(الصفحة 195)
ولازمـه عدم اتّصاف الفعل قبل وجوده الخارجي بشيء منهما ، نظير أ نّـه لايعقل أن يتّصف الجسم با لسواد مثلاً قبل تحقّقـه في الخارج ، بداهـة أ نّـه يستحيل أن يوجد الوصف الحقيقي قبل تحقّق موصوفـه ، ومن المعلوم في المقام أنّ الاتّصاف با لمحبوبيـة قبل وجود المحبوب وتحقّقـه في الخارج ، بل كثيراً ما يكون الداعي والمحرِّك إلى إيجاده في الخارج إنّما هو تعلّق الحبّ بـه ، وكونـه متّصفاً با لمحبوبيّـة .
وكيف كان فهذا المعنى ممّا لايتّكل إليـه أصلاً ، بل المحبوبيّـة والمبغوضيّـة وصفان اعتباريان ينتزعان من تعلّق الحبّ والبغض با لصورة الحاكيـة عن المحبوب والمبغوض .
توضيح ذلك : أ نّـه لا إشكال في أنّ الحبّ وكذا البغض إنّما يكون من الأوصاف النفسانيـة القائمـة با لنفس ، وحيث إنّ تحقّقـه في النفس بنحو الإطلاق غير مضاف إلى شيء ممّا لايعقل ، فلا محا لـة يحتاج في تحقّقـه إلى متعلّق مضاف إليـه ومشخّص يتشخّص بـه ، ولايعقل أن يكون ذلك المشخّص هو الموجود الخارجي ; لأنّـه يستحيل أن يكون الأمر الخارج عن النفس مشخّصاً للصفـة القائمـة بها ، كما هو واضح .
مضافاً إلى ما عرفت من أنّ المحبوب ـ أي الفعل الخارجي ـ إنّما يكون محبوباً قبل تحقّقـه ووجوده في الخارج ، فكيف يمكن أن يكون الأمر الذي لايتحقّق في الخارج أصلاً أو لم يتحقّق بعدُ ولكن يوجد في الاستقبال مشخّصاً فعلاً ؟ ! كما هو واضح ، فلا محا لـة يكون المشخّص هو الأمر الذهني الموجود في النفس ، والمحبوب إنّما هو ذلك الأمر ، غايـة الأمر أ نّـه حيث يكون ذلك الأمر صورةً ذهنيـة للفعل الخارجي ووجهاً وعنواناً لـه ينسب إليـه المحبوبيـة با لعرض ; لفناء تلك الصورة في ذيها ، وذلك الوجـه في ذي الوجـه ، ولايخفى أنّ
(الصفحة 196)
معنى الفناء والوجـه والمرآتيـة ليس راجعاً إلاّ سببيّـة ذلك لتعلّق الحبّ بـه وطريقتـه إليـه ، بل معنى تعلّق الحبّ بـه تعلّقـه بوجهـه وعنوانـه فقط ، نظير العلم وأشباهـه ، فإنّـه أيضاً من الصفات النفسانيـة القائمـة با لنفس المتحقّقـة فيها المتشخّصـة بصورة المعلوم الحاكيـة لـه الموجودة في النفس ، وتوصيف الخارج با لمعلوميـة إنّما هو با لعرض ، وإلاّ فكيف يمكن أن يتّصف بذلك قبل تحقّقـه ؟ ! مع أ نّا نعلم با لبداهـة كثيراً من الاُمور المستقبلـة ، مضافاً إلى أ نّـه كيف يمكن حينئذ أن يكون شيء واحد معلوماً لأحد ومجهولاً لآخر ؟ ! كما لا يخفى .
وكيف كان ، فظهر أنّ المحبوبيّـة والمبغوضيـة إنّما تنتزعان من تعلّق الحبّ والبغض با لصور الذهنيـة للأشياء الخارجيـة ، ولاريب في أنّ تعدّد الأمر الانتزاعي وكذا وحدتـه إنّما هو بلحاظ تعدّد منشأ انتزاعـه ووحدتـه ، ومن المعلوم تعدّده في المقام ; إذ لاشكّ في أنّ الصورة الحاكيـة عن وجود الصلاة تغاير الصورة الحاكيـة عن وجود الغصب ; إذ لايعقل أن يكون عنوان الصلاة ووجهها عنواناً للغصب ووجهاً لـه ، كما هو واضح ، فكيف يلزم أن يكون شيء واحد مبغوضاً ومحبوباً معاً ؟ !
ومنـه يظهر أ نّـه لايلزم اجتماع الإرادة والكراهـة أيضاً .
الأمر الثالث: لزوم اجتماع الصلاح والفساد
وأمّا لزوم اجتماع الصلاح والفساد في شيء واحد ، فيدفعـه أنّ الصلاح والفساد ليسا من الاُمور الحقيقيّـة القائمـة با لفعل بحيث يتحقّقان بتحقّقـه ، بل إنّما هما نظير الحسن والقبح المتّصف بهما الأشياء ، ومن المعلوم أ نّـه لاريب في إمكان اتّصاف شيء با لحسن لأجل انطباق عنوان حسن عليـه ، وبا لقبح أيضاً لأجل انطباق عنوان قبيح عليـه ، فكذا في المقام نقول بأ نّـه لابأس أن يتّصف شيء
(الصفحة 197)
واحد بكونـه ذا صلاح وفساد معاً لأجل انطباق عنوانين عليـه : أحدهما ذا مصلحـة ، والآخر ذا مفسدة .
وبا لجملـة ، فاتّصاف الشيء بكونـه ذا مصلحـة إنّما هو لكونـه مصداقاً للعنوان الذي يكون كذلك ، وكذا اتّصافـه بكونـه ذا مفسدة ، فإذا جاز أن يكون شيء واحد مصداقاً لعنوانين متغايرين ـ كما هو المفروض ـ فلِمَ لايجوز أن يتّصف با لصلاح والفساد معاً لأجل كونـه مصداقاً لهما ؟ فهل يشكّ العقل في صلاح حفظ ولد المولى مثلاً من الهلكـة في دار الغير ؟ من حيث إنّـه حفظ لـه وفي فساده من حيث التصرّف في مال الغير ، ولايجوز المدح من الحيثيّـة الاُولى ، والذمّ من الحيثيّـة الثانيـة .
ومن هنا تظهر المناقشـة فيما ذكرناه سابقاً:
من عدم ترتّب صحّـة الصلاة في الدار المغصوبـة على القول بجواز الاجتماع ; لاستحا لـة أن يكون المبعّد مقرّباً .
بيانها : أنّ معنى البعد والقرب ليس هو البُعْد والقرب المكاني حتّى يستحيل أن يكون المقرّب مبعّداً أو با لعكس ، بل معناهما هو القرب والبُعْد بحسب المكانـة والمنزلـة ، ومن المعلوم أنّ تحصيل المنزلـة والقرب بساحـة المولى بسبب الإطاعـة إنّما هو لكون الفعل الخارجي مصداقاً للعنوان الذي يكون متعلّقاً لأمر المولى ، كما أنّ حصول البُعْد عن ساحتـه إنّما هو للإتيان با لفعل الذي يكون مصداقاً للعنوان المزجور عنـه ، وحينئذ فأيّ مانع يلزم من أن يكون فعل واحد مقرّباً للعبد من حيث مصداقيّتـه للمأمور بـه ، ومبعّداً لـه أيضاً من حيث تحقّق العنوان المزجور عنـه بـه ، وحينئذ فلايتمّ ما اشتهر في ألسن المتأخّرين من أنّ المبعّد لايمكن أن يكون مقرّباً .
(الصفحة 198)حول التضادّ بين الأحكام الخمسـة
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ مقتضى التحقيق هو القول با لجواز ولو سلّم ثبوت التضادّ بين الأحكام ، كما هو الشائع ، مضافاً إلى أ نّـه لا نسلّم ذلك أصلاً .
توضيحـه : أنّ الضدّين عبارة عن الماهيّتين النوعيتين المشتركتين في جنس قريب مع ثبوت الاختلاف والبُعْد بينهما ، كما في تعريف المتقدّمين من الحكماء ، أو غايـة البعد والاختلاف ، كما في تعريف المتأخّرين منهم ، وحينئذ فنقول : إن كان الحكم عبارة عن الإرادة المظهرة ، فلاينطبق عليـه تعريف الضدّين أصلاً ; لأنّـه حينئذ ماهيـة واحدة ، وهي حقيقـة الإرادة المتحقّقـة في جميع الأحكام ، ضرورة أ نّها بأجمعها أفعال للمولى مسبوقـة بالإرادة بلا فرق بين الحكم التحريمي والوجوبي من هذه الجهـة وإن كان متعلّق الإرادة في الأوّل هو الزجر ، وفي الثاني هو البعث ، إلاّ أنّ ذلك لايوجب الاختلاف بينهما ; لأنّ قضيّـة تشخّص الإرادة با لمراد هو كون اختلاف المرادات موجباً لتحقّق أشخاص من الإرادة ، ولايوجب ذلك تعدّد حقيقـة الإرادة وماهيّتها ، كما هو واضح .
فاعتبار كون الضدّين مهيّتين يخرج الإرادة وأمثا لها من الحقائق با لنسبـة إلى أفرادها عن التعريف كما لايخفى .
وإن كان الحكم عبارة عن نفس البعث والزجر المتحقّقين بقول : إفعل ولا تفعل ، مثلاً ، فهو أيضاً خارج عن التعريف ; لأنّـه ـ مضافاً إلى أنّ البعث في الوجوب والاستحباب على نهج واحد ، غايـة الأمر ثبوت الاختلاف بينهما في إرادتـه حيث إنّ الوجوب عبارة عن البعث الناشئ من الإرادة القويـة ، والاستحباب عبارة عن البعث الناشئ عن الإرادة الضعيفـة ، وكذا الزجر في الحرمـة والكراهـة ، فإنّـه فيهما على نحو واحد والاختلاف إنّما هو في إرادتـه ،
(الصفحة 199)
وحينئذ فكيف يمكن القول با لتضادّ بين الوجوب والاستحباب ، وكذا بين الحرمـة والكراهـة ؟ ! مع أنّ القائل يدّعي تضادّ الأحكام بأسرها ـ نقول : إنّـه لو سلّم الاختلاف في جميع الأحكام وقطعنا النظر عن عدم اختلاف حقيقـة الوجوب والاستحباب وكذا الحرمـة والكراهـة ، فلا نسلّم التضاد بينها ; لأنّ ثبوتـه مبنيّ على أن يكون متعلّق البعث والزجر هو الوجود الخارجي ; إذ لو كان متعلّقهما هي الطبائع والماهيّات الكلّيـة ، كما عرفت بما لا مزيد عليـه أ نّـه هو مقتضى التحقيق ، فهما لايكونان بمتضادّين أيضاً ; لأنّ الماهيّـة قابلـة لاجتماع العناوين المتضادّة فيها ، ولاتّصافها بكل واحد منها في زمان واحد .
ألا ترى أنّ ماهيـة الإنسان موجودة ومعدومـة في زمان واحد ، كما عرفت ، وكذا ماهيّـة الجسم متّصفـة با لسواد والبياض معاً في زمان واحد .
فظهر أ نّـه لو كان متعلّق البعث والزجر هي طبيعـة واحدة ، فاستحا لتـه ليس من جهـة لزوم اجتماع المتضادّين على شيء واحد ، بل من جهـة أمر آخر ، وهو لزوم التكليف با لمحال من جهـة عدم القدرة على الامتثال ، وإلاّ يلزم عدم إمكان تعلّق البعث والزجر بطبيعـة واحدة ولو من ناحيـة شخصين ، كما أ نّـه لايعقل تحقّق البياض والسواد واجتماعهما على موجود خارجي مطلقاً ولو كان لـه علّتان ، ومن الواضح في المقام خلافـه .
وبا لجملـة ، فعلّـة ثبوت التضادّ بين شيئين إنّما هو عدم اجتماعهما على الموجود الخارجي الواحد ، وإلاّ يلزم عدم تحقّق التضادّ أصلاً ; لما عرفت من أنّ الماهيّـة قابلـة للاتّصاف بجميع العناوين المتضادّة في زمان واحد ، وقد عرفت أنّ متعلّق البعث والزجر ليس هو الوجود الخارجي بمعنى أ نّـه لايعقل أن يصير الموجود في الخارج مبعوثاً إليـه ومزجوراً عنـه أصلاً .
وإن كان الحكم عبارةً عن الأمر الاعتباري المنتزع عن البعث والزجر ،
|