(الصفحة 262)
(الصفحة 263)
مقدّمـة
وقبل الخوض في بحوث العامّ والخاصّ لابأس بذكر اُمور :
الأمر الأوّل: فيما تحكي عنـه أسماء الطبائع
اعلم أنّ الألفاظ الموضوعـة بإزاء الطبائع الكلّيـة لا تكون حاكيةً إلاّ عن نفس تلك الماهيات التي وُضعت بإزائها ، فلفظ الإنسان الموضوع لطبيعـة الإنسان ـ ا لتي هي عبارة عن الحيوان الناطق ـ لايحكي إلاّ عن نفس تلك الحقيقـة ، ولايعقل أن يكون حاكياً عن الخصوصيات التي تجتمع مع الطبيعـة في الوجود الخارجي وتتّحد معها في الواقع ، وذلك لأنّـه لايعقل أن تكون الطبيعـة مرآةً للعناوين المتّحدة معها في عا لم الوجود الذي هو مجمع المتفرّقات بعد ثبوت المغايرة بينها في عا لم المفهوميـة ، فكيف يمكن أن يكون الإنسان مرآة لأصل الوجود بعد وضوح المغايرة بينها وبينـه فضلاً عن الخصوصيّات الوجوديـة ، والاتّحاد في الوجود الخارجي لاينافي عدم الحكايـة في عا لم المفهوم ، كما هو واضح .
نعم قد وضع في كلّ لغـة ألفاظ تدلّ على الكثرات والوجودات ، كلفظـة «كلّ» وأمثا لها في لغـة العرب ، فعند إضافتـه إلى كلّ شيء يفيد أفراد ذلك الشيء
(الصفحة 264)
وإن كان مدخولـه لايدلّ إلاّ على نفس الطبيعـة ، كما ذكرنا ، ويعبّر عنها بأ لفاظ العموم ، فقولـه : أكرم كلّ إنسان ، يفيد وجوب إكرام جميع ما يصدق عليـه الإنسان ، ويتّحد معـه في الخارج ، وهذا المعنى يستفاد من كلمـة «كلّ» وأمّا الإنسان فقد عرفت أ نّـه لايحكي إلاّ عن نفس الطبيعـة .
الأمر الثاني: في الفرق بين العامّ والمطلق
ثمّ لايخفى أنّ معنى العموم ـ كما عرفت ـ يرجع إلى دلالـة الألفاظ الموضوعـة لـه عليـه با لدلالـة اللفظيـة ; نظير جميع الدلالات اللفظيـة ، وأمّا الإطلاق ـ كما عرفت سابقاً ـ فهو يرجع إلى أنّ المتكلّم العاقل المختار إذا صار بصدد بيان جميع ما لـه دخل في موضوع حكمـه ولم يأخذ إلاّ ما نطق بـه وسمعـه المخاطب يستفاد من ذلك كون المذكور هو تمام الموضوع لحكمـه ، ولا مدخليـة لشيء آخر أصلاً ، وهذه الدلالـة ليست من باب دلالـة الألفاظ على معانيها ; ضرورة أنّ قولـه : أعتق رقبـة ، لايدلّ إلاّ على وجوب عتق الرقبـة واستفادة الإطلاق با لنسبـة إلى الرقبـة إنّما هي من باب حكم العقل بأنّ المتكلّم الكذائي الذي بصدد البيان محكوم بظاهر كلامـه ; لأنّـه لو كان شيء آخر دخيلاً في موضوع حكمـه ، لكان اللاّزم عليـه أن يذكر ، فهي نظير دلالـة الفعل الصادر من العاقل المختار على كون صدوره عن اختيار وإرادة ، ودلالـة التكلّم على كون مضمون الكلام مقصوداً للمتكلّم ، وحينئذ فباب الإطلاق لا ربط لـه بباب العموم أصلاً ، فما وقع من كثير منهم من أنّ العموم قد يستفاد من جهـة الوضع ، وقد يستفاد من القضيّـة عقلاً ، وقد يستفاد من جهـة الإطلاق مع وجود مقدّماتـه ليس على ما ينبغي ; لأنّ المستفاد من مقدّمات الحكمـة إنّما هو الإطلاق لا العموم ، فهو قسيم لـه لا أ نّـه قسم منـه ، كما عرفت .
(الصفحة 265)الأمر الثالث: في استغناء العامّ عن مقدّمات الحكمـة
ثمّ إنّ هنا إشكالاً ، وهو أ نّـه ليس لنا لفظ عام يدلّ على العموم مع قطع النظر عن جريان مقدّمات الحكمـة ، ضرورة أنّ كلمـة «كلّ» لا تدلّ إلاّ على استيعاب أفراد مدخولـه ، وأمّا أنّ مدخولـه مطلق أو مقيّد فلايستفاد منها أصلاً ، فإنّها تابعـة لمدخولها ، فإن اُخذ مطلقاً ، فهي تدلّ على تمام أفراد المطلق ، وإن اُخذ مقيّداً ، فهي تدلّ على جميع أفراد المقيّد ، فاستفادة العموم با لنسبـة إلى جميع أفراد المطلق موقوفـة على إحراز كون المدخول مطلقاً ، وذلك يتوقّف على إجراء مقدّمات الحكمـة ، كما هو واضح .
وقد أجاب عنـه في الدّرر(1) بما لايرجع إلى محصّل .
وا لتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ مقدّمات الحكمـة حيث تجري تكون نتيجتها إثبات الإطلاق في موضوع الحكم بمعنى أنّ تمام الموضوع لحكمـه المجعول إنّما هي الطبيعـة معرّاة عن جميع القيود ، وذلك حيث يكون الأمر دائراً بين كون الموضوع هي نفس الطبيعـة أو هي مقيّدة ، وأمّا في أمثال المقام ممّا لايكون الموضوع هو الطبيعـة بل أفرادها ـ كما فيما نحن فيـه ـ فلا مجال لإجراء المقدّمات في مدخول ألفاظ العموم بعد وضوح أنّ الموضوع ليس هو المدخول ، بل هو مع مضمون تلك الألفاظ الدالّـة على استيعاب الأفراد .
نعم بعبارة اُخرى نقول : التعبير بلفظ العموم الذي يدلّ على الاستيعاب ظاهر في كون المتكلّم متعرّضاً لبيان موضوع حكمـه ، والتعرّض ينافي الإهمال ،
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 210 ـ 211.
(الصفحة 266)
وحينئذ فا لشكّ في كون الموضوع هو جميع أفراد الرجل مثلاً أو أفراد الرجل العا لم ينشأ من احتمال الخطأ في عدم ذكر القيد ، وهو مدفوع بالأصل .
وبا لجملـة ، فمجرى المقدّمات هو ما إذا دار الأمر بين الإهمال وغيره ، وفي المقام لا مجال لاحتمال الإهمال بعد كون المتكلّم متعرّضاً لبيان الموضوع ، وأ نّـه هو جميع الأفراد ; إذ بعد دلالـة الكلام على هذه الجهـة يكون لا محا لـة الشكّ في سعـة الموضوع وضيقـه ، مستنداً إلى احتمال الخطأ في عدم ذكر القيد ، وقد عرفت أ نّـه مدفوع بالأصل العقلائي الذي يقتضي العدم ، فظهر أنّ دلالـة مثل لفظـة «كلّ» على العموم لا تحتاج إلى مقدّمات الحكمـة أصلاً ، فتأمّل فإنّـه دقيق .
الأمر الرابع: في أقسام العموم
ثمّ إنّ للعموم أقساماً من الاستغراقي والمجموعي والبدلي ، والمراد بالأوّل هو الشمول لجميع الأفراد بلا لحاظ الوحدة بينهما ، وبا لثاني هو جميعها مع ملاحظـة كونها شيئاً واحداً ، وبا لثا لث هو الشمول بحيث يكتفى بواحد منها في مقام الامتثال .
وا لظاهر أنّ كلمـة «كلّ» ونظائرها تدلّ على العموم الاستغراقي ، ولعلّ كلمـة المجموع دالّـة على المجموعي .
وا لظاهر أيضاً أنّ كلمـة «أيّ» ونظائرها تدلّ على البدلي .
ولايخفى أنّ هذه الأقسام الثلاثـة ثابتـة للموضوع مع قطع النظر عن تعلّق الحكم بـه ، كما يشهد بمراجعـة العرف ، فإنّـه لو سمع أحد منهم «كلّ رجل» مثلاً لايفهم منـه إلاّ العموم الاستغراقي ولو لم يعلم حكم ذلك الموضوع فضلاً عن كيفيّـة تعلّقـه بـه .