(الصفحة 271)
ا لأمر أ نّـه ادّعى المتكلّم تطبيقـه على ما ليس مصداقاً لـه في الواقع في المجاز .
والسرّ في ذلك:
أ نّـه لو لم يكن هذا الادّعاء في البين بل كان المجاز عبارة عن مجرّد استعمال اللّفظ الموضوع للأسد مثلاً في زيد من دون ادّعاء أ نّـه من أفراد الأسد حقيقةً ، لم يكن للاستعمال المجازي حسن أصلاً ، فأيّ حسن في مجرّد تغيير اللّفظ وتبديلـه بلفظ آخر ؟ كما هو واضح لايخفى .
وهذا لا فرق فيـه بين المجاز المرسل والاستعارة ، فإنّ استعمال كلمـة «ا لقريـة» في أهلها في قولـه تعا لى :
(واسئل القريـة)(1) لايكون محسناً إلاّ إذا كان المقصود كون القريـة كأهلها شاهدةً على المطلب وعا لمـة بها بحيث صار من شدّة الوضوح معلوماً عند نفس القريـة أيضاً ، والتأمّل في جميع الاستعمالات المجازيـة يرشدنا إلى هذا المعنى .
إذا عرفت معنى المجاز ، يظهر لك أنّ تخصيص العامّ في أكثر العمومات المتداولـة الشائعـة لايستلزم المجازيـة في العامّ أصلاً ; إذ ليس المقصود فيها ادّعاء كون ما عدا مورد المخصّص هو نفس العامّ بحيث كأ نّـه لم يكن المخصّص من أفراد العامّ أصلاً ، فإنّ قولـه تعا لى :
(أوفوا بالعقود)(2) لايتضمّن ادّعاء أنّ ا لعقود الفاسدة ـ كا لربا ونظائره ـ لا تكون عقداً حقيقـة ، بل العقد إنّما ينحصر في العقود النافذة الماضيـة في الشريعـة ، فباب العموم والخصوص ليس لـه كثير ربط با لمجاز با لمعنى المتقدّم .
نعم يبقى الكلام في الجمع بين العموم الظاهر في شمول الحكم لجميع
- 1 ـ يوسف (12): 82.
- 2 ـ المائدة (5): 1.
(الصفحة 272)
ا لأفراد وبين الخصوص الظاهر في عدم كون مورده مقصوداً من أوّل الأمر ; إذ ليس التخصيص كا لنسخ ، كما هو واضح .
والتحقيق فيـه أن يقال:
إنّ هذا النحو الذي يرجع إلى إلقاء القاعدة الكليـة أوّلاً ثمّ بيان المستثنيات شائع بين العقلاء المقنّنين للقوانين العرفيـة والجاعلين للقواعد التي يتوقّف النظام عليها ، فإنّ التأمّل فيها يرشد إلى أنّ دأبهم في ذلك هو جعل الحكم الكلّي أوّلاً ثمّ إخراج بعض المصاديق عنـه .
ولابدّ في مقام الجمع بينهما من أن يقال بأنّ البعث الكلّي المنشأ أوّلاً أو الزجر كذلك وإن كان بعثاً كلّياً حقيقةً وزجراً كذلك إلاّ أ نّـه لايكون المقصود منـه الانبعاث أو الانزجار في الجميع ، بل الانبعاث والانزجار في بعض الأفراد دون البعض الآخر ، والكاشف عن عدم كون البعث الكلّي لغرض الانبعاث في الكلّ هو ورود التخصيص الدالّ على عدم كون مورده مقصوداً من أوّل الأمر أصلاً ، فقولـه : أكرم العلماء ، بعث إلى إكرام جميع العلماء حقيقـة إلاّ أنّ إخراج الفسّاق منهم يكشف عن أنّ البعث المتوجّـه إليهم أيضاً في ضمن الجميع لايكون لغرض الانبعاث بل لغرض آخر ، والفائدة في هذا النحو من جعل الحكم يظهر في موارد الشكّ في التخصيص ، كما سيأتي .
وما ذكرنا هو الذي يرجع إليـه قولهم:
بأنّ التخصيص تخصيص في الإرادة الجدّيـة لا الاستعما ليـة ، فإنّ المراد بالإرادة الاستعما ليـة هو أنّ ظاهر الاستعمال هو تعلّق البعث مثلاً بجميع أفراد العلماء وإن كان في الواقع لايكون المقصود ـ أي تحقّق الانبعاث ـ إلاّ با لنسبـة إلى غير الفاسق منهم ، لا أنّ كلمـة «ا لعلماء» قد اُريد منها الجميع استعمالاً لا جدّاً حتّى يقال ـ كما في تقرير المحقّق النائيني ـ بأ نّا لا نتصوّر للاستعمال إرادة مغايرة للإرادة الجدّيـة ، فهي ـ أي كلمـة «ا لعلماء» ـ إن
(الصفحة 273)
اُريد معناها ، فقد اُريد جدّاً ، وإلاّ يكون هازلاً(1) ، وذلك ينشأ من عدم الوصول إلى مرادهم فإنّك عرفت أنّ مرادهم من الإرادة الاستعما ليـة هو أنّ تعلّق الحكم بجميع الأفراد مدلول عليـه بظاهر الاستعمال ، ولكن تعلّقـه في الواقع إنّما هو ببعض الأفراد ، فراجع كتاب الدّرر(2) تجده مصرّحاً بما ذكرنا في بيان مرادهم .
وكيف كان فقد عرفت:
أنّ التخصيص يكشف عن عدم تعلّق البعث لغرض الانبعاث ، والزجر لغرض الانزجار بمورد المخصّص ، فلا دليل على رفع اليد عن حجّيتـه با لنسبـة إلى الباقي بعد ظهور الكلام وعدم معارض أقوى .
ثمّ إنّـه في التقريرات ـ بعد الإشكال بعدم تصوّر الإرادة الاستعما ليـة المغايرة للإرادة الجدّيـة ـ أجاب بأنّ ا لتخصيص لايوجب المجازيـة لا في ا لأداة ولافي ا لمدخول .
أمّا في الأداة:
فلأنّها لم توضع إلاّ للدلالـة على استيعاب ما ينطبق عليـه المدخول ، وهذا لايتفاوت الحال فيها بين سعـة دائرة المدخول أو ضيقها أصلاً .
وأمّا في المدخول:
فلأنّـه لم يوضع إلاّ للطبيعـة المهملـة المعرّاة عن جميع القيود ، فا لعا لم مثلاً ليس معناه إلاّ من انكشف لديـه الشيء من دون دخل العدا لـة وغيرها فيـه أصلاً ، فلو قيّد العا لم با لعادل مثلاً لم يستلزم ذلك مجازاً في لفظ العا لم أصلاً ; لأنّـه لم يستعمل إلاّ في معناه ، وخصوصيّـة العدا لـة إنّما استفيدت من دالّ آخر ، وهذا لا فرق فيـه بين اتّصال القيد وانفصا لـه وعدم ذكر القيد أصلاً(3) .
أقول:
أمّا عدم لزوم المجاز في الأداة فهو مسلّم ، وكذا في المدخول فيما إذا
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 517.
- 2 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 212 ـ 213.
- 3 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 518.
(الصفحة 274)
كان المخصّص متّصلاً ، وأمّا في المخصّص المنفصل فنقول : ما الذي اُريد با لعا لم قبل ورود التخصيص عليـه ؟ فإن اُريد الجميع من غير اختصاص با لعادل ـ كما هو ظاهر اللّفظ ـ فهو ينافي إخراج الفسّاق بعده ، وإن اُريد خصوص العادل ، فإن استعمل لفظ العا لم في خصوص العادل منـه ، فهو لو لم نقل بكونـه غلطاً فلا محا لـة يكون مجازاً ، وإن لم يستعمل فيـه فهو هازل ، كما صرّح بـه في الإشكال .
فالإنصاف أ نّـه لا مفرّ من الإرادة الاستعما ليـة با لمعنى الذي ذكرنا ، وعدم لزوم المجاز ; لما عرفت من عدم ارتباط المقام بباب المجازات أصلاً .
ثمّ إنّ ما ذكره بعض المحقّقين:
ـ من محشّي الكفايـة ـ من أنّ الإنشاء الواحد لو كان بعثاً حقيقيّاً بالإضافـة إلى البعض دون البعض الآخر مع كونـه متعلّقاً بـه في مرحلـة الإنشاء يلزم صدور الواحد عن داعيين بلا جهـة جامعـة تكون هو الداعي(1) ، ففيـه : أنّ الداعي في أمثال المقام ليس راجعاً إلى ما يصدر منـه الفعل حتّى يقال بأنّ الواحد لايصدر إلاّ من واحد ، والدليل على ذلك مانراه با لوجدان من اجتماع الدواعي المختلفـة على بعض الأفعال الصادرة منّا ، ولا استحا لـة فيـه أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .
والمحكي عن المقالات:
أ نّـه ذكر في وجـه حجّيـة العامّ في الباقي أنّ الكثرة والشمول الذي هو معنى العامّ يسري إلى لفظـه ، فكأ نّـه أيضاً كثير ، فسقوط بعض الألفاظ عن الحجّيـة لايستلزم سقوط الباقي(2) .
ويقرب هذا ممّا ذكره الشيخ في التقريرات في وجـه الحجّيـة بعد تسليم
- 1 ـ نهايـة الدرايـة 2: 450.
- 2 ـ مقالات الاُصول 1: 437 ـ 438.
(الصفحة 275)
ا لمجازيـة(1) .
ولايخفى أنّ هذا الكلام ـ الذي با لشعر أشبـه ـ مردود : بأنّ سرايـة الكثرة إلى اللّفظ ممّا لا معنى لها أصلاً ، نظير القول بسرايـة الحسن والقبح إلى الألفاظ ، فإنّ من الواضح أنّ اللّفظ من حيث هو لايكون حسناً ولا قبيحاً ، ولذا لو اُلقي على الجاهل بمعناه لم يتوجّـه إلى شيء منهما ، كما لايخفى .
- 1 ـ مطارح الأنظار: 192 / السطر 17.