(الصفحة 59)
الأمر السادس
في الواجب النفسي والغيري
وا لكلام فيـه يقع في مقامين :
الأوّل:
في الإرادة المتعلّقـة بالأفعال أعمّ من إرادة الفاعل ، والأمر .
الثاني:
في البعث الصادر منـه .
أمّا الكلام في المقام الأوّل:
فملخّصـه أنّ إرادة الفاعل لا تتعلّق أوّلاً إلاّ بما هو محبوب لـه با لذات ومعشوق لـه بنفسـه ، والإرادات المتعلّقـة بمقدّمات حصول ذلك المحبوب الأوّلي إنّما هي في طول تلك الإرادة المتعلّقـة بـه ، ومتأخرة عنها ومترشّحـة منها ، لابمعنى كونها علّةً موجدة لها ، فإنّ ذلك لايعقل كما مرّ مراراً ، بل بمعنى أنّ تعلّق الاشتياق بمراداتها إنّما هو لتحصيل الغرض الأقصى والمطلوب الأوّلي .
وبا لجملـة ، فأكثر الإرادات المتعلّقـة بالأفعال الصادرة من البشر بل كلّها إنّما هو لتحصيل ما يكون مراداً با لذات ومشتاقاً إليـه بنفسـه ، وهي اللّذة والاستراحـة ، كما لايخفى ، وكذا يقال في إرادة الآمر بلا فرق بينهما أصلاً .
وأمّا الكلام في المقام الثاني:
الذي هو المقصود بالأصا لـة في هذا المقام ، إذ التقسيم إنّما هو للواجب باعتبار الوجوب ، وقد عرفت أ نّـه لايكون عبارةً عن مجرّد الإرادة المظهرة ، بل إنّما هو عبارة عن البعث الصادر من الآمر ، فملخّصـه : أنّ البعث إلى شيء إن كان للتوصّل إلى حصول ما يكون متعلّقاً للبعث الآخر ، وبعبارة اُخرى : كان فوق هذا البعث بعث آخر يكون الغرض منـه التوصّل إلى حصول المبعوث إليـه با لبعث الأوّلي ، فهو واجب غيري ، وإن لم يكن الغرض
(الصفحة 60)
ا لباعث الداعي على البعث الوصول إلى مبعوث إليـه ببعث آخر ، فا لواجب واجب نفسي .
مقتضى الأصل اللفظي في المقام
ثمّ إنّـه لو دار الأمر بينهما وتردّد بين أن يكون هو الواجب النفسي أو الغيري ولم يكن في البين ما يدلّ على أحدهما ، فقد يقال بأنّ مقتضى الإطلاق هو الحمل على الواجب النفسي ; لأنّ غيره يحتاج إلى خصوصيـة زائدة ، وهي كون المقصود منـه التوصّل إلى شيء آخر ، وأمّا النفسيـة فلايزيد على أصل الوجوب ، فالإطلاق يقتضي تعيينـه(1) .
وفيـه ما لايخفى من الضعف ; فإنّـه لا إشكال في أنّ الواجب النفسي والغيري قسمان لطبيعـة الواجب ، ولايعقل أن يكون أحد الأقسام عين المقسم ، بل لابدّ أن يكون لها خصوصيـة زائدة على أصل المقسم وجوديةً كانت أو عدميةً .
والذي ينبغي أن يقال:
إنّـه حيث كانت الحجّـة من قِبَل المولى تامّةً غير محتاجـة إلى شيء آخر ، فهي قاطعـة للعذر با لنسبـة إلى العبد ، ويصحّ للمولى الاحتجاج بها عليـه ، فلا محا لـة تحتاج إلى الجواب ، كما مرّ نظيره في مبحث دلالـة صيغـة الأمر على الوجوب ، فلو قال : ائتني با لماء ، وشك في أنّ المقصود هو مجرّد تمكّنـه من الماء أو استعما لـه في الوضوء فتوضّأ ، فمجرّد احتمال أن يكون المقصود استعما لـه في الوضوء ، فلم يبق لـه موضوع لفرض التوضّي بماء آخر لايصحّح الاحتجاج بـه على المولى بعد تماميـة الحجّـة من قِبَلـه ، بل اللازم تحصيل الماء للمولى . نعم لايثبت بما ذكرنا كون الواجب واجباً نفسياً حتّى يترتّب
- 1 ـ مطارح الأنظار: 67 / السطر 10، كفايـة الاُصول: 136.
(الصفحة 61)
عليـه ما يترتّب على هذا العنوان ، كما لايخفى .
ثمّ لايخفى أنّ التقسيم إلى النفسي والغيري ليس تقسيماً للواجب بمعنى كون الوجوب أمراً جامعاً بينهما ، كيف وقد عرفت أنّ الحروف بتمامها يكون الوضع فيها عامّاً والموضوع لـه خاصّاً ، فكيف يمكن أن يكون مدلول الهيئـة أمراً جامعاً بين القسمين ؟ ! بل التقسيم لأجل اختلاف الداعي ، بمعنى أنّ الداعي إلى البعث إلى شيء قد يكون للتوصّل إلى شيء آخر وقد لايكون ، وإلاّ فا لبعث أمر واحد لايختلف في القسمين أصلاً ، كما هو الشأن في الوجوب والاستحباب ، فإنّهما ليسا من أقسام الطلب والبعث بمعنى أن يكون البعث على نحوين ، بل البعث الصادر عن إرادة حتميـة يقال لـه : الوجوب ، كما أنّ البعث الصادر عن إرادة غير حتميـة يقال لـه : الاستحباب ، فتأمّل جيّداً .
ثمّ إنّ بعض الأعاظم من المعاصرين
ذكر فيما لو شكّ في واجب أ نّـه نفسي أو غيري ما ملخّصـه با لنسبـة إلى الأصل اللفظي أ نّـه لمّا كان الواجب الغيري وجوبـه مترشّحاً عن وجوب الغير ، كان وجوبـه مشروطاً بوجوب الغير ، كما أنّ نفس غير الواجب يكون وجوده مشروطاً بنفس الواجب الغيري ، فيكون وجوب الغير من المقدّمات الوجوبيـة للواجب الغيري ، ووجود الواجب الغيري من المقدّمات الوجوديـة لنفس ذلك الغير .
مثلاً:
يكون وجوب الوضوء مشروطاً بوجوب الصلاة ، وتكون نفس الصلاة مشروطةً بوجود الوضوء ، وحينئذ يكون مرجع الشكّ في النفسية والغيرية إلى شكّين : أحدهما : الشكّ في تقييد وجوبـه بوجوب الغير ، وثانيهما : الشك في تقييد مادّة الغير بـه .
إذا عرفت ذلك، فنقول:
إنّ هناك إطلاقاً في كلا طرفي الغير والواجب الغيري ، كما إذا كان دليل الصلاة مطلقاً لم يأخذ الوضوء قيداً لها ، ودليل إيجاب
(الصفحة 62)
ا لوضوء كذلك لم يقيّد وجوبـه بوجوب الصلاة ، فلا إشكال في صحّـة التمسّك بكلٍّ من الإطلاقين ، وتكون النتيجـة هو الوجوب النفسي ولو كان لأحدهما فقط إطلاق يكفي في إثبات الوجوب النفسي أيضاً ; لأنّ مثبتات الاُصول اللفظيـة حجّـة(1) . انتهى ملخّص ما في التقريرات المنسوبـة إليـه .
ولكن هذا الكلام مخدوش من وجوه:
الوجـه الأوّل:
أ نّك عرفت فيما تقدّم أ نّـه لايعقل كون وجوب المقدّمـة مترشّحاً من وجوب ذيها بمعنى أن يكون الثاني علّةً موجدة للأوّل ، كما هو معنى الترشّح ، كما أ نّـه لايعقل ترشّح الإرادة المتعلّقـة با لمقدّمـة من الإرادة المتعلّقـة بذيها ، وهذا واضح جدّاً .
الوجـه الثاني:
أنّ ما ذكره من أ نّـه حيث كان وجوب المقدّمـة مترشّحاً من وجوب ذيها ، فلا محا لـة يكون مشروطاً بـه ، محلّ نظر بل منع ; لأنّـه لو سلّم الترشّح والنشو ، فلا نسلّم كونـه مشروطاً بـه ، بل لايعقل ; لأنّ معنى الترشّح ـ كما عرفت ـ هو كون المترشّح معلولاً للمترشّح منـه ، وحينئذ فاشتراط المعلول بوجود العلّـة إن كان في حال انتفاء المعلول ، فبطلانـه أظهر من أن يخفى ; لأنّ الاشتراط وصف وجودي لايعقل عروضـه للمعدوم أصلاً ، وإن كان في حال وجوده ، فانتزاع المعلوليـة منـه إنّما هو في الرتبـة المتأخّرة عن الاشتراط ، ومن المعلوم خلافـه .
الوجـه الثالث:
أنّ ما ذكره من أ نّـه يكون وجود الغير مشروطاً بوجود الواجب الغيري بمعنى أنّ المقصود من الغير هو تحقّقـه مقيّداً بذلك الواجب الغيري ، فلايتمّ على إطلاقـه وإن كان في المثال صحيحاً ; لأنّـه لو فرض أنّ المولى أمر بنصب السلّم وشكّ في أنّ وجوبـه هل يكون نفسياً أو غيرياً ، فإنّـه ولو سلّم
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 220 ـ 222.
(الصفحة 63)
أ نّـه بناءً على الغيريـة يكون وجوبـه مترشّحاً من وجوب الكون على السطح مشروطاً بـه ، ولكن لا نسلّم أنّ المقصود من الأمر با لكون على السطح هو الكون عليـه مقيّداً بنصب السلّم ، كما كانت الصلاة مشروطةً با لطهارة .
الوجـه الرابع:
أنّ ما ذكره من كون مثبتات الاُصول اللفظيـة حجّةً دون الاُصول العمليّـة ، ليس مبرهناً عليـه ، بل يكون محلّ شكّ وريبـة ، وسيجيء إن شاء اللّـه تعا لى .
هذا كلّـه فيما يتعلّق بما ذكره البعض المتقدّم فيما يقتضيـه الاُصول اللفظيـة التي لا مجال معها للاُصول العمليـة أصلاً .
مقتضى الأصل العملي في المقام
وأمّا با لنسبـة إلى الاُصول العمليّـة ، فذكر للمسأ لـة صوراً ثلاثـة :
الصورة الاُولى:
ما إذا علم بوجوب كلٍّ من الغير والغيري من دون أن يكون وجوب الغير مشروطاً بشرط غير حاصل ، كما إذا علم بعد الزوال بوجوب كلٍّ من الوضوء والصلاة وشكّ في وجوب الوضوء من حيث كونـه غيريّاً أو نفسيّاً ، ففي هذه الصورة يرجع الشكّ إلى الشكّ في تقييد الصلاة با لوضوء ، فيكون من باب الأقلّ والأكثر الارتباطي ، وأصا لـة البراءة نافيـة للشرطيـة ، فمن هذه الجهـة تكون النتيجةُ النفسيةَ ، وأمّا من جهة تقييد وجوب الوضوء بوجوب الصلاة فلا أثر لها ; للعلم بوجوبـه على كلّ حال نفسيّاً كان أو غيريّاً . نعم ربّما يثمر في وحدة العقاب وتعدّده عند تركـه لكلٍّ من الوضوء والصلاة ، وليس كلامنا الآن في العقاب .
الصورة الثانيـة:
هي الصورة الاُولى ولكن كان وجوب الغير مشروطاً بشرط غير حاصل ، كا لمثال المتقدّم فيما إذا علم قبل الزوال ، فحينئذ يرجع الشكّ