(الصفحة 129)
ا لمتداولـة بين الناس التي أظهرها النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمّـة من بعده .
وا لدليل على ما ذكرنا من أ نّـه ليس الفعليـة والإنشائيـة مرتبتين للحكم بأن يكون العا لم مثلاً حكمـه فعليّاً والجاهل إنشائياً : أنّ المراد با لحكم الذي يجعلون لـه المرتبتين بل المراتب الأربع ـ كما في الكفايـة(1)ـ إن كان هو العبارة ا لمكتوبـة في القرآن أو في كتب الحديث فمن الواضح البديهي أ نّـه لايعرض لـه التغيير بتغيّر حالات المكلّف من حيث العلم والجهل والقدرة والعجز ونظائرها ، وإن كان المراد بـه هو حقيقـة الحكم الراجعـة إلى إرادة المبدأ الأعلى جلّ شأنـه ، فمن الواضح أيضاً أ نّـه لايعرض لها التغيير باختلاف الحالات المذكورة ; لامتناع عروض التغيّر لـه تعا لى ، كما لايخفى .
الثانيـة:
لايذهب عليك ثبوت الفرق بين الخطاب بنحو العموم وبين الخطاب بنحو الخصوص في بعض الموارد ، منها : مسأ لـة الابتلاء ، فإنّـه يشترط في صحّـة توجيـه الخطاب الخاصّ وعدم استهجانـه أن يكون المخاطب مبتلى با لواقعـة المنهي عنها ، كما أ نّـه يشترط في صحّـة توجيـه الخطاب الخاصّ المتضمّن للأمر أن لايكون للمخاطب داع إلى إتيان المأمور بـه مع قطع النظر عن تعلّق الأمر .
وا لسرّ في ذلك أنّ الأمر والنهي إنّما هو للبعث والزجر ، ويقبح زجر المكلّف عمّا يكون متروكاً ; لعدم الابتلاء بـه ، كما هو واضح ، وهذا بخلاف الخطاب بنحو العموم ، كما هو الشأن في جميع الخطابات الواردة في الشريعـة ، فإنّـه لايشترط في صحّتـه أن يكون كلّ واحد من المخاطبين مبتلى با لواقعـة المنهيّ عنها ; لعدم انحلال ذلك الخطاب إلى خطابات عديدة حسب تعدّد المخاطبين حتّى يشترط
(الصفحة 130)
فيـه ذلك ، بل يشترط فيـه أن لايكون جميعهم أو أكثرهم تاركين للمنهي عنـه ; لعدم الابتلاء ، وأمّا لو كان بعضهم تاركاً لـه ولم يكن في البين ما يميّز كلّ واحد من الطائفتين عن الاُخرى ، فلايضرّ بصحّـة الخطاب بنحو العموم أصلاً ، فما اشتهر بينهم من أ نّـه إذا خرج بعض أطراف العلم الإجما لي عن مورد الابتلاء ، لم يجب الاجتناب من الآخر أيضاً ليس في محلّـه ، كما حقّقناه في موضعـه(1) .
وا لوجـه في عدم الانحلال : أ نّـه لا إشكال في كون الكفّار والعصاة مكلّفين بالأحكام الشرعيـة مع أ نّـه لو قيل بالانحلال إلى خطابات متكثّرة ، يلزم عدم كونهم مكلّفين ; لعدم صحّـة توجيـه الخطاب الخاصّ إليهم بعد عدم انبعاثهم إلى فعل المأمور بـه ، وعدم انزجارهم عن فعل المنهي عنـه أصلاً ، كما لايخفى ، فمن كونهم مكلّفين يستكشف أ نّـه لايشترط في الخطاب بنحو العموم كون كلّ واحد من المخاطبين واجداً لشرائط صحّـة توجيـه الخطاب الخاصّ إليـه .
وا لدليل على عدم كون الخطابات الواردة في الشريعـة مقيّدة با لعلم والقدرة ، مضافاً إلى ما نراه با لوجدان من عدم كونها مقيّدةً بنظائرهما : أ نّها لو كانت مقيّدةً با لقدرة بحيث لم يكن العاجز مشمولاً لها ومكلّفاً با لتكا ليف التي تتضمّنـه تلك الخطابات يلزم فيما لو شكّ في القدرة وعدمها إجراء البراءة ; لأنّ مرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في التكليف ; لأنّ المفروض الشكّ في تحقّق قيده ، وإجراء البراءة في موارد الشكّ في التكليف ممّا لا خلاف فيـه بينهم مع أ نّـه يظهر منهم القول بالاحتياط في مورد الشكّ في القدرة كما يظهر بمراجعـة فتاويهم .
وأيضاً لو كانت الخطابات مقيّدةً با لقدرة ، يلزم جواز إخراج المكلّف نفسـه عن عنوان القادر ، فلايشملـه التكليف ، كما يجوز للحاضر أن يسافر ، فلايشملـه
- 1 ـ أنوار الهدايـة 2: 213 وما بعدها.
(الصفحة 131)
تكليف الحاضر ، وكما يجوز للمكلّف أن يعمل عملاً يمنعـه عن صدق عنوان المستطيع عليـه ، وغيرهما من الموارد ، مع أنّ ظاهرهم عدم الجواز في المقام ، وليس ذلك كلّـه إلاّ لعدم اختصاص الخطاب با لقادرين ، بل يعمّ الجميع غايـة الأمر كون العاجز معذوراً في مخا لفـة التكليف المتعلّق بـه بحكم العقل .
وتوهّم:
أ نّـه كيف يمكن أن تتعلّق إرادة المولى بإتيان جميع الناس مطلوباتـه مع أنّ العقل يحكم بامتناع تعلّق الإرادة من الحكيم بإتيان العاجز .
مدفوع:
بأ نّـه ليس في المقام إلاّ الإرادة التشريعيـة ، ومعناها ليس إرادة المولى إتيان العبد ، كيف ولازمـه استحا لـة الانفكاك با لنسبـة إلى اللّـه جلّ شأنـه ; لما قرّر في محلّـه من عدم إمكان تخلّف مراده تعا لى عن إرادتـه ، بل معنى الإرادة التشريعيـة ليست إلاّ الإرادة المتعلّقـة بجعل القوانين المتضمّنـة للبعث والزجر ، فمتعلّق الإرادة إنّما هو بعث الناس إلى محبوبـه وزجرهم عن مبغوضـه ، لا انبعاثهم وانزجارهم حتّى يستحيل الانفكاك .
وبا لجملـة ، فلايشترط في جعل القوانين العامّـة إلاّ كونها صا لحةً لانبعاث النوع وانزجار لسببـه كما يظهر بمراجعـة العقلاء المقنّين للقوانين العرفيـة ، فتأمّل في المقام ; فإنّـه من مزالّ الأقدام .
الثالثـة:
قد عرفت أنّ كلّ واحد من الأمر بالأهمّ والأمر با لمهمّ إنّما تعلّق با لطبيعـة معراة عن جميع القيود ، وليس فيها لحاظ الأفراد ولا لحاظ الحالات التي يطرأ بعد تعلّق الأمر بها حتّى صار المولى بصدد بيان العلاج ودفع التزاحم بين الأمرين في حا لـة الاجتماع .
الرابعـة:
أ نّـه ليس للعقل التصرّف في أوامر المولى بتقييدها ببعض القيود ، بل لـه أحكام توجب معذوريـة المكلّف با لنسبـة إلى مخا لفـة تكا ليف المولى ، فحكمـه بقبح العقاب في صورة الجهل أو العجز لايرجع إلى تقييد الأحكام بصورة
(الصفحة 132)
ا لعلم والقدرة حتّى لايكون الجاهل أو العاجز مكلّفاً ، بل الظاهر ثبوت التكليف با لنسبـة إلى جميع الناس أعمّ من العا لم والجاهل والقادر والعاجز ، غايـة الأمر كون الجاهل والعاجز معذوراً في المخا لفـة بحكم العقل . نعم قد يكون حكم العقل كاشفاً عن بعض الأحكام الشرعيـة ، فحكمـه حينئذ طريق إليـه ، كما لايخفى .
الخامسـة:
قد عرفت أنّ الخطابات الواردة في الشريعـة إنّما تكون على نحو العموم ، ولايشترط فيها أن يكون كلّ واحد من المخاطبين قادراً على إتيان متعلّقها ، بل يعمّ القادر والعاجز ، ومعذوريّـة العاجز إنّما هو لحكم العقل بقبح عقابـه على تقدير المخا لفـة ، لا لعدم ثبوت التكليف في حقّـه ، وحينئذ فا لعجز إمّا أن يكون متعلّقاً بالإتيان بمتعلّق التكليف الواحد ، وحينئذ فلا إشكال في معذوريـة المكلّف في مخا لفتـه ، وإمّا أن يكون متعلّقاً با لجمع بين الإتيان بمتعلّق التكليفين أو أزيد بأن لايكون عاجزاً عن الإتيان بمتعلّق هذا التكليف بخصوصـه ولايكون عاجزاً عن موافقـة ذلك التكليف بخصوصـه أيضاً ، بل يكون عاجزاً عن الجمع بين موافقـة التكليفين ومتابعـة الأمرين .
إذا عرفت هذه المقدّمات،
فنقول : إذا كان الأمران متعلّقين با لضدّين المساويين من حيث الأهمّيـة ، فا لمكلّف حينئذ إمّا أن يشتغل بفعل واحد منهما أو بأمر آخر ، وعلى الثاني إمّا أن يكون ذلك الأمر محرّماً وإمّا أن لايكون كذلك ، فا لصور ثلاثـة :
أمّا الصورة الاُولى:
فلا إشكال فيها في ثبوت الأمرين معاً ; لما عرفت في المقدّمات السابقـة ، غايـة الأمر كونـه معذوراً في مخا لفـة واحد منهما لحكم العقل بمعذوريـة العاجز .
(الصفحة 133)
وأمّا الصورة الثانيـة:
فا لمكلّف يستحقّ فيها ثلاث عقوبات ، أمّا العقوبـة على ما اشتغل بـه من فعل المحرّم فواضح . وأمّا العقوبـة على مخا لفـة كلٍّ من الأمرين : فلكونـه قد خا لفهما من غير عذر ; لفرض كونـه قادراً على إتيان متعلّق كلّ واحد منهما ، وعجزه إنّما هو عن الجمع بينهما ، والجمع لايكون متعلّقاً للأمر حتّى يعذر في مخا لفتـه ; لتحقّق العجز .
وأمّا الصورة الثالثـة:
فيظهر الحكم فيها ممّا ذكرنا في الصورة الثانيـة .
هذا ، إذا كان الأمران متعلّقين بمساويين من حيث الأهمّيـة ، وأمّا إذا كان أحد الضدّين أهمّ من الآخر ، فا لعقل يحكم بوجوب ترجيحـه على المهمّ في مقام الإطاعـة والامتثال ، وحينئذ فإذا امتثل الأمر بالأهمّ ، فا لعقل يحكم بمعذوريّتـه في مخا لفـة الأمر با لمهمّ بعد كونـه غير مقدور عن إطاعتـه ، وأمّا إذا امتثل الأمر با لمهمّ وصرف قدرتـه إلى طاعتـه دون الأمر بالأهمّ ، فلا إشكال في استحقاق المثوبـة على امتثا لـه ، وعدم كونـه معذوراً في مخا لفـة الأمر بالأهمّ بعدما عرفت من كونـه مشمولاً لكلا الخطابين ، والعقل لايحكم بمعذوريتـه .
ومنـه يظهر أ نّـه لو خا لف الأمرين معاً ، يستحقّ العقوبـة عليهما .
وا لمتحصّل من جميع ما ذكرنا أمران :
أحدهما:
بطلان ما حكي عن البهائي من أ نّـه لو قيل بعدم الاقتضاء فلا أقلّ من عدم تعلّق الأمر با لضدّ ، فإنّك قد عرفت أ نّـه لا منافاة بين الأمرين أصلاً ، بل الظاهر ثبوتهما من دون أن يكون أحدهما مترتّباً على الآخر ، بل يكونان في عرض واحد بلا ترتّب وطوليّـة .
ثانيهما:
استحقاق العقابين على تقدير مخا لفـة كلا الأمرين ، ولا إشكال فيـه ، كما عرفت .