يحكم بـه العقل بعد تعلّق الحكم بنفس الطبيعـة من التخيير بين أفرادها .
ولايتوهّم أ نّـه تصريح بالإطلاق ; فإنّ معنى التصريح بـه هو أن نقول : إنّ تمام الموضوع الحكمي هو الرجل مثلاً من دون قيد لا أن نقول بما يحكم بـه العقل بعد استفادة الإطلاق ، فتدبّر .
- 1 ـ مقالات الاُصول 1: 430.
- 2 ـ كفايـة الاُصول: 253.
(الصفحة 268)الأمر الخامس: فيما عدّ من الألفاظ الدالّـة على العموم
قد عدّ من الألفاظ الدالّـة على العموم : النكرة في سياق النفي ، أو النهي ، وكذا اسم الجنس الواقع في سياق أحدهما ، بتقريب أ نّـه لا تكاد تكون الطبيعـة معدومـة إلاّ إذا كانت معدومةً بجميع أفرادها ، وإلاّ فهي موجودة ، وظاهره تسليم أ نّـه لايدلّ على العموم لفظاً ، وهو كذلك ، ضرورة أنّ قولـه : ليس رجل في الدار ، لايكون شيء من ألفاظـه دالاّ على العموم ، فإنّ كلمـة النفي موضوعـة لنفي مدخولـه ، ورجل يدلّ على نفس الطبيعـة ، وتنوينـه المسمّى بتنوين التنكير يدلّ على تقيّد الطبيعـة با لوحدة اللاّبعينها ، وتوهّم ثبوت الوضع لمجموع الجملـة ممّا لاينبغي أن يصغى إليـه ، فا للّفظ لايدلّ على العموم أصلاً .
وأمّا دلالتـه عليـه عقلاً فقد عرفت سابقاً من أنّ ما اشتهر بينهم من وجود الطبيعـة بوجود فرد مّا وانعدامها بانعدام جميع الأفراد خلاف حكم العقل ; فإنّ الطبيعـة كما توجد بوجود فرد كذلك تنعدم بانعدام فردمّا ، ولاينافي انعدامها وجودها بوجود فرد آخر ، ولايلزم التناقض ; لأنّها متكثّرة حسب تكثّر الأفراد . نعم هو مقتضى حكم العرف لا العقل .
هذا ، ولكن لايخفى أنّ دلالتـه عليـه مبنيـة على كونها مأخوذةً بنحو الإرسال ، وأمّا إذا اُخذت مبهمةً قابلة للتقييد ، فلايستفاد منـه العموم .
ومن هنا تعرف أنّ عدّ النكرة الكذائيـة من جملـة ألفاظ العموم ممّا لايصحّ ، بل غايتـه الدلالـة على الإطلاق بعد جريان مقدّمات الحكمـة في مدخول النفي وضمّ حكم العرف ، كما لايخفى .
وهكذا الحال في المفرد المعرّف با للاّم ، فإنّ توهّم دلالتـه على العموم وضعاً مندفع بوضوح الفرق بين قولـه :
(أحلّ اللّـه البيع) وقولـه : أحلّ اللّـه كلّ
(الصفحة 269)
بيع ، بل لايدلّ إلاّ على الإطلاق بعد جريان المقدّمات ، فهو أيضاً لايكون من الألفاظ الدالّـة على العموم .
وأمّا الجمع المحلّى با للاّم : فا لظاهر أنّ دلالتـه على العموم بحسب الوضع ممّا لا إشكال فيـه ، إلاّ أنّ الكلام في كون مدلولـه هل هو العموم الاستغراقي أو المجموعي ؟ قد يقال با لثاني ; نظراً إلى أنّ مدخول اللاّم هو الجمع ، وهو لاينطبق على كلّ فرد فرد بل على جماعـة جماعـة من الثلاثـة فما فوق وغايـة ما يستفاد من اللاّم هو أقصى مراتب الجمع مع حفظ معنى الجمعيـة .
هذا ، ولكن لايخفى أنّ الجمع كعلماء مثلاً لايدلّ على كون أفراد العا لم ملحوظاً بنحو الاجتماع ، فالألف واللاّم التي يرد عليـه لايقتضي إلاّ استغراق أفراد العا لم بلا ملاحظـة الوحدة بينهما أصلاً ، ومن هنا تعرف أنّ ما أجاب بـه المحقّق النائيني على ما في التقريرات لايتمّ أصلاً ، فراجع .