(الصفحة 313)
عموم المتعلّق قرينـة على التصرّف في أدوات الخطاب والعكس ، فا لنزاع على الأوّلين عقلي ، وعلى الأخير لغوي(1) .
أقول:
أمّا النزاع على الوجهين الأوّلين : فلايعقل وقوعـه بين الأعلام بعد وضوح استحا لـة بعث المعدوم أو زجره ، وكذا توجيـه الخطاب إليـه .
وأمّا
النزاع على الوجـه الأخير الذي يرجع إلى أمر لغوي ، فهو مستبعد جدّاً ; لأنّ الظاهر كون النزاع بينهم إنّما هو في أمر عقلي .
والحقّ أن يقال:
إنّ النزاع إنّما هو(2) في أنّ شمول الخطابات القرآنيّـة وا لأحكام المتعلّقـة با لعناوين الكلّيـة الواردة فيها للمعدومين هل يستلزم تعلّق التكليف بهم والمخاطبـة معهم الممتنع عقلاً بداهةً ، أو لايستلزم ذلك الأمر المستحيل ؟ فا لنزاع إنّما هو في الملازمـة بين الأمرين التي هي أمر عقلي .
وا لتحقيق عدم الاستلزام ; لأنّ تلك الأحكام موضوعـة على المكلّفين بنحو
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 266.
- 2 لايخفى أنّ المراد من هذه العبارة هو عدم اختصاص تلك الخطابات والأحكام بالموجودين حال التخاطب، لاشمولها للمعدومين في حال العدم أيضاً، كما أنّ جعل النزاع في هذا المعنى إنّما هو بملاحظـة أنّ ما يمكن أن يكون نزاعاً معقولا في هذا المقام وينبغي البحث فيـه هو ما ذكرنا وإلاّ فظاهر بعض الاستدلالات هو كون النزاع في صحـة تكليف المعدوم ومخاطبتـه في حال العدم، كما حكاه في الفصول(أ) عن بعض الحنابلـة من القول بذلك، استدلالا بقولـه تعالى: (إنّما أمرهُ إذا أرادَ شيئاً أن يقولَ لهُ كُنْ فيكون) (ب) فإنّ ظاهره الخطاب إلى المعدوم، وأمره بالكون، فيستفاد منـه الجواز مطلقاً.
أ ـ الفصول الغرويّـة: 179 / السطر 38.
ب ـ يس (36): 82.
(الصفحة 314)
ا لقضايا الحقيقيّـة لا الخارجيـة ، وتوضيح ذلك يتوقّف على بيان المراد منهما .
تحقيق: في القضايا الحقيقيّـة
فنقول:
القضايا الحقيقيـة هي القضايا التي يكون الحكم فيها مترتّباً على جميع أفراد الطبيعـة من غير اختصاص بالأفراد الموجودة خارجاً ، بل كلّ فرد وُجد مصداقاً لها يترتّب عليـه الحكم ، فإذا قال : كلّ نار حارّة ، فقد جعل الموضوع هو جميع أفراد النار أعمّ من الموجودة والمعدومـة ، وذلك لما عرفت سابقاً من أنّ لفظـة «ا لنار» وكذا سائر الأسماء الموضوعـة للطبيعـة المطلقـة إنّما تدلّ با لوضع على نفس الطبيعـة الموضوعـة بإزائها . وكما لايمكن أن تكون الطبيعـة مرآةً للأفراد والخصوصيّات ، كذلك لايحكي اللّفظ الموضوع بإزائها إلاّ عن نفس الطبيعـة ا لمجرّدة عن القيود التي منها نفس الوجود ، فكلمـة «ا لنار» حاكيـة عن نفس ماهيّتها التي هي مقسم للموجوديـة والمعدوميـة .
وأمّا كلمـة «كلّ» المضافـة إليها : فقد عرفت سابقاً أ نّها موضوعـة لإفادة استيعاب أفراد مدخولها ، ولا دلالـة لها على خصوص الأفراد الموجودة ، بل مدلولها هو استيعاب الأفراد التي تقبل الاتّصاف با لوجود تارةً وبا لعدم اُخرى ، وبهما ثا لثةً ، فيقال : أفراد الطبيعة بعضها موجود وبعضها معدوم ، فظهر عدم اختصاص مدلولها أيضاً بالأفراد الموجودة ، ومن المعلوم أنّ إضافـة كلمـة «كلّ» إلى اللّفظ الموضوع لنفس الطبيعـة المطلقـة لا تدلّ على أمر وراء استيعاب أفراد تلك الطبيعـة الواقعـة مدخولـة لها ، فا لموضوع في أمثال تلك القضايا إنّما هو جميع أفراد الطبيعـة بما أ نّها مصداق لها ، فقولـه : أكرم كلّ عا لم ، يكون الموضوع فيـه هو إكرام كلّ عا لم بما أ نّـه مصداق لطبيعـة لابما أ نّـه زيد أو عمرو أو بكر مثلاً .
(الصفحة 315)
ولذا قد اشتهر بين أهل الفن أنّ القضيّـة الحقيقيّـة برزخ بين الطبيعـة الصرفـة والكثرة المحضـة ; إذ لايكون الموضوع فيها هي نفس الطبيعـة ; لوضوح الفرق بينها وبين القضيّـة الطبيعيّـة ، ولا الكثرة المحضـة ; لعدم ملاحظـة الكثرات ، بل لايعقل ذلك في جميع أفراد الطبيعـة ، كما هو واضح ، بل الموضوع فيها هو عنوان كلّ عا لم مثلاً ، الذي هو عنوان إجما لي لأفراد طبيعـة العا لم .
هذا، ولايتوهّم ممّا ذكرنا:
من أنّ الحكم على جميع الأفراد أعمّ من الموجودة والمعدومـة أنّ ذلك مستلزم لإثبات شيء على المعدوم في حال عدمـه ; لأنّ المعدوم لايكون شيئاً حتّى يكون فرداً للماهيـة ، فما دام لم تنصبغ الماهيّـة بصبغـة الموجود لا تكون ماهيّةً أصلاً ، فا لنار المعدوم با لفعل لا تكون ناراً حتّى يترتّب عليها الحكم المترتّب على جميع أفراد النار ، فاعتبار الوجود في ترتّب الحكم عليـه إنّما هو لعدم كونـه مصداقاً لها بدون ذلك ، لا لكون الاتّصاف بـه مأخوذاً في الموضوع ، كيف وقد عرفت أ نّـه ليس في الموضوع ما يدلّ على الاختصاص بالأفراد الموجودة .
وممّا ذكرنا ظهر:
أنّ ما وقع في التقريرات المنسوبـة إلى المحقّق النائيني من تفسير القضيّـة الحقيقيـة بما إذا لوحظ الأفراد المعدومـة بمنزلـة الأفراد الموجودة تنزيلاً للمعدوم منزلـة الموجود ثمّ جعلها موضوعاً للحكم(1) ، ممّا لايرتبط بمعنى القضيّـة الحقيقيّـة المذكورة في فنّها ، بل الوجدان أيضاً يأبى عن ذلك ; لأنّا لا نرى في أنفسنا حين إلقاء هذا النحو من القضايا فرض المعدومين بمنزلـة الموجودين ، وتنزيلهم منزلتهم ، كما لايخفى .
إذا عرفت ذلك:
فاعلم أنّ القوانين المجعولـة في العا لم التي يوضعها العقلاء
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 550.
(الصفحة 316)
ا لمقنّنين لها إنّما هو على هذا النحو الذي عرفت ; لأنّ بناءهم على جعلها ليعمل بها الأفراد ، وأكثرها خا ليـة عن المخاطبـة ، والقانون الإسلامي المجعول في شريعتنا إنّما هو على هذا النحو مع خصوصيّـة زائدة ، وهو عدم إمكان المخاطبـة فيـه با لنسبـة إلى الناس ، ضرورة عدم قابليّـة البشر العادي لأن يصير مخاطباً للّـه تعا لى ; إذ طريق ذلك الوحي ، وهو منحصر بالأنبياء العظام (عليهم السلام) وباقي الناس أبعد من هذه المرحلـة بمراحل ، وإظهار الوحي الجاري بلسان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إنّما هو على طريق التبليغ لابنحو المخاطبـة ، فا لخطاب بنحو
(يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)(1) مثلاً لايكون المخاطب فيها أحد من المؤمنين أصلاً ، بل إنّما هو خطاب كتبي حفظ با لكتب ليعمل بـه كلّ مَنْ نظر إليـه ، نظير الخطابات الواقعـة في قوانين العقلاء المكتوبـة المنتشرة بين الناس ليطّلعوا عليها فيعملوا بها .
ومن هنا يظهر:
أنّ هذه الخطابات الواقعـة في الشريعـة لاتشمل الحاضرين أيضاً بنحو يكونوا هم المخاطبين فضلاً عن أن تكون منحصرةً بهم أو عامّةً لجميع المكلّفين ، والتعبير با لخطابات الشفاهية أيضاً مسامحة ; لما عرفت من عدم كون واحد من المكلّفين مخاطباً بها أصلاً ، بل إنّما هي قوانين كلّيـة بصورة المخاطبـة أوحى اللّه تعا لى بها نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بلّغها إلى الناس كما اُنزلت على قلبه(صلى الله عليه وآله وسلم) .
تنبيـه: في كيفيـة القوانين الواردة في الشريعـة
وتلخّص ممّا ذكرنا أنّ القوانين الواردة في الشريعـة على قسمين : قسم لايكون مشتملاً على الخطاب ، بل إنّما جعل الحكم على العناوين الكلّيـة ، مثل : وجوب الحجّ الموضوع على عنوان المستطيع ، وقسم يشتمل على الخطاب ، مثل
(الصفحة 317)
ا لمثال المتقدّم .
أمّا القسم الأوّل:
فالإشكال المتقدّم الذي يرجع إلى استلزام عدم الاختصاص با لحاضرين في زمان صدوره لتكليف المعدوم المستحيل بداهـة يندفع بما ذكرناه من كون العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام إنّما اُخذت على سبيل القضيّـة الحقيقيـة با لمعنى الذي تقدّم ، وهذا المعنى لايستلزم أن يكون المعدوم في حال العدم مكلّفاً ; لأنّ عنوان المستطيع إنّما يصدق على خصوص المكلّف الموجود الحاصل لـه الاستطاعـة ، فكما أ نّـه لايصدق على المكلّف الغير المستطيع كذلك لايصدق على المعدوم بطريق أولى ; لأنّـه ليس بشيء ، نعم بعد الوجود وصيرورتـه متّصفاً بذلك الوصف يتحقّق مصداق لذلك العنوان ، فيشملـه الحكم ، كما عرفت تفصيلـه .
وأمّا القسم الثاني:
فالإشكال الراجع إلى استحا لـة المخاطبـة مع المعدوم لايندفع بما ذكر من كون الموضوع على نحو القضيّـة الحقيقيـة ; لأنّ الخطاب با لعنوان الذي جعل موضوعاً فيها غير معقول ; إذ لا معنى للخطاب بأفراد الطبيعـة أعمّ من الموجودة والمعدومـة ، فلابدّ إمّا من الالتزام بتنزيل المعدومين منزلـة الموجودين ، وإمّا من الالتزام بما ذكر من كون هذه الخطابات خطابات كتبيـة ، والأوّل لا دليل عليـه ، كما اعترف بـه الشيخ(1) ، ومعـه لايمكن القول با لتعميم ، فلابدّ من الجواب بنحو ما ذكر ; لما عرفت من استحا لـة أن يكون الناس مخاطباً للّـه تعا لى ، بل المخاطب فيها هو الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وحكايتـه(صلى الله عليه وآله وسلم) على الناس إنّما وقعت على سبيل التبليغ وحكايـة الوحي ، ولا تكون خطاباً منـه(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الناس ، كما هو واضح .
- 1 ـ اُنظر مطارح الأنظار: 204 / السطر 32.