(الصفحة 252)
سبب جعلي لا عقلي ولا عادي ، ومعنى السبب الجعلي هو أنّ لها نحو اقتضاء في نظر الجاعل بحيث لو انقدح في نفوسنا لكنّا جازمين با لسببيّـة ، إلاّ أنّ الإنصاف أ نّـه لايسمن ; فإنّ معنى جعل السببيّـة ليس إلاّ مطلوبيـة المسبّب عند وجود السبب ، فا لتعويل على الوجـه الأوّل(1) . انتهى ملخّصاً .
أقول:
المراد بتعدّد الاشتغال الحاصل من كلّ سبب لابدّ وأن يكون هو الوجوب الجائي عقيبـه ، وقد عرفت أنّ تعدّد الوجوب لايستلزم تعدّد الواجب ; لاحتمال أن يكون الوجوب الثاني تأكيداً للأوّل ، فتعدّد الاشتغال بهذا المعنى لايوجب تعدّد المشتغل بـه .
ثمّ إنّ قولـه:
هذا إن اُريد من التأكيد إلى آخره ، يرد عليـه : أنّ هذا الفرض خارج عن باب التأكيد ; لما قد حقّق سابقاً في مبحث اجتماع الأمر والنهي من أنّ متعلّق الأحكام هي الطبائع لا الوجودات ، فا لطبيعـة المتعلّقـة لأحد التحريمين في المثال تغاير الطبيعـة المتعلّقـة للآخر ; ضرورة أنّ أحدهما يتعلّق بالإفطار ، والآخر بشرب الخمر مثلاً ، فأين التأكيد ؟
ثمّ إنّ اعتبار الترتّب في تحقّق معنى التأكيد ـ كما عرفت في كلامـه ـ مندفع بأنّ الوجوب التأكيدي ليس بمعنى استعمال الهيئـة ـ مثلاً ـ في التأكيد حتّى يستلزم وجود وجوب قبلـه بل المستعملـة فيـه هو نفس الوجوب والتأكيد ينتزع من تعلّق أزيد من واحد بشيء واحد .
ألا ترى أ نّـه يتحقّق التأكيد بقول : اضرب ، والإشارة با ليد إليـه في آن واحد من دون تقدّم وتأخّر .
ثمّ إنّ الجواب الأخير ـ الذي ذكر أنّ الإنصاف أ نّـه لايسمن ـ قد جعلـه
- 1 ـ مطارح الأنظار: 180 / السطر 1 ـ 16.
(الصفحة 253)
ا لمحقّق العراقي جواباً مستقلاّ عن الإشكال ، واعتمد عليـه ، وقد عرفت منّا سابقاً استظهاره ، ولكنّـه لايندفع بـه الإشكال ; لأنّ الشرطين إنّما يقتضيان نفس طبيعـة متعلّق الجزاء ، وبعد حصولها مرّة بعدهما قد عمل بمقتضاهما معاً ، كما لايخفى .
هذا كلّـه في الأنواع المتعدّدة ، وأمّا التداخل وعدمـه با لنسبـة إلى فردين من نوع واحد ، فقد يقال بابتناء ذلك على أنّ الشرط هل هو الطبيعـة أو الأفراد .
فعلى الأوّل فلابدّ من القول با لتداخل ; لأنّ الفردين أو الأفراد من طبيعـة واحدة لايعدّ بنظر العرف إلاّ فردان أو أفراد منها ، فزيد وعمرو بنظر العرف فردان من الإنسان ، لا إنسانان ، كما هو كذلك بنظر العقل .
وعلى الثاني فلابدّ من القول بعدم التداخل ; لظهور الشرطيـة في كون كلّ فرد سبباً مستقلاّ للجزاء .
هذا ، ولكن لايخفى أنّ مورد النزاع هو ما إذا كان كلّ واحد من الأفراد سبباً مستقلاّ ، وإلاّ فلايشملـه النزاع في المقام ، فدخولـه فيـه يبتنى على كون الشرط هي الأفراد ، لا أنّ القول بعدم التداخل مبنيّ عليـه ، كما هو صريح ذلك القول المحكي ، وحينئذ فيجري فيـه جميع ما تقدّم في النوعين والأنواع المختلفـة ، والظاهر أنّ المتفاهم منها بنظر العرف أيضاً عدم التداخل با لنسبـة إلى الأفراد من جنس واحد ، فتأمّل .
وأمّا المقدّمـة الثالثـة
الراجعـة إلى أنّ تعدّد الأثر يوجب تعدّد الفعل التي يعبّر عنها بعدم تداخل المسبّبات : فقد ذكر الشيخ في التقريرات : أن لا مجال لإنكارها بعد تسليم المقدّمتين السابقتين ; لأنّا قد قرّرنا في المقدّمـة الثانيـة أنّ متعلّق التكا ليف حينئذ هو الفرد المغاير للفرد الواجب با لسبب الأوّل ، ولايعقل تداخل فردين من ماهيّـة واحدة ، بل ولايعقل ورود دليل على التداخل أيضاً على ذلك التقدير ، إلاّ أن يكون ناسخاً لحكم السببيّـة ، وأمّا تداخل الأغسال فبواسطـة
(الصفحة 254)
تداخل ماهيّاتها ، كما كشف عنـه روايـة الحقوق ، مثل تداخل الإكرام والضيافـة فيما إذا قيل : إذا جاء زيد فأكرم عا لماً ، وإن سلّم عليك فأضف هاشميّاً ، فعند وجود السببين يمكن الاكتفاء بإكرام العا لم الهاشمي على وجـه الضيافـة ، وأين ذلك من تداخل الفردين(1) . انتهى ملخّصاً .
ولايخفى أنّ المراد بكون متعلّق التكا ليف هو الفرد المغاير للفرد الواجب با لسبب الأوّل إن كان هو الفرد الخارجي ، فعدم اجتماع الفردين مسلّم لاريب فيـه ، إلاّ أ نّـه لاينبغي الإشكال في بطلانـه ; لأنّ الموجود الخارجي يستحيل أن يتعلّق التكليف بـه بعثاً كان أو زجراً ، كما قد حقّقناه سابقاً في مبحث اجتماع الأمر والنهي بما لا مزيد عليـه ، وإن كان المراد هو العنوان الذي يوجب تقييد الطبيعـة ، فنقول : إنّ القيود المقسّمـة للطبيعـة على نوعين : نوع تكون النسبـة بين القيود التخا لف بحيث لا مانع من اجتماعها على شيء واحد ، كتقييد الإنسان مثلاً بالأبيض والرومي ، ونوع تكون النسبـة بينها التباين ، كتقييده بالأبيض والأسود ، ومرجع القول بعدم التداخل إلى استحا لـة تعلّق تكليفين بطبيعـة واحدة ، ولزوم تقييدها في كلّ تكليف بقيد يغاير القيد الآخر ، وأمّا لزوم كون التغاير على نحو التباين ، فممنوع جدّاً ، بل يستفاد من ورود الدليل على التداخل كون التغاير بنحو التخا لف الغير المانع من الاجتماع ، فلايلزم أن يكون ناسخاً لحكم السببيّـة ، كما أفاده في كلامـه .
نعم مع عدم ورود الدليل عليـه لا مجال للاعتناء باحتمال كون التغاير بنحو التخا لف في مقام ا لامتثال ; لأنّ التكليف اليقيني يقتضي ا لبراءة اليقينيّـة ، ومع ا لإتيان بوجود واحد لايحصل اليقين با لبراءة عن التكليفين المعلومين ، كما هو واضح .
- 1 ـ مطارح الأنظار: 180 ـ 181.
(الصفحة 255)الأمر الرابع: في اعتبار وحدة المنطوق والمفهوم إلاّ في الحكم
لابدّ ـ بناءً على ثبوت المفهوم ـ من أخذ جميع القيود المأخوذة في الشرط أو الجزاء في ناحيـة المفهوم أيضاً ، فقولـه : إن جاءك زيد وأكرمك فأكرمـه يوم الجمعـة ، يكون مفهومـه هكذا : إن لم يجئك زيدٌ أو لم يكرمك فلا تكرمـه يوم الجمعـة .
وكذا لا إشكال في أنّ المنفي في المفهوم فيما لو كان الحكم في المنطوق حكماً مجموعياً هو نفي المجموع بحيث لاينافي ثبوت البعض .
وإنّما الإشكال فيما إذا كان الحكم في المنطوق حكماً عامّاً ، فهل المنفي في المفهوم نفي ذلك الحكم بنحو العموم ، أو نفي العموم الغير المنافي لثبوت البعض ؟
مثلاً:
قولـه(عليه السلام) :
«الماء إذا بلغ قدر كرّ لاينجّسـه شيء»(1) هل يكون مفهومـه أ نّـه إذا لم يبلغ ذلك المقدار ينجّسـه جميع الأشياء النجسـة ، أو أنّ مفهومـه : تنجّسـه با لشيء الغير المنافي لعدم تنجّسـه ببعض النجاسات ؟ وهذا هو النزاع المعروف بين صاحب الحاشيـة والشيخ(قدس سرهما) ، وقد بنى الشيخ المسأ لـة على أنّ كلمـة «ا لشيء» المأخوذة في المنطوق هل اُخذت مرآتاً للعناوين النجسـة ، مثل البول والمني والدم وغيرها بحيث كأ نّها مذكورة بدلـه ، أو أ نّها مأخوذة بعنوانـه بحيث لابدّ من أخذه في المفهوم بعنوانـه ؟ فعلى الأوّل يصير مفهومـه يتنجّس الماء القليل بجميع أنواع النجاسات ، وعلى الثاني لاينافي عدم تنجّسـه
- 1 ـ الكافي 3: 2 / 1، وسائل الشيعـة 1: 159، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب9، الحديث 6.
(الصفحة 256)
ببعضها ، كما لايخفى(1) .
هذا ، وأنت خبير بأنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم في المنطوق عند انتفاء الشرط مثلاً ، لا ثبوت حكم نقيض الحكم في المنطوق ، وحينئذ فمفهوم المثال عبارة عن أنّ الماء إذا لم يبلغ قدر كرّ ليس بلاينجّسـه شيء لا أ نّـه ينجّسـه شيء حتّى يقال بأنّ النكرة في الإثبات لايفيد العموم ، بل مدلول القضيّـة المفهوميـة هو انتفاء الحكم المنشأ في المنطوق ، وانتفاؤه في المقام لاينافي ثبوت التنجّس بجميع النجاسات ، كما أ نّـه لاينافي ثبوتـه ببعضها ، ولا دلالـة لها على أحد الأمرين أصلاً .
ويظهر الكلام في مفهوم الوصف ممّا تقدّم في مفهوم الشرط .
- 1 ـ مطارح الأنظار: 174 / السطر 29.