(الصفحة 133)
وأمّا الصورة الثانيـة:
فا لمكلّف يستحقّ فيها ثلاث عقوبات ، أمّا العقوبـة على ما اشتغل بـه من فعل المحرّم فواضح . وأمّا العقوبـة على مخا لفـة كلٍّ من الأمرين : فلكونـه قد خا لفهما من غير عذر ; لفرض كونـه قادراً على إتيان متعلّق كلّ واحد منهما ، وعجزه إنّما هو عن الجمع بينهما ، والجمع لايكون متعلّقاً للأمر حتّى يعذر في مخا لفتـه ; لتحقّق العجز .
وأمّا الصورة الثالثـة:
فيظهر الحكم فيها ممّا ذكرنا في الصورة الثانيـة .
هذا ، إذا كان الأمران متعلّقين بمساويين من حيث الأهمّيـة ، وأمّا إذا كان أحد الضدّين أهمّ من الآخر ، فا لعقل يحكم بوجوب ترجيحـه على المهمّ في مقام الإطاعـة والامتثال ، وحينئذ فإذا امتثل الأمر بالأهمّ ، فا لعقل يحكم بمعذوريّتـه في مخا لفـة الأمر با لمهمّ بعد كونـه غير مقدور عن إطاعتـه ، وأمّا إذا امتثل الأمر با لمهمّ وصرف قدرتـه إلى طاعتـه دون الأمر بالأهمّ ، فلا إشكال في استحقاق المثوبـة على امتثا لـه ، وعدم كونـه معذوراً في مخا لفـة الأمر بالأهمّ بعدما عرفت من كونـه مشمولاً لكلا الخطابين ، والعقل لايحكم بمعذوريتـه .
ومنـه يظهر أ نّـه لو خا لف الأمرين معاً ، يستحقّ العقوبـة عليهما .
وا لمتحصّل من جميع ما ذكرنا أمران :
أحدهما:
بطلان ما حكي عن البهائي من أ نّـه لو قيل بعدم الاقتضاء فلا أقلّ من عدم تعلّق الأمر با لضدّ ، فإنّك قد عرفت أ نّـه لا منافاة بين الأمرين أصلاً ، بل الظاهر ثبوتهما من دون أن يكون أحدهما مترتّباً على الآخر ، بل يكونان في عرض واحد بلا ترتّب وطوليّـة .
ثانيهما:
استحقاق العقابين على تقدير مخا لفـة كلا الأمرين ، ولا إشكال فيـه ، كما عرفت .
(الصفحة 134)تحقيق في الترتّب
ثمّ إنّـه يظهر من المحقّق النائيني(قدس سره) القول با لترتّب ، وقد أطال الكلام في ذلك بإقامـة مقدّمات كثيرة(1) ، ونحن نقتصر على ما يرد عليها ، فنقول :
أمّا المقدّمـة الاُولى:
الراجعـة إلى إثبات أنّ ما أوقع المكلّف في مضيقـة ، الجمع بين الضدّين وأوجبـه عليـه هل هو نفس الخطابين الفعليين أو إطلاقهما وشمولهما لحا لتي فعل الآخر وعدمـه ، فهي وإن كانت بنفسها صحيحةً إلاّ أ نّـه لايترتّب عليـه النتيجـة ، كما سيأتي ، ويبقى فيها ما أورده على الشيخ من المناقضـة بين ما اختاره في هذا المقام من إنكار الترتّب غايـة الإنكار(2) وبين ما ذكره الشيخ في مبحث التعادل والترجيح من الفرائد حيث قال في الجواب عمّا قيل من أنّ الأصل في المتعارضين عدم حجّيـة أحدهما ما لفظـه : لكن لمّا كان امتثال التكليف با لعمل بكلٍّ منهما ـ كسائر التكا ليف الشرعيّـة والعرفيّـة ـ مشروطاً با لقدرة ، والمفروض أنّ كلاّ منهما مقدور في حال ترك الآخر ، وغير مقدور مع إيجاد الآخر ، فكلٌّ منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركـه ويتعيّن فعلـه ، ومع إيجاد الآخر يجوز تركـه ، ولايعاقب عليـه ، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجـة أدلّـة وجوب الامتثال ، والعمل بكلٍّ منهما بعد تقييد وجوب الامتثال با لقدرة ، وهذا ممّا يحكم بـه بديهـة العقل ، كما في كلّ واجبين اجتمعا على المكلّف ، ولا مانع من تعيين كلٍّ منهما على المكلّف بمقتضى دليلـه إلاّ تعيين
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 336 ـ 352.
- 2 ـ مطارح الأنظار: 57 ـ 59.
(الصفحة 135)
ا لآخر عليـه كذلك(1) . انتهى موضع الحاجـة .
ومحصّل الإيراد:
أنّ هذا الكلام صريح في أنّ التخيير في الواجبين المتزاحمين إنّما هو من نتيجـة اشتراط كلٍّ منهما با لقدرة عليـه ، وتحقّقها في حال ترك الآخر ، فيجب كلٌّ منهما عند ترك الآخر ، فيلزم الترتّب من الجانبين مع أ نّـه قد أنكره من جانب واحد ، وليت شعري أن ضمّ ترتّب إلى ترتّب آخر كيف يوجب تصحيحـه ؟ !
أقول:
من الواضح الذي لايعتريـه ريب أنّ كلامـه هناك لايدلّ على الترتّب من الطرفين أصلاً ، كيف ومعنى الترتّب كون الأمر الثاني في طول الأمر الأوّل لاشتراطـه بما يتأخّر عنـه رتبةً ، وحينئذ فكيف يمكن أن يكون كلٌّ من الأمرين في طول الآخر ومتأخّراً عنـه رتبةً ؟ ! لأنّ مقتضاه إمكان تقدّم الشيء على نفسـه المستحيل بداهـة ، بل المراد من العبارة ما ذكرناه وحقّقناه في هذا المقام من أنّ الأمرين باقيان على إطلاقهما من دون أن يكون أحدهما مقيّداً بما يتأخّر عن الآخر أو بشيء آخر ، غايـة الأمر أنّ وجوب الامتثال الذي هو حكم عقلي مشروط با لقدرة عليـه ، وحيث إنّـه لا ترجيح بين الامتثا لين هناك ، فا لعقل يحكم بتخيير المكلّف ومعذوريّتـه في مخا لفـة ترك الآخر لو لم يخا لف المجموع ، فا لمقيّد با لقدرة ونظائرها إنّما هو حكم العقل بوجوب الامتثال ، لا أصل الخطابين ، وهذا هو ظاهر كلام الشيخ حيث ذكر أنّ المقيّد با لقدرة إنّما هو حكم العقل .
نعم يرد على الشيخ:
سؤال الفرق بين المقامين حيث حكم باستحا لـة ثبوت الأمرين في المقام مع أ نّـه اختار ثبوتهما هناك ، فإنّ الظاهر جريان هذا الوجـه بعينـه في المقام بلا فرق بينهما أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 761.
(الصفحة 136)
وأمّا المقدّمـة الثانيـة:
الراجعـة إلى أنّ الواجب المشروط بعد تحقّق شرطـه حا لـه حا لـه قبل تحقّق شرطـه من حيث إنّـه بعدُ على صفـة الاشتراط ، ولايتّصف بصفـة الإطلاق ، وذلك لأنّ الشرط فيـه يرجع إلى قيود الموضوع ، إلى آخر ما ذكرنا .
فيرد عليها ما تقدّم منّا في الواجب المطلق والمشروط من أنّ أخذ القيد بحسب الواقع ونفس الأمر على وجهين ، فإنّـه قد يكون الشيء محبوباً للإنسان عند حصول شرط بحيث لايكون بدونـه مطلوباً وإن كان ربّما يمنع عن تحقّق القيد ، وقد يكون الشيء المقيّد محبوباً لـه بحيث ربّما يتحمّل لأجل تحقّق مطلوبـه مشاقّاً كثيرة ، فا لصلاة في المسجد قد تكون محبوبةً للإنسان لأجل ما يترتّب عليها ، فلو لم يكن مسجد يصير بصدد بنائـه لأجل تحقّق مطلوبـه ، وقد تكون الصلاة محبوبةً لـه على تقدير تحقّق المسجد بحيث يشتاق إلى عدم تحقّق المسجد لأجل انزجاره من الصلاة ، ولكن على تقدير تحقّقـه يتعلّق حبّـه بها ، وحينئذ فمع كون الأمر في الواقع على قسمين ، فلا وجـه لإرجاع جميع القيود إلى قيود الموضوع مع ترتّب الثمرة بين الوجهين في مواضع كثيرة ، منها : الاستصحاب ، بل لايجوز ذلك أصلاً ، كما لايخفى .
ثمّ على تقدير التسليم فإرجاع القيود إلى الموضوع إنّما هو في القيود التي أخذها المولى في مقام الحكم ، وجعلـه مقيّداً بها دون ما يأتي من ناحيـة العقل ، كما في المقام ، حيث إنّـه يحكم بناء على الترتّب بكون الأمر با لمهم مقيّداً بما يتأخّر عن الأمر بالأهمّ ، فا لتقييد تقييد عقلي لا ربط لـه با لخطابين ، فإنّهما مطلقان ، كما لايخفى .
ثمّ إنّـه يظهر منـه أ نّـه لو لم يكن الشرط من قيود الموضوع فا للاّزم أن يكون من علل التشريع مع أنّ هنا أمراً ثا لثاً يرجع إليـه الواجب المشروط ، وهو أن
(الصفحة 137)
يكون المجعول ـ وهو الحكم ـ مقيّداً بذلك الشرط ، فإنّـه لا مجال لأن يقال بأنّ الشرط فيـه من علل التشريع ، بل المشروع والمجعول مقيّداً بـه وثابت على تقدير تحقّقـه ، كما لايخفى .
ثمّ لايخفى أنّ عدم انقلاب الواجب المشروط عن كونـه كذلك بعد تحقّق شرطـه لايتوقّف على كون الشرط من قيود الموضوع ، بل الظاهر عدم الانقلاب بناءً على ما اخترناه وحقّقناه في الواجب المشروط أيضاً ، فإنّ المراد با لحكم الذي يتوهّم انقلابـه عند تحقّق شرطـه هل هو الجزاء المترتّب على الشرط .
وبعبارة اُخرى : الجملـة المتضمّنـة للبعث ، فمن الواضح عدم معقوليـة عروض الانقلاب لـه .
وإن كان المراد بـه هي الإرادة التشريعيـة ، فقد عرفت أنّ معناها ليس إرادة إتيان العبد بـه ، كيف ومن المستحيل انفكاك الإتيان عنها ، بل معناها يرجع إلى إرادة الجعل والتشريع التي يعبّر عنها با لفارسيـة بـ (قانونگذارى) ومن المعلوم استحا لـة عروض التغيّر والانقلاب لها ، بل لا معنى لانقلابها ، كما لايخفى .
وأمّا المقدّمـة الثالثـة:
فمقارنـة زمان الشرط والتكليف والامتثال وإن كانت مسلّمةً إلاّ أنّ ما أجاب بـه عن الإشكال الثاني الذي يرجع إلى أنّ الترتّب مستلزم لإيجاب الجمع لايتمّ ، كما سيجيء في الجواب عن المقدّمـة الخامسـة .
وأمّا المقدّمـة الرابعـة:
التي يبتنى عليها الترتّب والطوليـة ، فيرد على التقسيم إلى الأقسام الثلاثـة أنّ الإطلاق ليس معناه إلاّ مجرّد أخذ الشيء موضوعاً للحكم مع عدم تقييده ببعض القيود ، فمن أجل أ نّـه فاعل مختار يمكن لـه بيان ما لَـه دخلٌ في موضوع حكمـه ، ومع ذلك فلم يأخذ شيئاً آخر ، يستفاد أنّ ذلك الشيء تمام الموضوع ، فالإطلاق اللحاظي با لمعنى الذي ذكره لا وجـه لـه أصلاً ، بل لا معنى لـه ، وحينئذ فنقول : إنّ الإطلاق با لمعنى الذي ذكرنا على