(الصفحة 349)
ثمّ إنّك عرفت أنّ معنى المطلق هو خلوّ المعنى عن القيد ، سواء كان كليّاً أو جزئياً ، وحينئذ فتخصيص المطلق باسم الجنس والنكرة با لمعنى الثاني ـ كما أفاده في الكفايـة ـ في غير محلّـه ; لأنّ النكرة با لمعنى الأوّل ـ الذي هو أمر جزئي ـ مطلقـة ، كما في سائر الجزئيات ، فإنّ قولـه : أكرم زيداً ، مطلق من حيث عدم تقييد زيد با لجائي أو بغيره من القيود ، كما أ نّك عرفت أنّ لفظ المطلق لايحكي إلاّ عن نفس الطبيعـة ، وهي لايعقل أن تكون مرآةً للأفراد والخصوصيّات ، ومعنى إطلاقها من حيث تعلّق الحكم بها هو كون تمام المتعلّق للحكم المجعول هي نفسها من غير مدخليـة شيء آخر فيها ، وهذا المعنى يستفاد من فعل المتكلّم حيث إنّـه إذا كان بصدد بيان متعلّق حكمـه وكان مختاراً في التكلّم فهذا دليل بنظر العقل على أنّ المذكور تمام المتعلّق ، وليس ذلك من قبيل الدلالات اللفظيـة ، بل هو من الدلالات العقليّـة ، كدلالـة التكلّم على كون مدلول الكلام مقصوداً للمتكلّم ، وحينئذ فيظهر لك أنّ إثبات الإطلاق بضميمـة مقدّمات الحكمـة أو بغيرها ليس يرجع إلى إثبات الشياع والسريان ، كما ذكره في الكفايـة حيث قال : إنّ الشياع والسريان ـ كسائر طوارئ الطبيعـة ـ يكون خارجاً عمّا وضع لـه لفظ المطلق ، فلابدّ في الدلالـة عليـه من قرينـة حال أو مقال أو حكمـة(1) ، فإنّ ظاهره أنّ جريان مقدّمات الحكمـة يفيد الشياع والسريان ، مع أنّ مفادها ليس إلاّ كون المذكور تمام الموضوع ، ولا مدخليّـة لشيء آخر فيـه .
(الصفحة 350)الفصل الثالث
في مقدّمات الحكمـة
وكيف كان فقد ذكر في الكفايـة أنّ مقدّمات الحكمـة ثلاثـة :
إحداها:
كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد لا الإهمال أو الإجمال .
ثانيتها:
انتفاء ما يوجب التعيين .
ثالثتها:
انتفاء القدر المتيقّن في مقام التخاطب(1) .
أقول:
الظاهر أنّ قرينـة الحكمـة لا تتوقّف إلاّ على مقدّمـة واحدة ، وهي المقدّمـة الاُولى ، فهنا دعويان : الاُولى توقّفها على المقدّمـة الاُولى ، ثانيتهما عدم توقّفها على سائر المقدّمات .
أمّا الدعوى الاُولى:
فواضحـة ; لأنّـه إذا لم يكن المتكلّم في مقام بيان تمام المراد ، بل كان في مقام بيان حكم آخر أو في مقام بيان أصل التشريع ، لايمكن أن يحتجّ بكلامـه عليـه عند العقلاء ; لصحّـة اعتذاره بأ نّـه كان بصدد بيان جهـة اُخرى أو بيان الحكم بنحو الإجمال مثلاً .
(الصفحة 351)
وذهب في الدّرر إلى عدم الاحتياج إلى هذه المقدّمـة ، وقال في بيانـه ما ملخّصـه : أنّ المهملـة مردّدة بين المطلق والمقيّد ولا ثا لث ، ولا إشكال في أ نّـه لو كان المراد هو المقيّد تكون الإرادة متعلّقةً بـه بالأصا لة ، وإنّما ينسب إلى الطبيعة با لتبع لمكان الاتّحاد وحينئذ فنقول ظاهر الكلام هو تعلّق الإرادة أوّلاً وبا لذات بنفس الطبيعـة لا أنّ المراد هو المقيّد ، ثمّ اُضيفت الإرادة إلى الطبيعـة لمكان الاتّحاد ، وبعد ثبوت هذا الظهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد ، وهو معنى الإطلاق(1) . انتهى .
أقول:
ظهور الكلام في تعلّق الإرادة أوّلاً وبا لذات بنفس الطبيعـة إنّما هو فيما إذا اُحرز كون المتكلّم في مقام البيان ، وإلاّ فلو كان بصدد بيان حكم آخر فيمنع هذا الظهور بحيث يمكن الأخذ بـه والاحتجاج بـه عليـه ; لأنّـه ليس من الظهورات اللفظيّـة ، بل إنّما هو من الدلالات العقليّـة ، فتسليم الظهور مبني على ثبوت هذه المقدّمـة ، كما لايخفى .
وأمّا الدعوى الثانيـة:
فعدم الاحتياج إلى المقدّمـة الثانيـة واضح ، ضرورة أنّ مفروض الكلام إنّما هو فيما إذا دار الأمر بين كون المراد هو المطلق أو المقيّد ، وأمّا مع ثبوت القيد في الكلام فهو خارج عن مفروض المقام ; لعدم كون المراد مردّداً حينئذ ، كما هو واضح .
وأمّا المقدّمـة الثا لثـة فهي أيضاً غير محتاج إليها ; لعدم كون ثبوت القدر المتيقّن في مقام التخاطب مضرّاً بالإطلاق أصلاً .
وتوضيحـه:
أ نّك عرفت أنّ معنى الإطلاق ليس كون الطبيعـة المأخوذة متعلّقاً للحكم ساريـة في جميع الأفراد وشائعـة بين جميع الوجودات حتّى يكون
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 234.
(الصفحة 352)
جريان مقدّمات الحكمـة منتجاً لما يفيده العموم ، بل المراد بـه هو كون نفس الطبيعـة المذكورة في الكلام ممّا يتقوّم بـه تمام المصلحـة ، ولم يكن لبعض القيودات مدخليّـة في ذلك ، وحينئذ فلو كان المتكلّم في مقام بيان تمام ما لَـه دخل في موضوع حكمـه ـ كما هو المفروض في المقدّمـة الاُولى ـ ومع ذلك لم يذكر إلاّ نفس الطبيعـة ـ كما هو المفروض في المقام ـ فإثبات الإطلاق وصحّـة الاحتجاج بـه عليـه لايحتاج إلى أمر آخر ; لأنّـه لو كان مراده هو المقدار المتيقّن ، لكان عليـه تقييد الطبيعـة لإخراج ما عداه ، وليس الأمر دائراً بين الأقلّ والأكثر بمعنى أن يكون تعلّق الحكم با لمقدار المتيقّن معلوماً وبما عداه مشكوكاً ، ضرورة أنّ الحكم في باب الإطلاق والتقييد لايكون متعلّقاً بالأفراد والوجودات ، بل إنّما كان هنا حكم واحد مردّد بين تعلّقـه بنفس الطبيعـة أو بها مقيّدة ، وتعلّق الحكم با لمقيّد ليس معلوماً ، وثبوت القدر المتيقّن لايوجب ذلك .
وكيف كان فا لقدر المتيقّن في مقام التخاطب الراجع إلى كون بعض الأفراد أو الحالات ممّا كان عند المخاطب معلوم الحكم بمجرّد إلقاء الخطاب ، لابعد التأمّل ممّا لايضرّ بالإطلاق بعد كون الأفراد والحالات أجنبيّةً عن تعلّق الحكم بها في باب الإطلاق ، كما لايخفى .
هذا كلّـه بناءً على ما اخترناه في معنى الإطلاق.
وأمّا بناءً على مذاق القوم من جعلـه بمعنى الشياع والسريان ، فقد ذكر في الكفايـة أنّ مع ثبوتـه لا إخلال با لغرض لو كان المتيقّن تمام مراده ، فإنّ الفرض أ نّـه بصدد بيان تمامـه وقد بيّنـه ، لابصدد بيان أ نّـه تمامـه كي أخلّ ببيانـه فافهم(1) .
(الصفحة 353)
وذكر في الحاشيـة في بيان المشار إليـه بقولـه : فافهم ، ما لفظـه : إشارة إلى أ نّـه لو كان بصدد بيان أ نّـه تمامـه ما أخلّ ببيانـه بعد عدم نصب قرينـة على إرادة تمام الأفراد ، فإنّـه بملاحظتـه يفهم أنّ المتيقّن تمام المراد ، وإلاّ كان عليـه نصب القرينـة على إرادة تمامها ، وإلاّ قد أخلّ بفرضـه .
نعم لايفهم ذلك إذا لم يكن إلاّ بصدد بيان أنّ المتيقّن مراد ولم يكن بصدد بيان أنّ غيره مراد ، أو ليس بمراد قبالاً للإجمال أو الإهمال المطلقين ، فافهم فإنّـه لايخلو من دقّـة(1) . انتهى .
أقول:
الظاهر أ نّـه بناءً على هذا القول أيضاً لايكون وجود القدر المتيقّن مضرّاً ، ضرورة أنّ جلّ الطبيعـة مرآة لبعض الأفراد دون البعض الآخر ممّا لايعقل ، فمن ذكرها بنفسها يستكشف أ نّـه لاحظ السريان في جميع الأفراد .
مضافاً إلى أنّ من أوضح مصاديق القدر المتيقّن ورود العامّ أو المطلق في مورد خاصّ مع أ نّـه لايلتزم أحد بكون المورد مخصّصاً أو مقيّداً ، وإ لى أنّ متيقنيّـة بعض الأفراد أمر وكون الحكم مطلقاً بحسب نظر العقل والعقلاء بحيث صحّ الاحتجاج بـه على الحاكم أمر آخر لا ربط لأحدهما بالآخر ، كما هو واضح .
فتلخّص:
أنّ قرينـة الحكمـة لا تتوقّف إلاّ على مقدّمـة واحدة ، وهي كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده .
المراد من كون المتكلّم في مقام البيان
ثمّ إنّ المراد بكون المتكلّم في مقام البيان ليس كونـه في مقام بيان مراده الجدّيّ والنفس الأمري ، بل المراد بـه هو كونـه في مقام بيان ما يريده ولو قاعدةً
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 287، الهامش 1.