(الصفحة 32)
هذا كلّـه لو قلنا بأنّ الحكم في الشرعيات نظير العقليات من باب التأثير والتأثّر ، وأمّا لو قلنا بخلافـه فا لمقام بعيد عن الإشكال بمراحل ، كما لايخفى .
كلام المحقّق النائيني(قدس سره) في تحرير محلّ النزاع
ثمّ إنّ لبعض الأعاظم من المتأخّرين كلاماً في المقام في تحرير محلّ النزاع وبيان ما ذهب إليـه لابأس بذكره والتعرّض لـه على نحو الإجمال .
فنقول:
قد ذكر في تحرير محلّ النزاع
أوّلاً:
أنّ شرط متعلّق التكليف خارج عن حريم النزاع ; لأنّ حال الشرط حال الجزء في توقّف الامتثال عليـه ، فكما أ نّـه لا إشكال فيما إذا كان بعض أجزاء المركّب متأخّراً عن الآخر في الوجود ومنفصلاً عنـه في الزمان ـ كما إذا أمر بمركّب بعض أجزائـه في أوّل النهار والبعض الآخر في آخر النهار ـ كذلك لاينبغي الإشكال فيما إذا كان شرط الواجب متأخّراً في الوجود ; لأنّ ما يلزم على تقدير كون الشرط متأخّراً ـ وهو لزوم المناقضـة وتقدّم المعلول على علّتـه وتأثير المعدوم في الموجود ـ لايجري في شرط متعلّق التكليف ، فأيّ محذور يلزم إذا كان غسل الليل المستقبل شرطاً في صحّـة صوم المستحاضـة ؟ فإنّ حقيقـة الاشتراط يرجع إلى أنّ الإضافـة الحاصلـة بين الصوم والغسل شرط في صحّـة الصوم بحيث لايكون الصوم صحيحاً إلاّ بحصول هذه الإضافـة .
نعم لو قلنا : إنّ غسل الليل الآتي موجب لرفع حدث الاستحاضـة عن الزمان الماضي ، كان الإشكال في الشرط المتأخّر جارياً فيـه ، ولكنّـه خارج عن مقتضى الدليل . وبا لجملـة فتسريـة إشكال الشرط المتأخّر إلى قيود متعلّق التكليف ممّا لا وجـه لـه .
وثانياً:
أ نّـه لا إشكال في خروج العلل الغائيـة من حريم النزاع ; فإنّها غا لباً
(الصفحة 33)
متأخّرة في الوجود عمّا تترتّب عليـه ، وليست هي بوجودها العيني علّةً للإرادة وحركـة العضلات حتّى يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، بل المؤثّر والمحرّك هو وجوده العلمي ، وكذا الحال في علل التشريع ; فإنّـه لا فرق بينها وبين العلل الغائيـة إلاّ في مجرّد التعبير .
وثالثاً:
أ نّـه ليس المراد من الشرط المتأخّر المبحوث عنـه في المقام باب الإضافات والعناوين الانتزاعيـة ، كا لتقدّم والتأخّر والسبق واللّحوق وغير ذلك من الإضافات والاُمور الانتزاعيـة ، فإنّ ذلك كلّـه ممّا لا إشكال فيـه ; لعدم لزوم محذور الشرط المتأخّر با لنسبـة إليها ، وذلك لأنّ عنوان التقدّم ينتزع من ذات المتقدّم عند تأخّر شيء ، ولايتوقّف على وجود المتأخّر في موطنـه ، بل في بعض المقامات لايمكن ذلك ، كتقدّم بعض أجزاء الزمان على البعض الآخر .
ورابعاً:
أ نّـه لا إشكال في خروج العلل العقليـة عن حريم النزاع ; فإنّ امتناع الشرط المتأخّر فيها أوضح من أن يحتاج إلى بيان بعد تصوّر معنى العلّيّـة الراجعـة إلى إعطاء العلّـة وإفاضتها وجود المعلول ، ومعنى المعلوليـة الراجعـة إلى ترشّحـه منها .
ثمّ قال: إذا عرفت هذه الاُمور، ظهر لك:
أنّ محلّ النزاع في الشرط المتأخّر إنّما هو في الشرعيات في خصوص شروط الوضع والتكليف . وبعبارة اُخرى : محلّ الكلام إنّما هو في موضوعات الأحكام وضعيةً كانت أو تكليفيةً ، فقيود متعلّق التكليف والعلل الغائيـة والاُمور الانتزاعيـة والعلل العقليـة خارجـة عن حريم النزاع .
ثمّ ذكر بعد ذلك أنّ امتناع الشرط المتأخّر في موضوعات الأحكام يتوقّف على بيان المراد من الموضوع ، وهو يتوقّف على بيان الفرق بين القضايا الحقيقيّـة والقضايا الخارجيـة ، وأنّ المجعولات الشرعيـة إنّما تكون على نهج القضايا
(الصفحة 34)
ا لحقيقيّـة لا القضايا الخارجيّـة .
ثمّ ذكر في بيان الفرق بينهما ما ملخّصـه : أنّ القضايا الخارجيـة عبارة عن قضايا جزئيـة شخصيـة خارجيـة ، كقولـه : صَلّ يا عمرو ، وصُمْ يا زيد ، من القضايا التي تكون موضوعاتها آحاد الناس ، وهذا بخلاف القضايا الحقيقيّـة ; فإنّ الملحوظ في موضوعاتها عنوان كلّيّ من غير أن يكون للآمر نظر إلى زيد ، وعمرو ، وبكر أصلاً ، بل لو كان واحد منهم منطبقاً لعنوان الموضوع ، فا لحكم يرتّب عليـه قهراً .
ومن هنا يحتاج في إثبات الحكم لموضوع خاص إلى تأ ليف قياس ، ويجعل هذا الموضوع الخاصّ صغرى لـه ، وتلك القضيـة كبرى ، وهذا بخلاف القضايا الخارجيـة ; فإنّ المحمول فيها ثابت لموضوعها ابتداءً من دون توسّط قياس . والفرق بينهما من وجوه شتّى ، والمهمّ منـه في المقام هو أنّ العلم إنّما يكون لـه دخل في القضيّـة الخارجيـة دون الحقيقيـة .
مثلاً : لو كان زيد عا لماً وكان الحكم مترتّباً على عنوان العا لم ، فا لحكم يترتّب على زيد قهراً ، سواء كان الآمر عا لماً بكون زيد عا لماً أو جاهلاً ، وهذا بخلاف القضيـة الخارجيـة ; فإنّ علم الآمر بكون زيد عا لماً يوجب الأمر بإكرامـه ، سواء كان في الواقع عا لماً أو جاهلاً ، وهذا بمكان من الوضوح .
ثمّ ذكر بعد ذلك أ نّـه من الواضح أنّ المجعولات الشرعيـة إنّما هي على نهج القضايا الحقيقيـة دون الخارجيـة .
ومن هنا يظهر المراد من موضوعات الأحكام ، وأ نّها عبارة عن العناوين الكليـة الملحوظـة مرآة لمصاديقها المقدّر وجودها في ترتّب المحمولات عليها ، ويكون نسبـة ذلك الموضوع إلى المحمول نسبـة العلّـة إلى معلولها وإن لم يكن من ذلك الباب حقيقةً ، بناءً على المختار من عدم جعل السببية إلاّ أ نّـه يكون نظير
(الصفحة 35)
ذلك من حيث التوقّف والترتّب ، فحقيقـة النزاع في الشرط المتأخّر يرجع إلى تأخّر بعض ما فُرض دخيلاً في الموضوع على جهـة الجزئيـة أو الشرطيـة من الحكم التكليفي أو الوضعي بأن يتقدّم الحكم على بعض أجزاء موضوعـه .
ثمّ اعترض بعد ذلك على الكفايـة والفوائد بكلام طويل لا مجال لذكره .
ثمّ ذكر بعد ذلك أ نّـه ممّا ذكرنا يظهر أنّ امتناع الشرط المتأخّر من القضايا التي قياساتها معها من غير فرق بين أن نقول بجعل السببيـة أو لا نقول بذلك .
أمّا بناء على الأوّل : فواضح .
وأمّا بناء على الثاني : فلأنّ الموضوع وإن لم يكن علّةً للحكم إلاّ أ نّـه ملحق بها من حيث تقدّمـه على الحكم وترتّبـه عليـه ، فلايعقل تقدّم الحكم عليـه بعد فرض أخذه موضوعاً ; للزوم الخلف وأنّ ما فرض موضوعاً لم يكن موضوعاً(1) . انتهى موضع الحاجـة من كلامـه .
الجواب عن مختار المحقّق النائيني(قدس سره)
ولايخفى أنّ في كلامـه وجوهاً من النظر .
أمّا ما ذكره أوّلاً:
من أنّ شرائط متعلّق التكليف خارجـة عن حريم النزاع .
ففيـه:
المنع من ذلك ، وتشبيهها بالأجزاء لايجدي ; لأنّ النزاع يجري فيها أيضاً ; فإنّـه إذا فرض أنّ صحّـة الجزء الأوّل متوقّفـة على الإتيان با لجزء الأخير الذي سيوجد بعداً ، يلزم محذور الشرط المتأخّر بلا فرق بينهما أصلاً ، كما لايخفى .
ومجرّد إرجاع الشرطيـة إلى الإضافـة الحاصلـة بين المشروط والشرط
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 271 ـ 280.
(الصفحة 36)
لايفيد بعدما عرفت منّا في الجواب عن المحقّق العراقي(قدس سره) من أنّ الإضافـة من الاُمور الإضافيـة التي من شأنها تحقّق أطرافها با لفعل ، ومع انتفاء بعضها لايعقل تحقّقها ، كما هو واضح لايخفى .
وأمّا ما ذكره ثالثاً:
من أنّ النزاع ليس في الاُمور الاعتباريـة الانتزاعيـة .
ففيـه:
أ نّـه لم يقل أحد بأنّ النزاع في هذه الاُمور ، وإنّما ذكرها بعض في مقام التخلّص عن الإشكال(1) . وقد عرفت سابقاً أ نّـه لايمكن الجواب بـه ; لأنّ صدق هذه العناوين متوقّف على تحقّق الأطراف ، وقد ذكرنا ذلك بما لا مزيد عليـه ، فلا نطيل بالإعادة .
وأمّا ما ذكره من الفرق بين القضايا الحقيقيـة والخارجيـة:
من أنّ العلم لادخل لـه في الاُولى دون الثانيـة .
فيرد عليـه:
المنع من مدخليـة العلم في جميع القضايا الخارجيـة ، ألا ترى أ نّـه لو أنفذ المولى عقداً فضوليّاً خاصّاً ، فهل يرضى أحد بكون المؤثّر هو علم المولى بتحقّق الإجازة فيما بعد دون نفس الإجازة من الما لك ؟ وهل هو إلاّ القول بعدم مدخليـة رضى الما لك في انتقال ملكـه إلى شخص آخر ؟ والضرورة قاضيـة بخلافـه ، كما أنّ ما ذكره من أ نّـه لو كانت القضيـة بنحو القضايا الحقيقيـة كما هو كذلك في المجعولات الشرعيـة يكون الامتناع ضرورياً غير محتاج إلى إقامـة برهان ، لايتمّ بناءً على ما ذكرنا في مقام الجواب من أنّ الموضوع في تلك القضايا التي توهّم انخرام القاعدة العقليـة بها هو ذات الموضوع المتقدّم بحسب الحقيقـة لا مع اتّصافـه بعنوان التقدّم المستلزم لاتّصاف الآخر بعنوان التأخّر المستلزم لوجوده في الخارج للقاعدة الفرعيـة ، كما هو واضح .
- 1 ـ الفصول الغرويّـة: 80 / السطر 32.