(الصفحة 191)
المتقدّم على تحقّق المبعوث إليـه ، فكيف يمكن أن يكون متأخّراً عنـه مع استلزام ذلك للّغويـة ; لأنّـه بعد تحقّق المبعوث إليـه المشتمل على المصلحـة التي هي الباعثـة على تعلّق البعث بـه يكون طلبـه تحصيلاً للحاصل في الأوامر ، وبعد تحقّق المزجور عنـه في النواهي يكون الزجر عنـه مستلزماً لطلب أعدام ما هو حاصل بنحو لم يحصل ، وكلاهما مستحيل بداهـة ، ولعمري أنّ سخافـة هذا الاحتمال الذي هو ظاهر بعض الأعلام(1) ممّا لا تكاد تخفى على عاقل فضلاً عن فاضل ، فلم يبق في البين إلاّ الالتزام بكون موضوعات الأحكام هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودين ، والأغراض وإن كانت مترتّبةً على الوجودات الخارجية إلاّ أ نّـه يتوصّل المولى إلى تحصيلها بسبب البعث إلى نفس الطبيعـة ; إذ لايتحقّق الانبعاث منـه ولايحصل موافقتـه إلاّ بإيجاد المبعوث إليـه في الخارج ، والتأمّل في الأوامر العرفيـة الصادرة من الموا لي با لنسبـة إلى عبيدهم يقضي بأنّ المولى في مقام إصدار الأمر لاينظر إلاّ إلى نفس الطبيعـة من دون توجّـه إلى الخصوصيّات المقارنـة لها في الوجود الغير المنفكّـة عنها ، ويبعث العبد نحوها ، غايـة الأمر أنّ تحصيل الموافقـة يتوقّف على إيجاد مطلوب المولى في الخارج وإخراجـه من كتم العدم إلى صفحـة الوجود .
وما اشتهر بينهم من التمسّك بقول أهل المعقول:
الماهيّـة من حيث هي ليست إلاّ هي لا موجودة ولا معدومـة ولا مطلوبـة ولا غير مطلوبـة لإثبات أنّ نفس الماهيّـة مع قطع النظر عن الوجودين لايمكن أن يتعلّق بها الحكم ; لأنّها ليست إلاّ هي ، كما أ نّها لا تكون كلّيـة ; لأنّها من حيث هي لا تكون كلّيةً ولا جزئيةً ، ولذا التجأ بعض المجوّزين في المقام إلى أنّ متعلّق الأحكام إنّما هي
- 1 ـ الفصول الغرويّـة: 126 / السطر 7 ـ 10.
(الصفحة 192)
ا لماهيّـة المتّصفـة بوصف الوجود الكلّي(1) ، غفلـة وذهول عن فهم مرادهم من هذا القول ، فإنّ مرادهم منـه ـ كما هو صريح كلامهم ـ أنّ الماهيّـة في مرتبـة ذاتها لايكون الوجود محمولاً عليها با لحمل الأوّلي ، وكذا العدم بمعنى أ نّهما لايكونان عين ذات الماهيّـة ولا جزءها ، وهكذا المطلوبيّـة واللاّ مطلوبيـة ، والكلّيـة والجزئيـة ، والوحدة والكثرة ، وجميع الصفات المتضادّة أو المتناقضـة ، فإنّها بأجمعها منتفيـة عن مرتبـة ذات الماهيّـة ، ولايكون شيء منها عين الماهيّـة ولا جزءها ، وإلاّ فكيف يمكن أن يرتفع عنها المتناقضان وكذا الضدّان لا ثا لث لهما في مقام الحمل الشائع الصناعي ، وحينئذ فلا منافاة بين أن لايكون وصف الكلّيـة مأخوذاً في ذاتيات الماهيّـة بحيث يكون عينها أو جزءها وبين أن يكون المعروض لـه هي نفس الماهيّـة مع قطع النظر عن الوجودين ، كما هو مقتضى التحقيق ; ضرورة أ نّـه بمجرّد تصوّرها مجرّدةً عن كافّـة الوجودات ينتقل الذهن إلى أ نّها كلّيـة غير آبيـة عن الصدق .
وهكذا مسأ لـة تعلّق الأحكام بنفس الطبائع لا تنافي كونها خارجةً عن مرتبـة ذاتها ، فالاستدلال لنفي تعلّقها بنفس الطبائع بهذه القاعدة الغير المرتبطـة بهذه المسأ لـة أصلاً في غير محلّـه .
وكيف كان فلا مناص إلاّ عن الالتزام بما ذكرنا من أنّ متعلّقات الأحكام هي نفس الطبائع ، ضرورة أنّ البعث إنّما هو لغرض إيجاد ما لم يكن موجوداً بعدُ ، ومن المعلوم أ نّـه ليس هنا شيء كان متّصفاً با لعدم قبل إيجاد المكلّف ، فصار متّصفاً با لوجود بعد إيجاده ، إلاّ الماهيّـة المحفوظـة في كلتا الحا لتين ; لأنّ الوجودين : العيني والذهني لاينقلبان عمّا هما عليـه ، كما هو واضح .
- 1 ـ الفصول الغرويّـة: 125 / السطر 16.
(الصفحة 193)
فانقدح من جميع ما ذكرنا:
بطلان المقدّمـة الثانيـة من المقدّمات التي مهّدها في الكفايـة لإثبات الامتناع ، الراجعـة إلى أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف ، وما هو في الخارج يصدر عنـه وهو فاعلـه وجاعلـه(1) ، إذ قد عرفت بما لا مزيد عليـه أ نّـه لايعقل أن تتعلّق الأحكام با لوجودات الخارجيـة ، وأنّ متعلّقها إنّما هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودين .
وممّا ذكرنا يظهر أيضاً:
أنّ الاستدلال ـ كما في تقريرات المحقّق النائيني(قدس سره)ـ على إثبات الجواز بثبوت التعدّد بين المتعلّقين في الخارج ، وكون التركيب بينهما انضماميّاً لا اتّحادياً ; نظراً إلى أ نّـه لو سلّم اتّحاد المتعلّقين في الخارج ، وكون التركيب بينهما اتّحادياً لايبقى مجال لدعوى تغاير متعلّق الأمر والنهي أصلاً(2) ، ليس بصحيح ; لما عرفت من أنّ متعلّق الأمر والنهي إنّما هي نفس ا لطبائع ، وهي مختلفـة في عا لم المفهوميـة ، ولا اتّحاد بينهما ، سواء كان التركيب بينهما في الخارج اتّحادياً أو انضماميّاً ، بل نقول : إنّ مورد النزاع بينهم هو ما إذا كان الموجود الخارجي بتمام هويّتـه مصداقاً للطبيعـة المأمور بها وللطبيعـة المنهيّ عنها ; لأنّـه مع فرض كون التركيب انضماميّاً لايبقى مجال للنزاع في الجواز والامتناع أصلاً ; إذ يصير حينئذ القول با لجواز من البديهيّات التي لايعتريها ريب ، نظير تعلّق الأمر با لصلاة ، والنهي با لزنا مثلاً ، كما لايخفى .
وإذا تمهّد لك هذه المقدّمات:
تعرف أنّ مقتضى التحقيق هو القول با لجواز ; لعدم اجتماع الأمر والنهي في شيء أصلاً ; لأنّ في مرحلـة تعلّق الأحكام لا إشكال في اختلاف متعلّق الأمر والنهي ; لوضوح المغايرة بين المفاهيم في عا لم
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 193.
- 2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 424 ـ 425.
(الصفحة 194)
ا لمفهوميـة ، وفي مرحلـة التحقّق في الخارج التي يجتمع فيها المتعلّقان لا إشكال في عدم كونهما مأموراً بـه ومنهيّاً عنـه ; لأنّ الخارج ظرف الامتثال لا ظرف ثبوت التكليف ، كما عرفت بما لا مزيد عليـه ، فأين يلزم الاجتماع ؟
حول استدلال القائلين بالامتناع
استدلّ القائلون بالامتناع على اُمور :
الأمر الأوّل: لزوم اجتماع الأمر والنهي
ومنـه ظهر بطلان استدلال القائلين بالامتناع بأنّ لازم القول با لجواز اجتماع الأمر والنهي ـ مع كونهما متضادّين ـ على شيء واحد ; إذ لو سلّمنا ثبوت التضادّ بين الأحكام ولكن ذلك فرع اجتماعها في شيء واحد ، وقد عرفت أ نّـه لايلزم الاجتماع أصلاً .
الأمر الثاني: لزوم اجتماع الحبّ والبغض وغيرهما
وأمّا استدلالهم على الامتناع بلزوم تعلّق الحبّ والبغض وكذا الإرادة والكراهـة بشيء واحد ولزوم كونـه ذا مصلحـة ملزمـة ومفسدة كذلك معاً مع وضوح التضادّ بين هذه الأوصاف ، فيرد عليـه : أنّ المحبوبيـة والمبغوضيـة ليستا من الأوصاف الحقيقيـة للأشياء الخارجيـة ، نظير السواد والبياض وغيرهما من الأعراض الخارجيـة ، كيف ولازم ذلك استحا لـة كون شيء واحد في آن واحد مبغوضاً لشخص ومحبوباً لشخص آخر ، كما أ نّـه يستحيل أن يتّصف الجسم الخارجي با لسواد والبياض معاً في آن واحد ولو من ناحيـة شخصين بداهـة ، بل
(الصفحة 195)
ولازمـه عدم اتّصاف الفعل قبل وجوده الخارجي بشيء منهما ، نظير أ نّـه لايعقل أن يتّصف الجسم با لسواد مثلاً قبل تحقّقـه في الخارج ، بداهـة أ نّـه يستحيل أن يوجد الوصف الحقيقي قبل تحقّق موصوفـه ، ومن المعلوم في المقام أنّ الاتّصاف با لمحبوبيـة قبل وجود المحبوب وتحقّقـه في الخارج ، بل كثيراً ما يكون الداعي والمحرِّك إلى إيجاده في الخارج إنّما هو تعلّق الحبّ بـه ، وكونـه متّصفاً با لمحبوبيّـة .
وكيف كان فهذا المعنى ممّا لايتّكل إليـه أصلاً ، بل المحبوبيّـة والمبغوضيّـة وصفان اعتباريان ينتزعان من تعلّق الحبّ والبغض با لصورة الحاكيـة عن المحبوب والمبغوض .
توضيح ذلك : أ نّـه لا إشكال في أنّ الحبّ وكذا البغض إنّما يكون من الأوصاف النفسانيـة القائمـة با لنفس ، وحيث إنّ تحقّقـه في النفس بنحو الإطلاق غير مضاف إلى شيء ممّا لايعقل ، فلا محا لـة يحتاج في تحقّقـه إلى متعلّق مضاف إليـه ومشخّص يتشخّص بـه ، ولايعقل أن يكون ذلك المشخّص هو الموجود الخارجي ; لأنّـه يستحيل أن يكون الأمر الخارج عن النفس مشخّصاً للصفـة القائمـة بها ، كما هو واضح .
مضافاً إلى ما عرفت من أنّ المحبوب ـ أي الفعل الخارجي ـ إنّما يكون محبوباً قبل تحقّقـه ووجوده في الخارج ، فكيف يمكن أن يكون الأمر الذي لايتحقّق في الخارج أصلاً أو لم يتحقّق بعدُ ولكن يوجد في الاستقبال مشخّصاً فعلاً ؟ ! كما هو واضح ، فلا محا لـة يكون المشخّص هو الأمر الذهني الموجود في النفس ، والمحبوب إنّما هو ذلك الأمر ، غايـة الأمر أ نّـه حيث يكون ذلك الأمر صورةً ذهنيـة للفعل الخارجي ووجهاً وعنواناً لـه ينسب إليـه المحبوبيـة با لعرض ; لفناء تلك الصورة في ذيها ، وذلك الوجـه في ذي الوجـه ، ولايخفى أنّ