(الصفحة 303)
ا لعمومات الواقعـة في القوانين التي يجعلها العقلاء لنظام اُمورهم على ما هو المتداول بينهم ، فإنّ جعل القانون يقتضي أن يجعل في الأوّل أمراً كليّاً ثمّ بيان المخصّصات والمستثنيات في الفصول المتأخّرة والقوانين الموضوعـة في الشريعـة إنّما هي على هذا المنوال ، ولم تكن مجعولةً على غير النهج المتعارف بين العقلاء المقنّنين للقوانين الدنيويـة التي يكون المقصود بها انتظام اُمورهم ، وهذا بخلاف العمومات الواقعـة في ألسنـة أهل المحاورات التي لو كان المقصود بها غير ما هو ظاهرها لاتّصل بـه ما يدلّ على ذلك نوعاً ، ولم يكن دأبهم بيان العموم ثمّ ذكر المخصّص لو كان مخصّصاً في البين ، فأصا لـة العموم في هذا النحو من العمومات متّبعـة مطلقاً ، بخلاف ما كان من قبيل الأوّل ، فإنّ جريانها فيـه مشروط با لفحص واليأس عن الظفر با لخاصّ .
ومن هنا يظهر:
أنّ الفحص هنا أيضاً يكون عمّا لا حجّيـة للعامّ بدون الفحص عنـه نظيره في الاُصول العمليـة التي لم تكن حجّةً قبل الفحص أصلاً ; لما عرفت من أنّ جريانها مشروط با لفحص فقبلـه لايكون هنا حجّـة أصلاً ; لتوقّف الحجيّـة على إحراز كون مدلول الكلام مراداً جدّياً للمولى ، وهذا المعنى إنّما يثبت بعد جريان أصا لـة العموم التي تكون مشروطةً با لفحص ، فعدم جريانها قبلـه يوجب عدم حجّيـة العامّ .
فظهر أنّ العامّ قبل الفحص عن المخصّص لايكون حجّةً أصلاً ، كما أنّ الاُصول العمليـة أيضاً كذلك .
فانقدح بذلك:
فساد ما في الكفايـة(1) من الفرق بين الفحص في المقامين بأنّ الفحص هنا عمّا يزاحم الحجّيـة ، بخلافـه هناك ; فإنّـه بدونـه لا حجّـة .
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 265 ـ 266.
(الصفحة 304)
وجه الفساد ما عرفت من أنّ العامّ قبل الفحص أيضاً لايكون حجّةً ; لما مرّ .
ثمّ لايخفى أ نّـه وإن لم يكن حجّـة قبلـه إلاّ أنّ ظهوره في العموم قد انعقد واستقرّ ولو بعد التخصيص ، سواء كانت العمومات من قبيل الأوّل أو الثاني ; إذ مجرّد جري العادة على ذكر المخصّصات منفصلاً لايوجب إلاّ عدم حجّيـة العامّ قبل الفحص عنها ، لا عدم انعقاد ظهور لـه في العموم ، وعليـه فلو كان الخاصّ دائراً بين الأقلّ والأكثر ، لايسري إجما لـه إلى العامّ أصلاً بل يرفع اليد عن ذلك الظهور با لمقدار الذي يكون الخاصّ فيـه حجّةً ، ويحكم في الباقي بتطابق الإرادة الجدّية مع الاستعما ليـة .
فما في الدّرر ـ من أنّ حال المخصّص المنفصل في كلام المتكلّم الذي جرت عادتـه على بيان الخاصّ منفصلاً حال المخصّص المتّصل في كلام غيره ، فيسري إجما لـه في الفرض المذكور إلى العامّ(1)ـ محلّ نظر بل منع ، فتدبّر .
الاستدلال على لزوم الفحص بالعلم الإجمالي
ثمّ إنّك عرفت أنّ محلّ النزاع في هذا المقام هو ما إذا لم يكن العامّ من أطراف ما عُلم إجمالاً بتخصيصـه ، ولكن بعضهم عمّموا النزاع ، واستدلّوا على لزوم الفحص با لعلم الإجما لي بورود المخصّصات على العمومات .
وتقريبـه:
أ نّا نعلم إجمالاً بوجود مقيّدات ومخصّصات للعمومات والإطلاقات فيما بأيدينا من الكتب بل مطلق الجوامع ولو ما لم يصل منها إلينا ، كما هو معلوم لكلّ مَنْ راجعها ، ومن المعلوم عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجما لي كما قد قرّر في محلّـه .
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 223.
(الصفحة 305)الإشكال في الاستدلال بانحلال العلم الإجمالي
وقد استشكل في جعل مدرك لزوم الفحص هو العلم الإجما لي بما حاصلـه : أنّ العلم الإجما لي بذلك وإن اقتضى عدم جريان الأصل قبل الفحص إلاّ أ نّـه بعد الفحص والعثور على المقدار المتيقّن من المخصّصات يصير العلم الإجما لي منحلاّ ، كما هو الحال في كلّ علم إجما لي تردّدت أطرافـه بين الأقلّ والأكثر ، فإنّـه بعد العثور على الأقلّ ينحلّ العلم الإجما لي ويكون الأكثر شبهـة بدويّـة يجري فيـه الأصل ، ولابدّ أن يكون في المقام مقدار متيقّن للعلم الإجما لي بوجود المخصّصات في الكتب ; إذ لايمكن أن لايكون لـه مقدار متيقّن ، فمع العثور على ذلك المقدار ينحلّ العلم ، وحينئذ فلايجب الفحص في سائر الشبهات ; لجريان الاُصول اللفظيّـة فيها مع أ نّـه لايقول بـه أحد(1) .
هذا ، مضافاً إلى أنّ الفحص في الكتب التي بأيدينا لايوجب جواز إجراء الاُصول ; لأنّ دائرة العلم الإجما لي أوسع من هذه الكتب ، فلازم ذلك عدم جواز التمسّك با لعمومات ولو بعد الفحص أيضاً .
جواب المحقّق النائيني عن انحلال العلم الإجمالي
وأجاب المحقّق النائيني عن الانحلال ـ على ما في التقريرات ـ بما حاصلـه : أنّ المعلوم بالإجمال تارةً يكون مرسلاً غير معلّم بعلامـة يشار إليـه بها ، واُخرى يكون معلّماً بعلامـة يشار إليـه بها ، وانحلال العلم الإجما لي با لعثور على المقدار المتيقّن إنّما يكون في الصورة الاُولى ، وأمّا الصورة الثانيـة فلاينحلّ
- 1 ـ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 543.
(الصفحة 306)
بذلك ، بل حا لـه حال دوران الأمر بين المتبائنين .
وضابط القسمين:
أنّ العلم الإجما لي كليّاً إنّما يكون على سبيل المنفصلـة المانعـة الخلوّ المنحلّـة إلى قضيّـتين حمليّـتين ، وهاتان القضيّـتان :
تارة:
تكون إحداهما من أوّل الأمر متيقّنـة والاُخرى مشكوكـة بحيث يكون العلم الإجما لي ناشئاً منهما ، ويكون العلم الإجما لي عبارة عن ضمّ القضيّـة المتيقّنـة إلى المشكوكـة ، كما إذا علم إجمالاً بأ نّـه مديون لزيد : وتردّد بين أن يكون خمسـة دراهم أو عشرة ، فإنّ هذا العلم الإجما لي ليس إلاّ عبارة عن قضيـة متيقّنـة وهي كونـه مديوناً لزيد : بخمسـة دراهم ، وقضيـة مشكوكـة ، وهي كونـه مديوناً لـه بخمسـة زائدة على الخمسـة المتيقّنـة ، ففي مثل هذا العلم الإجما لي ينحلّ قهراً با لعثور على المقدار المتيقّن ; إذ لا علم حقيقـة إلاّ بذلك المقدار ، والزائد كان مشكوكاً من أوّل الأمر ، ولم يكن من أطراف العلم .
واُخرى:
لاتكون القضيّتان على هذا النحو ، بل تعلّق العلم بالأطراف على وجـه تكون جميع الأطراف ممّا تعلّق العلم بها بوجـه بحيث لو كان الأكثر هو الواجب ، لكان ممّا تعلّق بـه العلم وتنجّز بسببـه ، وليس الأكثر مشكوكاً من أوّل الأمر ، وذلك في كلّ ما يكون المعلوم بالإجمال معلّماً لعلامـة كان قد تعلّق العلم بـه بتلك العلامـة ، فيكون كلّ ما اندرج تحتها ممّا تعلّق بـه العلم بلا فرق بين الأقلّ والأكثر .
مثالـه:
ما إذا علمت بأ نّك مديون لزيد بما في الدفتر ، فإنّ جميع ما فيـه من دين لـه قد تعلّق العلم بـه ، سواء كان دينـه خمسـة أو عشرة ، بخلاف الصورة الاُولى ، فإنّ قضيّـة كونـه مديوناً لزيد بعشرة كانت مشكوكـة من أوّل الأمر ، وفي مثل هذا ليس لـه الاقتصار على المتيقّن ; إذ لا مؤمّن لـه على تقدير ثبوت الأكثر في الواقع بعدما نالَـه العلم وأصابـه ، فحال العلم الإجمالي في مثل هذا الأقلّ
(الصفحة 307)
وا لأكثر حا لـه في المتبائنين في وجوب الاحتياط .
وإن شئت قلت : إنّ هنا علمين : علم إجما لي بكونـه مديوناً لزيد بجميع ما في الدفتر وعلم إجما لي آخر بأنّ دينـه عشرة أو خمسـة ، وانحلال الثاني الغير المقتضي لوجوب الاحتياط با لنسبـة إلى العشرة لاينافي العلم الإجما لي الأوّل المقتضي للاحتياط با لنسبـة إليها ; لعدم التزاحم بين اللاّ مقتضي والمقتضي .
إذا عرفت ذلك ، فنقول : ما نحن فيـه من قبيل الثاني ; لأنّ العلم قد تعلّق بأنّ في الكتب التي بأيدينا مقيّدات ومخصّصات ، فيكون نظير تعلّقـه بأ نّـه مديون لزيد بما في الدفتر ، وقد عرفت عدم الانحلال في هذا النحو با لعثور على المقدار المتيقّن ، بل لابدّ فيـه من الفحص التامّ في جميع ما بأيدينا من الكتب(1) . انتهى .
أقول: الظاهر عدم تماميّـة هذا الكلام، فإنّـه يرد عليـه:
أوّلاً:
النقض بجميع الموارد التي تردّد الأمر فيها بين الأقلّ والأكثر ; لأنّـه فيها وإن كان المعلوم بالإجمال مردّداً بينهما إلاّ أ نّـه تعلّق علم آخر بشيء من المقارنات ، فمقتضى ما ذكره إصابـة العلم با لنسبـة إلى الأكثر أيضاً ، فيجب الاحتياط .
مثلاً : إذا دار دين زيد بين خمسـة أو عشرة ، ولكنّـه يعلم بأنّ دينـه كان في الكيس ، أو كان في اليوم الفلاني ، أو في المجلس الفلاني ، فإنّ دينـه وإن كان مردّداً بينهما ، ولكنّـه يعلم بأنّ دينـه هو ما في الكيس ، أو ما أدّاه إليـه في اليوم الفلاني ، أو المجلس الفلاني ، ومن المعلوم بناءً عليـه إصابـة العلم با لنسبـة إلى الأكثر ، فيجب الاحتياط مع أ نّـه لم يقل بـه أحد ، ولايلتزم القائل بـه أيضاً .
وثانياً:
الحلّ ، وتوضيحـه : أنّ العناوين التي يتعلّق بها العلم على قسمين :
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 543 ـ 546.