(الصفحة 189)
الإطلاق من الدلالات اللفظيـة ، بل من الدلالات العقليـة ، نظير حكم العقل بكون معنى اللّفظ الصادر من المتكلّم المختار مراداً لـه .
وبا لجملـة ، فالإطلاق عبارة عن تماميـة ما جعل متعلّقاً للحكم من حيث كونـه متعلّقاً لـه بمعنى عدم مدخليـة شيء آخر فيـه ، وأين هذا ممّا ذكر من أ نّـه عبارة عن ملاحظـة الشمول والسريان ، وقد عرفت ما فيـه .
وما اشتهر بينهم من أنّ الطبيعـة اللا بشرط يجتمع مع ألف شرط ليس معناه اتّحادها مع الشروط في عا لم المفهوميـة بحيث تكون حاكيةً لها وكاشفةً عنها ، بل معناه عدم إبائها عن اتّحاد بعض المفاهيم الاُخر معها في عا لم الوجود الذي هو جامع العناوين المختلفـة والمفاهيم المتشتّتـة ، وإلاّ فكيف يمكن أن يكشف بعض المفاهيم عن البعض الآخر في عا لم المفهوميـة مع ثبوت الاختلاف بينهما ، كما هو واضح .
المقدّمـة الثالثـة ـ التي هي العمدة في هذا الباب ـ:
أنّ متعلّق التكا ليف والأحكام إنّما هي نفس الطبائع والعناوين ، لا الطبيعـة الموجودة في العين ولا الماهيّـة المتحقّقـة في الذهن ، فاتّصافها بكونها موجودةً في الذهن أو الخارج خارج عن مرحلـة تعلّق الأحكام بها ، نظير سائر الأحكام الطارئـة على الطبائع من الكلّيـة والاشتراك ونحوهما ، ضرورة أنّ الطبيعـة الموجودة في الخارج لايعقل أن تتّصف با لكلّيـة ; لإبائها عن الصدق على الكثيرين ، وكذا الطبيعـة بوصف وجودها في الذهن ، بداهـة أ نّها أيضاً تكون جزئيّاً غير قابل للصدق واتّصافها بوصف الكلّيـة والاشتراك ونحوهما وإن كان في الذهن إلاّ أ نّـه لاينافي ذلك كون المعروض لهما إنّما هي نفس الطبيعـة بلا ملاحظـة وجودها الذهني ، ضرورة أ نّـه بمجرّد تصوّرها يحمل عليـه تلك الأحكام ، ولو كان اتّصافها با لوجود الذهني دخيلاً في هذا الحمل ، لاحتاج إلى تصوّر آخر متعلّقاً با لطبيعـة متقيّدة
(الصفحة 190)
بكونها متصوّرة با لتصوّر الأوّلي ; إذ التصوّر الأوّل إنّما تعلّق بنفس الطبيعـة فقط ، ولايعقل أن يتعلّق بها مع وصف كونها متصوّرةً بهذا التصوّر ، كما هو واضح .
وكيف كان فلا إشكال في كون المعروض لوصف الكلّيـة والاشتراك ونحوهما إنّما هي الطبيعـة المجرّدة عن الوجود العيني والذهني ، وإنّما الإشكال في متعلّق الأحكام وأ نّـه هل متعلّقاتها هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودين وإن كان ظرف التعلّق الذهن ، نظير الكلّيـة المعروضـة لها في الذهن ولكن لم يكن ذلك مأخوذاً على نحو القضيـة الشرطيـة ، بل على نحو القضيـة الحينيّـة ، وإلاّ لما كان يعرض لها بمجرّد تصوّرها ووجودها في الذهن ; إذ لايمكن في هذا اللحاظ تصوّر تعلّق اللحاظ بها أيضاً ، كما هو واضح ، أو أنّ متعلّقات الأحكام هي الطبائع المتّصفـة با لوجود الذهني ، أو أنّ متعلّقاتها هي الطبائع المنصبغـة بصبغـة الوجود الخارجي ؟ وجوه .
وا لتحقيق يقضي بأنّ معروض الأحكام هو بعينـه معروض الكلّيـة والاشتراك ونحوهما من لوازم نفس الماهيّات مع قطع النظر عن الوجودين ، وذلك لأنّـه لو كانت الأحكام متعلّقةً با لطبائع مع اتّصافها بوجودها في الذهن ، لكان امتثا لها ممتنعاً ; إذ لايعقل انطباق الموجود في الذهن بوصف كونـه موجوداً فيـه على الخارج ; لأنّـه أيضاً نظير الموجودات الخارجيـة يكون جزئيّاً ومتشخّصاً ، ولازمـه الإباء عن الصدق ، كما هو واضح .
ولو كانت الأحكام موضوعاتها هي الطبائع الموجودة في الخارج يلزم أن يكون تحقّقها متوقّفاً على وجودها في الخارج ; إذ لايعقل تقدّم الحكم على متعلّقـه ، ومن الواضح أنّ الغرض من البعث مثلاً إنّما هو انبعاث المكلّف بعد العلم بـه وبما يترتّب على مخا لفتـه من استحقاق العقوبـة وعلى موافقتـه من استحقاق المثوبـة ويتحرّك عضلاتـه نحو المبعوث إليـه ، فا لبعث متقدّم على الانبعاث
(الصفحة 191)
المتقدّم على تحقّق المبعوث إليـه ، فكيف يمكن أن يكون متأخّراً عنـه مع استلزام ذلك للّغويـة ; لأنّـه بعد تحقّق المبعوث إليـه المشتمل على المصلحـة التي هي الباعثـة على تعلّق البعث بـه يكون طلبـه تحصيلاً للحاصل في الأوامر ، وبعد تحقّق المزجور عنـه في النواهي يكون الزجر عنـه مستلزماً لطلب أعدام ما هو حاصل بنحو لم يحصل ، وكلاهما مستحيل بداهـة ، ولعمري أنّ سخافـة هذا الاحتمال الذي هو ظاهر بعض الأعلام(1) ممّا لا تكاد تخفى على عاقل فضلاً عن فاضل ، فلم يبق في البين إلاّ الالتزام بكون موضوعات الأحكام هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودين ، والأغراض وإن كانت مترتّبةً على الوجودات الخارجية إلاّ أ نّـه يتوصّل المولى إلى تحصيلها بسبب البعث إلى نفس الطبيعـة ; إذ لايتحقّق الانبعاث منـه ولايحصل موافقتـه إلاّ بإيجاد المبعوث إليـه في الخارج ، والتأمّل في الأوامر العرفيـة الصادرة من الموا لي با لنسبـة إلى عبيدهم يقضي بأنّ المولى في مقام إصدار الأمر لاينظر إلاّ إلى نفس الطبيعـة من دون توجّـه إلى الخصوصيّات المقارنـة لها في الوجود الغير المنفكّـة عنها ، ويبعث العبد نحوها ، غايـة الأمر أنّ تحصيل الموافقـة يتوقّف على إيجاد مطلوب المولى في الخارج وإخراجـه من كتم العدم إلى صفحـة الوجود .
وما اشتهر بينهم من التمسّك بقول أهل المعقول:
الماهيّـة من حيث هي ليست إلاّ هي لا موجودة ولا معدومـة ولا مطلوبـة ولا غير مطلوبـة لإثبات أنّ نفس الماهيّـة مع قطع النظر عن الوجودين لايمكن أن يتعلّق بها الحكم ; لأنّها ليست إلاّ هي ، كما أ نّها لا تكون كلّيـة ; لأنّها من حيث هي لا تكون كلّيةً ولا جزئيةً ، ولذا التجأ بعض المجوّزين في المقام إلى أنّ متعلّق الأحكام إنّما هي
- 1 ـ الفصول الغرويّـة: 126 / السطر 7 ـ 10.
(الصفحة 192)
ا لماهيّـة المتّصفـة بوصف الوجود الكلّي(1) ، غفلـة وذهول عن فهم مرادهم من هذا القول ، فإنّ مرادهم منـه ـ كما هو صريح كلامهم ـ أنّ الماهيّـة في مرتبـة ذاتها لايكون الوجود محمولاً عليها با لحمل الأوّلي ، وكذا العدم بمعنى أ نّهما لايكونان عين ذات الماهيّـة ولا جزءها ، وهكذا المطلوبيّـة واللاّ مطلوبيـة ، والكلّيـة والجزئيـة ، والوحدة والكثرة ، وجميع الصفات المتضادّة أو المتناقضـة ، فإنّها بأجمعها منتفيـة عن مرتبـة ذات الماهيّـة ، ولايكون شيء منها عين الماهيّـة ولا جزءها ، وإلاّ فكيف يمكن أن يرتفع عنها المتناقضان وكذا الضدّان لا ثا لث لهما في مقام الحمل الشائع الصناعي ، وحينئذ فلا منافاة بين أن لايكون وصف الكلّيـة مأخوذاً في ذاتيات الماهيّـة بحيث يكون عينها أو جزءها وبين أن يكون المعروض لـه هي نفس الماهيّـة مع قطع النظر عن الوجودين ، كما هو مقتضى التحقيق ; ضرورة أ نّـه بمجرّد تصوّرها مجرّدةً عن كافّـة الوجودات ينتقل الذهن إلى أ نّها كلّيـة غير آبيـة عن الصدق .
وهكذا مسأ لـة تعلّق الأحكام بنفس الطبائع لا تنافي كونها خارجةً عن مرتبـة ذاتها ، فالاستدلال لنفي تعلّقها بنفس الطبائع بهذه القاعدة الغير المرتبطـة بهذه المسأ لـة أصلاً في غير محلّـه .
وكيف كان فلا مناص إلاّ عن الالتزام بما ذكرنا من أنّ متعلّقات الأحكام هي نفس الطبائع ، ضرورة أنّ البعث إنّما هو لغرض إيجاد ما لم يكن موجوداً بعدُ ، ومن المعلوم أ نّـه ليس هنا شيء كان متّصفاً با لعدم قبل إيجاد المكلّف ، فصار متّصفاً با لوجود بعد إيجاده ، إلاّ الماهيّـة المحفوظـة في كلتا الحا لتين ; لأنّ الوجودين : العيني والذهني لاينقلبان عمّا هما عليـه ، كما هو واضح .
- 1 ـ الفصول الغرويّـة: 125 / السطر 16.
(الصفحة 193)
فانقدح من جميع ما ذكرنا:
بطلان المقدّمـة الثانيـة من المقدّمات التي مهّدها في الكفايـة لإثبات الامتناع ، الراجعـة إلى أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف ، وما هو في الخارج يصدر عنـه وهو فاعلـه وجاعلـه(1) ، إذ قد عرفت بما لا مزيد عليـه أ نّـه لايعقل أن تتعلّق الأحكام با لوجودات الخارجيـة ، وأنّ متعلّقها إنّما هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودين .
وممّا ذكرنا يظهر أيضاً:
أنّ الاستدلال ـ كما في تقريرات المحقّق النائيني(قدس سره)ـ على إثبات الجواز بثبوت التعدّد بين المتعلّقين في الخارج ، وكون التركيب بينهما انضماميّاً لا اتّحادياً ; نظراً إلى أ نّـه لو سلّم اتّحاد المتعلّقين في الخارج ، وكون التركيب بينهما اتّحادياً لايبقى مجال لدعوى تغاير متعلّق الأمر والنهي أصلاً(2) ، ليس بصحيح ; لما عرفت من أنّ متعلّق الأمر والنهي إنّما هي نفس ا لطبائع ، وهي مختلفـة في عا لم المفهوميـة ، ولا اتّحاد بينهما ، سواء كان التركيب بينهما في الخارج اتّحادياً أو انضماميّاً ، بل نقول : إنّ مورد النزاع بينهم هو ما إذا كان الموجود الخارجي بتمام هويّتـه مصداقاً للطبيعـة المأمور بها وللطبيعـة المنهيّ عنها ; لأنّـه مع فرض كون التركيب انضماميّاً لايبقى مجال للنزاع في الجواز والامتناع أصلاً ; إذ يصير حينئذ القول با لجواز من البديهيّات التي لايعتريها ريب ، نظير تعلّق الأمر با لصلاة ، والنهي با لزنا مثلاً ، كما لايخفى .
وإذا تمهّد لك هذه المقدّمات:
تعرف أنّ مقتضى التحقيق هو القول با لجواز ; لعدم اجتماع الأمر والنهي في شيء أصلاً ; لأنّ في مرحلـة تعلّق الأحكام لا إشكال في اختلاف متعلّق الأمر والنهي ; لوضوح المغايرة بين المفاهيم في عا لم
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 193.
- 2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 424 ـ 425.