(الصفحة 218)
صحّتها ، كما لايخفى .
فلابدّ من التأويل بجعل الترخيص ترخيصاً في أصل العبادة ، أو يقال بكون النهي إرشاداً إلى أقلّيـة الثواب ، إلاّ أنّ ذلك خروج عن محلّ البحث ; لأنّ المفروض كون النهي تنزيهيّاً متعلّقاً بذات العبادة .
هذا في النواهي النفسيـة ، وأمّا النواهي الغيريـة كا لنهي عن الصلاة الناشئ من قِبَل الأمر بالإزا لـة بناءً على اقتضاء الأمر با لشيء للنهي عن ضدّه ، فلايخفى أ نّها لا تستلزم الفساد ; لعدم كون متعلّقها مبغوضاً أصلاً ، فلا مانع من صحّتها مع وجود الملاك فيها ، والاكتفاء بـه في صحّـة العبادة ، كما عرفت .
وتوهّم أنّ الآتي با لصلاة دون الإزا لة يكون متجرّياً والتجرّي يوجب بطلان عبادتـه ; لأنّـه لايقبل عبادة المتجرّي ، مدفوع : بأنّ التجرّي إنّما هو بسبب عدم فعل الإزا لـة ، لا فعل الصلاة ، ولايعقل سرايـة التجرّي منـه إليـه ، كما هو واضح .
المقام الثاني
في اقتضاء النهي للفساد في المعاملات وعدمـه
وفيـه أيضاً جهتان من الكلام :
الجهـة الاُولى:
في دلالـة النهي على الفساد ، بمعنى أ نّـه لو ورد نهي متعلّق بمعاملـة ، ولم يحرز كونـه مولويّاً تحريميّاً أو تنزيهيّاً أو إرشادياً فهل ، ظاهرها الأخير بمعنى كونـه للإرشاد إلى الفساد أم لا ؟
وا لتحقيق هو الأوّل ; لأنّ المعاملـة كا لبيع مثلاً يتضمّن جهات ثلاثـة :
الاُولى:
هي نفس الألفاظ الصادرة من المتعاقدين ، كبعتُ واشتريتُ مثلاً .
الثانيـة:
ماهومدلول تلك الألفاظ ، وهوفعل تسبيبي للإنسان ، كا لنقل والانتقال .
(الصفحة 219)
الثالثـة:
الآثار المترتّبـة عليها المرغوبـة منها ، كجواز التصرّف بالأكل والشرب واللّبس مثلاً ، ومن المعلوم أنّ غرض العقلاء هو الأمر الأخير ، أي ترتيب الآثار المطلوبـة ، فا لشارع من حيث إنّـه مقنّن للقوانين التي بها ينتظم اُمور الناس من حيث المعاش والمعاد ، فإذا نهى عن معاملـة ، فا لظاهر أ نّـه لايترتّب عليها الآثار المترقّبـة منها ، بمعنى أنّ النهي إرشاد إلى فساد تلك المعاملـة ، كما هو الظاهر بنظر العرف .
الجهـة الثانيـة:
في الملازمـة بين الحرمـة والفساد في المعاملات ، بمعنى أ نّـه لو اُحرز كون النهي للتحريم ، فهل يلازم ذلك فساد المعاملـة أو لا ؟
فنقول : إنّ النواهي الواردة في المعاملات على أنحاء :
أحدها:
أن يكون النهي متعلّقاً بنفس ألفاظها من حيث إنّها فعل اختياري مباشري ، فيصير التلفّظ بها من المحرّمات ، كشرب الخمر ، ولاريب في عدم الملازمـة بين حرمـة التلفّظ وفساد المعاملـة أصلاً ; فإنّ المعصيـة لا تنافي ترتيب الأثر .
ألا ترى أنّ إتلاف مال الغير حرام بلا إشكال ، ومع ذلك يؤثّر في الضمان .
ثانيها:
أن يكون مدلول النهي هو إيجاد السبب من حيث إنّـه يوجب وجود المسبّب . وبعبارة اُخرى : يكون المبغوض هو ما يتحصّل من المعاملـة ، وتؤثّر تلك الألفاظ في وجودها ، كما في النهي عن بيع المسلم للكافر ; فإنّ المبغوض فيـه هو سلطنـة الكافر على المسلم ، وفي هذا النحو يمكن أن يقال بعدم ثبوت الملازمـة بين الحرمـة والفساد ، إذ لا مانع من صحّـة البيع ، إلاّ أ نّـه ذكر في تقريرات الشيخ(قدس سره) أنّ ذلك إنّما يستقيم فيما إذا قلنا بأنّ الأسباب الناقلـة إنّما هي مؤثّرات عقليـة قد اطّلع عليها الشارع ، وبيّنها لنا من دون تصرّف زائد ، وأمّا على القول بأنّ هذه أسباب شرعيـة إنّما وضعها الشارع وجعلها مؤثّرةً في الآثار المطلوبـة عنها ،
(الصفحة 220)
فلابدّ من القول بدلالـة النهي على الفساد ، فإنّ من البعيد في الغايـة جعل السبب فيما إذا كان وجود المسبّب مبغوضاً(1) . انتهى .
ولكن لايخفى أنّ هنا احتمالاً آخر ، وهو : أن تكون الأسباب الناقلـة مؤثّرات عقلائيـة ، والشارع قد أمضاها ، وهو أقوى من الاحتما لين اللّذين ذكرهما في كلامـه ، ومعـه يمكن صحّـة المعاملـة مع كونها محرّمـة .
وتوهّم أ نّـه كما يكون من البعيد جعل السبب ابتداء مع مبغوضيّـة المسبّب كذلك من البعيد إمضاء السبب العقلائي مع مبغوضيّـة مسبّبـه ، مدفوع : بأنّ ذلك إنّما يستقيم لو تعلّق الإمضاء بها بخصوصها ، وأمّا لو كان الدليل العامّ كقولـه :
(أوفوا بالعقود): متضمّناً لإمضاء جميع العقود العقلائيـة ، فيرتفع البُعْد ، كما لايخفى .
ثالثها:
أن يكون مدلول النهي هو التسبّب بأ لفاظ معاملـة خاصّـة إلى المسبّب ، بمعنى أ نّـه لايكون السبب ولا المسبّب من حيث أنفسهما حراماً ، ولكن المحرّم هو التوصّل إلى وجود المسبّب من ناحيـة خصوص هذا السبب ، ولايخفى عدم الملازمـة في هذا القسم أيضاً لو لم نقل بدلالـة النهي على الصحّـة من حيث إنّ متعلّق النهي لابدّ وأن يكون مقدوراً للمكلّف بعد تعلّق النهي ، فلو كانت المعاملـة فاسدةً ، لم يكن التوصّل با لمسبّب من طريق هذا السبب مقدوراً للمكلّف بعد النهي حتّى يتعلّق بـه ، وقد يعدّ باب الظهار من هذا القسم ; نظراً إلى أنّ السبب ـ وهو التلفّظ بأ لفاظـه ـ من حيث هو لايكون محرّماً ، وكذا المسبّب ـ وهي المفارقـة بين الزوجين والبينونـة بينهما ـ لايكون مبغوضاً أيضاً ; لتحقّقها في الطلاق ، بل المحرّم هو التوصّل إلى ذلك من طريق ألفاظ الظهار .
- 1 ـ مطارح الأنظار: 163 / السطر 33.
(الصفحة 221)
ثمّ إنّ الوجـه الذي ذكرنا في دلالـة النهي على الصحّـة في هذا القسم يجري في القسم الثاني أيضاً ، فلا تغفل .
رابعها:
أن يكون النهي متعلّقاً بالآثار المترتّبـة على المعاملـة ، كا لنهي عن أكل الثمن فيما إذا كان عن الكلب والخنزير ، والنهي في هذا القسم يدلّ على الفساد ; لكشف تحريم الثمن عن فسادها ; إذ لايكاد يحرم مع صحّتها ، كما لايخفى .
ثمّ إنّ هذا كلّـه فيما لو علم تعلّق النهي بواحد معيّن من الأقسام الأربعـة المتقدّمـة ، وأمّا لو اُحرز كون النهي للتحريم ولكن لم يعلم متعلّقـه وأ نّـه هل هو من قبيل القسم الأوّل أو من قبيل سائر الأقسام ؟ فا لظاهر كونـه من قبيل القسم الأخير ; لأنّـه هو المقصود من المعاملـة ، فا لنهي يتوجّـه إليـه ، وقد عرفت كشفـه عن فسادها .
فتحصّل ممّا ذكرنا:
أنّ النهي المتعلّق با لمعاملـة من دون قرينـة يدلّ على فسادها إمّا لكونـه إرشاداً إلى فسادها ، كما عرفت أ نّـه الظاهر منـه ، وإمّا لكونـه يدلّ على حرمـة الآثار ، وهي ملازمـة للفساد ، فتأمّل جيّداً .
حول الروايات التي استدلّ بها لدلالـة النهي على الفساد
بقي الكلام فيما يستدلّ بـه من الأخبار على دلالـة النهي على الفساد في المعاملات شرعاً :
منها:
ما رواه في الكافي والفقيـه عن زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : سأ لتـه عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده ، فقال :
«ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما» .
قلت : أصلحك اللّـه إنّ الحكم بن عيينـة وإبراهيم النخعي وأصحابهما
(الصفحة 222)
يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ولا تحلّ إجازة السيّد لـه .
فقال أبو جعفر(عليه السلام) :
«انّـه لم يعص اللّـه، إنّما عصى سيّده، فإذا أجازه فهو لـه جائز»(1) حيث إنّ ظاهره أنّ النكاح لو كان ممّا حرّمـه عليـه لكان فاسداً .
وذكر في تقريرات الشيخ في توجيـه الاستدلال با لروايـة ما حاصلـه : أ نّـه إنّما فرّع في الروايـة الصحّـة والفساد على معصيـة اللّـه وعدمها ، وهو يحتمل وجهين :
الأوّل:
أن تكون المعاملـة معصيةً للّـه من حيث إنّـه فعل من أفعال المكلّف مع قطع النظر عن كونـه معاملةً مؤثّرة .
الثاني:
أن تكون معصيةً من حيث إنّها منهيّ عنها بما أ نّها موجبة لترتّب الآثار المطلوبـة .
لا سبيل إلى الأوّل ; فإنّ عصيان السيّد أيضاً عصيان اللّـه ، فلابدّ من المصير إلى الثاني ، وهو يفيد المطلوب ، فإنّـه يستفاد من التفريع المذكور أنّ المعاملـة التي فيها معصيـة اللّـه فاسدة .
وبا لجملـة ، المطلوب في المقام هو أنّ النهي المتعلّق با لسبب بما أ نّـه فعل من الأفعال لايقتضي الفساد ، والنهي عنـه بما أ نّـه سبب مؤثّر يقتضي الفساد ، والروايـة متضمّنـة بل صريحـة في حكم كلا الجزءين :
أمّا الجزء الأوّل:
فيستفاد من قولـه :
«وإنّما عصى سيّده» المستلزم لعصيان اللّـه ، لا من حيث إنّها موجبـة للآثار المطلوبـة ; فإنّ عصيان اللّـه من جهـة عصيان السيّد لايعقل كونـه من جهـة الترتّب .
- 1 ـ الكافي 5: 478 / 3، الفقيـه 3: 350 / 1675، وسائل الشيعـة 21: 114، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 24، الحديث 1.