(الصفحة 127)
الاُولى:
أ نّـه لا إشكال في أنّ متعلّق الأوامر والنواهي هي الطبائع لا الأفراد ، كما سيأتي تحقيقـه .
الثانيـة:
المراد بالإطلاق هو أخذ الطبيعـة في مقام جعل الحكم عليـه مطلقـة غير مقيّدة بشيء من القيود بمعنى أنّ المتكلّم المختار إذا صار بصدد بيان بعض الأحكام ولم يأخذ في موضوعـه إلاّ الطبيعـة المعرّاة عن القيود ، يستكشف من ذلك أنّ تمام الموضوع لذلك الحكم هي نفس الطبيعـة بلا مدخليـة لشيء في ترتّبـه أصلاً ، فمعنى الإطلاق ليس هو لحاظ سرايـة الحكم إلى جميع أفراد الطبيعـة حتّى يتّحد مع العموم في النتيجـة ، وهي ثبوت الحكم لجميع أفراد الطبيعـة ; لأنّـه ليس في الإطلاق لحاظ الأفراد ، بل لايعقل أن تكون الطبيعـة مرآةً وكاشفةً لوجوداتها التي ستحقّق بعد انضمام سائر العوارض إليها فإنّ لفظ الإنسان مثلاً لم يوضع إلاّ لنفس ماهيـة الحيوان الناطق ولايعقل أن يحكي عن أفراد تلك الطبيعـة بعد عدم كونـه موضوعاً بإزائها ، كما هو واضح .
وبا لجملـة ، فليس معنى الإطلاق إلاّ مجرّد عدم مدخليّـة شيء من القيود بلا ملاحظـة الأفراد ، كما هو واضح .
الثالثـة:
أنّ المزاحمـة الحاصلـة بين الأمر بالأهمّ والأمر با لمهمّ كالأمر بإزا لـة النجاسـة عن المسجد والأمر با لصلاة ليست متحقّقةً في مرحلة تعلّق الأمر بهما ; إذ ليس الأمر لطبيعـة الصلاة مزاحماً للأمر لطبيعـة الإزا لـة أصلاً ، كما لايخفى ، وليسا كالأمر با لنقيضين ، بل المزاحمـة بينهما إنّما تتحقّق بعد تعلّق الأمر وحصول الابتلاء بمعنى أ نّـه إذا ابتلى المكلّف بنجاسـة المسجد في زمان كونـه مأموراً بالأمر الصلاتي تحصل المزاحمـة بينهما ، ومن المعلوم أنّ الترتّب والاشتراط الذي يقول بـه القائل با لترتّب إنّما هو بعد تحقّق المزاحمـة المتأخّرة عن مرحلـة الأمر ، كما عرفت .
وحينئذ فنقول : إنّـه كيف يمكن أن يكون أحد الأمرين مشروطاً بسبب
(الصفحة 128)
ا لمزاحمـة التي تتحقّق بينهما بعداً ؟ ! بعدما عرفت من أنّ معنى الإطلاق هو أخذ الطبيعـة المرسلـة موضوعاً للحكم ومتعلّقاً للأمر بلا ملاحظـة الأفراد ولا الحالات التي من جملتها في المقام حال الابتلاء با لضدّ الواجب .
وبا لجملـة ، فالآمر في مقام الأمر لم يلاحظ الحالات بخصوصها حتّى صار بصدد علاج المزاحمـة الحاصلـة في بعض الحالات المتأخّرة عن الأمر ، كما هو واضح ، وعلى تقدير تسليم عدم الامتناع عقلاً نقول : إنّ ذلك غير واقع ; إذ ليس في الأدلّـة الشرعيـة ما يظهر منـه تقييد الأمر با لمهمّ واشتراطـه كما يظهر با لمراجعـة .
فانقدح من جميع ذلك:
أ نّـه لو كان المراد بالاشتراط اشتراطاً شرعياً ، يرد عليـه امتناعـه ، وعلى تقدير التسليم عدم وقوعـه فلايفيد أصلاً ، كما لايخفى ، فيجب أن يكون المراد بالاشتراط اشتراطاً عقليّاً .
تحقيق في الجواب على مسلك الخطابات القانونيّـة
وتنقيح الكلام في هذا المقام بحيث يظهر منـه صحّـة الاشتراط ولزومـه أو عدمهما يتوقّف على رسم مقدّمات :
الاُولى:
أ نّـه ليس للحكم إلاّ مرتبتان : مرتبـة الإنشاء ومرتبـة الفعليـة ، بل نقول : إنّهما ليستا مرتبتين للحكم بأن يكون كلّ حكم ثابتاً لـه هاتان المرتبتان ، بل هما مقسمان لطبيعـة الحكم بمعنى أنّ الأحكام على قسمين : أحدهما : الأحكام الإنشائيـة ، وثانيهما : الأحكام الفعليـة ، والمراد بالاُولى هي الأحكام التي لم يكن فيها ما يقتضي إجراءها بعد جعلها بل اُوحي إليها إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأودعها(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الأئمّـة (عليهم السلام) حتّى يظهر قائمهم(عليه السلام) ، فيجريها ، كما أنّ المراد با لثانيـة هي القوانين والأحكام التي قد اُجريت بعد الوحي ، وهي الأحكام
(الصفحة 129)
ا لمتداولـة بين الناس التي أظهرها النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمّـة من بعده .
وا لدليل على ما ذكرنا من أ نّـه ليس الفعليـة والإنشائيـة مرتبتين للحكم بأن يكون العا لم مثلاً حكمـه فعليّاً والجاهل إنشائياً : أنّ المراد با لحكم الذي يجعلون لـه المرتبتين بل المراتب الأربع ـ كما في الكفايـة(1)ـ إن كان هو العبارة ا لمكتوبـة في القرآن أو في كتب الحديث فمن الواضح البديهي أ نّـه لايعرض لـه التغيير بتغيّر حالات المكلّف من حيث العلم والجهل والقدرة والعجز ونظائرها ، وإن كان المراد بـه هو حقيقـة الحكم الراجعـة إلى إرادة المبدأ الأعلى جلّ شأنـه ، فمن الواضح أيضاً أ نّـه لايعرض لها التغيير باختلاف الحالات المذكورة ; لامتناع عروض التغيّر لـه تعا لى ، كما لايخفى .
الثانيـة:
لايذهب عليك ثبوت الفرق بين الخطاب بنحو العموم وبين الخطاب بنحو الخصوص في بعض الموارد ، منها : مسأ لـة الابتلاء ، فإنّـه يشترط في صحّـة توجيـه الخطاب الخاصّ وعدم استهجانـه أن يكون المخاطب مبتلى با لواقعـة المنهي عنها ، كما أ نّـه يشترط في صحّـة توجيـه الخطاب الخاصّ المتضمّن للأمر أن لايكون للمخاطب داع إلى إتيان المأمور بـه مع قطع النظر عن تعلّق الأمر .
وا لسرّ في ذلك أنّ الأمر والنهي إنّما هو للبعث والزجر ، ويقبح زجر المكلّف عمّا يكون متروكاً ; لعدم الابتلاء بـه ، كما هو واضح ، وهذا بخلاف الخطاب بنحو العموم ، كما هو الشأن في جميع الخطابات الواردة في الشريعـة ، فإنّـه لايشترط في صحّتـه أن يكون كلّ واحد من المخاطبين مبتلى با لواقعـة المنهيّ عنها ; لعدم انحلال ذلك الخطاب إلى خطابات عديدة حسب تعدّد المخاطبين حتّى يشترط
(الصفحة 130)
فيـه ذلك ، بل يشترط فيـه أن لايكون جميعهم أو أكثرهم تاركين للمنهي عنـه ; لعدم الابتلاء ، وأمّا لو كان بعضهم تاركاً لـه ولم يكن في البين ما يميّز كلّ واحد من الطائفتين عن الاُخرى ، فلايضرّ بصحّـة الخطاب بنحو العموم أصلاً ، فما اشتهر بينهم من أ نّـه إذا خرج بعض أطراف العلم الإجما لي عن مورد الابتلاء ، لم يجب الاجتناب من الآخر أيضاً ليس في محلّـه ، كما حقّقناه في موضعـه(1) .
وا لوجـه في عدم الانحلال : أ نّـه لا إشكال في كون الكفّار والعصاة مكلّفين بالأحكام الشرعيـة مع أ نّـه لو قيل بالانحلال إلى خطابات متكثّرة ، يلزم عدم كونهم مكلّفين ; لعدم صحّـة توجيـه الخطاب الخاصّ إليهم بعد عدم انبعاثهم إلى فعل المأمور بـه ، وعدم انزجارهم عن فعل المنهي عنـه أصلاً ، كما لايخفى ، فمن كونهم مكلّفين يستكشف أ نّـه لايشترط في الخطاب بنحو العموم كون كلّ واحد من المخاطبين واجداً لشرائط صحّـة توجيـه الخطاب الخاصّ إليـه .
وا لدليل على عدم كون الخطابات الواردة في الشريعـة مقيّدة با لعلم والقدرة ، مضافاً إلى ما نراه با لوجدان من عدم كونها مقيّدةً بنظائرهما : أ نّها لو كانت مقيّدةً با لقدرة بحيث لم يكن العاجز مشمولاً لها ومكلّفاً با لتكا ليف التي تتضمّنـه تلك الخطابات يلزم فيما لو شكّ في القدرة وعدمها إجراء البراءة ; لأنّ مرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في التكليف ; لأنّ المفروض الشكّ في تحقّق قيده ، وإجراء البراءة في موارد الشكّ في التكليف ممّا لا خلاف فيـه بينهم مع أ نّـه يظهر منهم القول بالاحتياط في مورد الشكّ في القدرة كما يظهر بمراجعـة فتاويهم .
وأيضاً لو كانت الخطابات مقيّدةً با لقدرة ، يلزم جواز إخراج المكلّف نفسـه عن عنوان القادر ، فلايشملـه التكليف ، كما يجوز للحاضر أن يسافر ، فلايشملـه
- 1 ـ أنوار الهدايـة 2: 213 وما بعدها.
(الصفحة 131)
تكليف الحاضر ، وكما يجوز للمكلّف أن يعمل عملاً يمنعـه عن صدق عنوان المستطيع عليـه ، وغيرهما من الموارد ، مع أنّ ظاهرهم عدم الجواز في المقام ، وليس ذلك كلّـه إلاّ لعدم اختصاص الخطاب با لقادرين ، بل يعمّ الجميع غايـة الأمر كون العاجز معذوراً في مخا لفـة التكليف المتعلّق بـه بحكم العقل .
وتوهّم:
أ نّـه كيف يمكن أن تتعلّق إرادة المولى بإتيان جميع الناس مطلوباتـه مع أنّ العقل يحكم بامتناع تعلّق الإرادة من الحكيم بإتيان العاجز .
مدفوع:
بأ نّـه ليس في المقام إلاّ الإرادة التشريعيـة ، ومعناها ليس إرادة المولى إتيان العبد ، كيف ولازمـه استحا لـة الانفكاك با لنسبـة إلى اللّـه جلّ شأنـه ; لما قرّر في محلّـه من عدم إمكان تخلّف مراده تعا لى عن إرادتـه ، بل معنى الإرادة التشريعيـة ليست إلاّ الإرادة المتعلّقـة بجعل القوانين المتضمّنـة للبعث والزجر ، فمتعلّق الإرادة إنّما هو بعث الناس إلى محبوبـه وزجرهم عن مبغوضـه ، لا انبعاثهم وانزجارهم حتّى يستحيل الانفكاك .
وبا لجملـة ، فلايشترط في جعل القوانين العامّـة إلاّ كونها صا لحةً لانبعاث النوع وانزجار لسببـه كما يظهر بمراجعـة العقلاء المقنّين للقوانين العرفيـة ، فتأمّل في المقام ; فإنّـه من مزالّ الأقدام .
الثالثـة:
قد عرفت أنّ كلّ واحد من الأمر بالأهمّ والأمر با لمهمّ إنّما تعلّق با لطبيعـة معراة عن جميع القيود ، وليس فيها لحاظ الأفراد ولا لحاظ الحالات التي يطرأ بعد تعلّق الأمر بها حتّى صار المولى بصدد بيان العلاج ودفع التزاحم بين الأمرين في حا لـة الاجتماع .
الرابعـة:
أ نّـه ليس للعقل التصرّف في أوامر المولى بتقييدها ببعض القيود ، بل لـه أحكام توجب معذوريـة المكلّف با لنسبـة إلى مخا لفـة تكا ليف المولى ، فحكمـه بقبح العقاب في صورة الجهل أو العجز لايرجع إلى تقييد الأحكام بصورة