(الصفحة 356)الفصل الرابع
في أقسام المطلق والمقيّد وكيفيّة الجمع بينهما
إذا ورد مطلق ومقيّد متنافيان بأن علم وحدة التكليف إمّا من ناحيـة وحدة السبب أو من جهـة القرائن الاُخر ، فإمّا أن يكونا مختلفين في الإثبات والنفي ، وإمّا أن يكونا متوافقين مثبتين أو منفيّين ، وعلى أيّ تقدير فإمّا أن يقعا في كلام واحد أو في كلامين .
فيقع الكلام في مقامين :
المقام الأوّل: إذا ورد مطلق ومقيّد بدون ذكر السبب
وهو مشتمل على صور :
الصورة الاُولى:
ما إذا كانا مختلفين فلا إشكال في لزوم حمل المطلق على المقيّد فيما إذا كان المطلق متعلّقاً للنهي ، والمقيّد متعلّقاً للأمر ، مثل قولـه : لا تعتق رقبـة ، وأعتق رقبـة مؤمنـة ، بناء على أن لا تكون النكرة في سياق النهي مفيدةً للعموم ، كما عرفت أ نّـه الحقّ ، وهذا لا فرق فيـه بين أن يكون النهي المتعلّق با لمطلق تحريميّاً أو تنزيهيّاً ، فإنّ مرجوحيّـة عتق مطلق الرقبـة لا تجتمع مع
(الصفحة 357)
وجوب عتق بعض أصنافها ، فلابدّ من التصرّف في المطلق بحملـه على المقيّد .
وأمّا لو كان المطلق متعلّقاً للأمر والمقيّد للنهي ، مثل قولـه : أعتق رقبـة ، ولا تعتق رقبـة كافرة ، فلو كان النهي تحريميّاً ، فلا إشكال أيضاً في وجوب حمل المطلق على المقيّد ، كما أ نّـه لو كان تنزيهيّاً لا إشكال في عدم لزوم حملـه عليـه ; لعدم التنافي بينهما ، كما لايخفى .
وأمّا لو تردّد الأمر بين أن يكون تحريميّاً أو تنزيهيّاً ، فيدور الأمر بين التصرّف في المطلق بحملـه على المقيّد ، وبين أن يكون الترخيص الناشئ من قِبَل الإطلاق قرينةً على كون المراد با لنهي هو التنزيهي منـه ; إذ قد حقّقنا سابقاً أنّ الموضوع لـه في باب النواهي هو الزجر عن المنهي عنـه الذي قد تفيده الإشارة با ليد أو بغيرها ، وهو أعمّ من أن يكون ناشئاً عن الإرادة الحتميـة أو غيرها ، ولزوم تركـه في الموارد الخا ليـة عن القرينـة إنّما هو لحكم العقل بصحّـة الاحتجاج على العبد ، لا لكشفـه عن الإرادة الحتميّـة ، كما هو الشأن في باب الأوامر أيضاً على ما حقّقناه سابقاً ، وحينئذ فيمكن أن يكون الترخيص المستفاد من الإطلاق قرينةً على كون المراد هو النهي التنزيهي .
وكيف كان فالأمر دائر بين الوجهين .
ويحتمل وجـه ثا لث ، وهو أن يقال بتعدّد التكليف واختلاف متعلّقـه بالإطلاق والتقييد .
وهذا الاحتمال مبنيّ على القول بدخول المطلق والمقيّد في محلّ النزاع في باب اجتماع الأمر والنهي ، والقول با لجواز فيـه ، ونحن وإن اخترنا الجواز إلاّ أنّ دخول المقام في محلّ النزاع في ذلك الباب محلّ نظر بل منع ، كما ستجيء الإشارة إليـه .
مضافاً إلى أنّ النزاع هنا في الجمع العرفي بين المطلق والمقيّد ، والنزاع في
(الصفحة 358)
تلك المسأ لـة عقليّ ، فحكم العقل بجواز الاجتماع فيها نظراً إلى تغاير المتعلّقين لايجدي با لنسبـة إلى المقام ، كما لايخفى ، فالأمر لايتجاوز عن الوجهين المتقدّمين .
ولايبعد أن يقال:
بأنّ التصرّف في المطلق بحملـه على المقيّد أرجح بنظر العرف الذي هو الملاك في المقام ; لأنّـه لاينسبق إلى أذهانهم الجمع با لتصرّف في الحكم في ناحيـة المقيّد ، وحملـه على التنزيهي ، لا لكون ظهوره في النهي التحريمي أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق ، كيف وقد عرفت عدم ظهور النواهي في الزجر الناشئ عن الإرادة الحتميّـة ، بل لأنّ أخذ الإطلاق حيث لايكون مستنداً إلى الظهور الوضعي ، بل الوجـه فيـه مجرّد بنائهم عليـه فيما إذا لم يذكر القيد ، فمع ذكره ولو منفصلاً كأ نّهم يرفعون اليد عن بنائهم ، ويقتصرون في ذلك على ما إذا لم يذكر القيد أصلاً ، كما هو الوجـه في حمل المطلق على المقيّد في المواضع المسلّمـة ، فإنّ التصرّف فيـه ليس لأجل أظهريّـة المقيّد في دخا لـة القيد أو كونـه بياناً لـه ، بل لما عرفت من أنّ بناءهم على الأخذ بالإطلاق إنّما هو فيما إذا لم يذكر القيد أصلاً ; فهو دليل حيث لا دليل ، كما لايخفى .
الصورة الثانيـة:
ما إذا كانا متوافقين : فكذلك فيما لو وقعا في كلام واحد ، بل ليس هذا من باب حمل المطلق على المقيّد ; لأنّ مع ذكره متّصلاً لايكون هنا ظهور في الإطلاق ; إذ المقتضى لـه هو تجرّد المعنى المذكور عن القيد ، ومع الإتيان بـه متّصلاً لا مجال لهذا الاقتضاء ، كما هو واضح .
وأمّا لو وقعا في كلامين ، فا لمشهور أيضاً على الحمل والتقييد ; لأنّـه جمع بين الدليلين ، وهو أولى .
وقد اُورد عليـه بإمكان الجمع على وجـه آخر ، مثل حمل الأمر في المقيّد على الاستحباب(1) .
- 1 ـ قوانين الاُصول 1: 325 / السطر 6.
(الصفحة 359)
وربّما يفصّل ـ كما في الدّرر ـ:
بين ما إذا كان إحراز وحدة التكليف من ناحيـة وحدة السبب وبين غيره ، وهو ما إذا كان إحرازها من جهـة القرائن الاُخر بوجوب الحمل والتقييد في مثل الأوّل ، وتحقّق الإجمال في الثاني .
أمّا ثبوت الإجمال في الأخير : فلأنّ الأمر يدور بين حمل الأمر المتعلّق با لمطلق على ظاهره من الوجوب والإطلاق والتصرّف في أمر المقيّد إمّا هيئةً بحملـه على الاستحباب ، وإمّا مادّةً برفع اليد عن ظاهر القيد من دخلـه في الموضوع ، وجعلـه إشارة إلى الفضيلـة الكائنـة في المقيّد ، وبين حمل المطلق على المقيّد ، ولا ترجيح لأحد الوجهين على الآخر .
وأمّا تعيّن التقييد في الأوّل ; لأنّـه لا وجـه للتصرّف في المقيّد بأحد النحوين المذكورين ، فإنّ السبب لو كان علّةً لوجوب المطلق فلايعقل أن يكون علّةً لوجوب المقيّد أو استحبابـه ; لأنّ استناد المتبائنين إلى علّـة واحدة غير معقول(1) .
أقول:
لايبعد أن يقال بترجيح التقييد في الفرض الثاني على التصرّف في المقيّد بأحد الوجهين عند العقلاء في أكثر الموارد .
نعم قد يبلغ الإطلاق من القوّة إلى حدّ لايمكن رفع اليد عنـه بمجرّد ظهور الأمر المتعلّق با لمقيّد في الوجوب ، كما لايخفى .
ثمّ إنّـه اختار المحقّق النائيني
ـ على ما في التقريرات ـ وجوب الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيّد مطلقاً من غير فرق بين كون ظهور الأمر في المطلق أقوى في الإطلاق من ظهور الأمر في المقيّد في التقييد أو أضعف .
قال في بيانـه ما ملخّصـه : أنّ الأمر في المقيّد يكون بمنزلـة القرينـة على
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 236 ـ 237.
(الصفحة 360)
ما هو المراد من الأمر في المطلق ، والأصل الجاري في ناحيـة القرينـة يكون حاكماً على الأصل الجاري في ناحيـة ذيها .
أمّا كونـه بمنزلـة القرينـة : فلأنّـه وإن لم يتحصّل لنا بعدُ ضابط كلّي في المائز بين القرينـة وذيها إلاّ أنّ ملحقات الكلام من الصفـة والحال والتميز بل المفاعيل تكون غا لباً بل دائماً قرينـة على أركان الكلام من المبتدأ والخبر والفعل والفاعل .
نعم في خصوص المفعول بـه مع الفعل قد يتردّد الأمر بينهما في أنّ أيّاً منهما قرينـة والآخر ذو القرينـة ، كما في قولـه : لا تنقض اليقين با لشكّ ، فإنّـه كما يمكن أن يكون عموم اليقين قرينةً على المراد من النقض الظاهر في تعلّقـه بما لَـه اقتضاء البقاء كذلك يمكن العكس .
ومن هنا وقع الكلام في حجّيـة الاستصحاب في الشكّ في المقتضي .
وأمّا كون الأصل الجاري في القرينـة حاكماً على الأصل الجاري في ذيها من غير ملاحظـة أقوى الظهورين : فلأنّ الشكّ في المراد من ذي القرينـة يكون مسبّباً عن الشكّ فيها ، فإنّ الشكّ في المراد من الأسد في قولـه : رأيت أسداً يرمي ، يكون مسبّباً عن الشكّ في المراد من «يرمي» وظهوره في رمي النبل للانصراف مقدّم على ظهور الأسد في الحيوان المفترس وإن كان با لوضع ; لأنّـه رافع لـه ، فلايبقى للأسد ظهور في معناه الحقيقي حتّى يدلّ بلازمـه على المراد من الرّمي .
وإذ قد عرفت ذلك:
ظهر لك أنّ المقيّد يكون بمنزلـة القرينـة با لنسبـة إلى المطلق ; لأنّ القيد نوعاً يكون من ملحقات الكلام ، وقد تقدّم أ نّها تكون قرينةً .
هذا إذا كان القيد متّصلاً ، وأمّا إذا كان منفصلاً ، فتمييز كونـه قرينةً أو معارضاً هو أن يفرض متّصلاً في كلام واحد ، فإن ناقض صدر الكلام ذيلـه ، يكون معارضاً ، وإلاّ قرينـة ، فلا فرق بين المتّصل والمنفصل سوى أنّ الأوّل يوجب عدم