(الصفحة 387)
الثالث:
أنّ ما ذكره من انتهاء الأمر بالأخرة إلى الذاتي ، وهو لايعلّل ممّا لايتمّ أصلاً ، وذلك يتوقّف على بيان المراد من قولهم : «ا لذاتي لايعلّل» ليظهر الحال ويرتفع الإشكال .
فنقول:
المراد با لذاتي المذكور في هذه الجملـة ـ قبالاً للعرضي ـ هو الذاتي المتداول في باب البرهان ، وهو ما لايمكن انفكاكـه عن الذات ، سواء كان من أجزاء الماهيـة أو خارجاً عنها ملازماً لها .
وا لوجـه في عدم كونها معلّلـة وكونها مستغنيـة عن العلّـة هو أنّ مناط الافتقار والاحتياج إليها هو الإمكان المساوق لتساوي الطرفين ، من دون ترجيح لأحدهما على الآخر ; ضرورة أنّ الواجب والممتنع مستغنيان عن العلّـة ; لكون الوجود للأوّل والعدم للثاني ضرورياً لايمكن الانفكاك عنهما .
وبالجملـة:
فا لمفهوم إذا قيس ولوحظ مع شيء آخر فإمّا أن يكون ذلك الشيء ضروري الثبوت لـه ، أو ضروري العدم لـه ، أو لا ضروري الثبوت ولا ضروري اللاثبوت لـه ، فإذا فرض كونـه ضروري الثبوت لـه ـ كا لوجود با لنسبـة إلى الواجب تعا لى ، وكأجزاء الماهيـة ولوازمها با لنسبـة إليها ـ فلايعقل أن يكون في اتصافـه بذلك الشيء مفتقراً إلى العلّـة ، وكذلك لو فرض كونـه ضروري اللاثبوت لـه ـ كا لوجود با لنسبـة إلى شريك الباري ـ وأمّا لو فرض كون ثبوتـه لـه وعدمـه متساويـين بلاترجيح لأحدهما على الآخر فهو الذي يحتاج إلى علّـة مرجّحـة ; لأنّ ترجّح أحد الطرفين على الآخر بذاتـه مستحيل بداهـة ، ولايقول بـه أحد ، حتّى القائلين بجواز الترجيح من دون مرجّح .
فانقدح:
أنّ مناط الافتقار هو الإمكان ، ومن الواضح أنّ جميع الموجودات عدا واجب الوجود ـ عزّ شأنـه ـ لا مناص لهم من الاتصاف بالإمكان ، فا لوجود فيهم وجود إمكاني معلول ، فلايكون ذاتياً لهم ; للاحتياج إلى العلّـة .
(الصفحة 388)
نعم ، قد عرفت : أنّ ثبوت أجزاء الماهيـة ولوازمها لذاتها ممّا لايحتاج إلى الجعل والعلّـة ، إلاّ أنّـه قد قرّر في محلّـه(1) أنّ الماهيات اُمور اعتباريـة ينتزعها ا لعقل بعد ملاحظـة الوجودات ، وهي محرومـة عن الجعل ممنوعـة عنـه ، ولا تكون منشأ للآثار ، ولا علّيـة ولا معلوليـة بينها أصلاً .
إذا عرفت ذلك فاعلم:
أنّ السعادة والشقاوة هل هما من سنخ الوجودات أو من قبيل لوازم الماهيات ، فعلى الأوّل لايعقل كونهما من الذاتيات ; لما عرفت من أنّ الوجود في غير الواجب تعا لى وجود إمكاني محتاج إلى الجعل . ودعوى كونهما ذاتيين تنافي ما قامت عليـه البراهين القاطعـة والأدلّـة الساطعـة من وحدة الواجب تعا لى . وعلى الثاني لايكونان منشأ للآثار . فاختيار الكفر والعصيان ، وكذا الإرادة التي هي أمر وجودي لايعقل أن يكون مستنداً إلى الذات والذاتيات التي هي اُمور اعتباري ومخترعات عقلي .
فا لحقّ أنّهما من الاُمور الاعتباريـة المنتزعـة عن فعل القربات ، وارتكاب المبعّدات ، ولايكونان من الذاتيات أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .
- 1 ـ الحكمـة المتعاليـة 1: 38 ـ 75 و396 ـ 423، شرح المنظومـة، قسم الحكمـة: 10 ـ 15.
(الصفحة 389)الأمر الثالث
أقسام القطع وأحكامـه
ا لقطع قد يكون طريقاً محضاً ، بأن لايكون مأخوذاً في موضوع حكم أصلاً ، سواء تعلّق بموضوع خارجي أو موضوع ذي حكم ، أو حكم شرعي متعلّق بما لايكون القطع مأخوذاً فيـه . وقد يكون مأخوذاً في الموضوع تارة بنحو يكون تمام الموضوع ، واُخرى بنحو يكون جزئـه ، فهاهنا أقسام :
فإنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقيّـة القائمـة با لنفس ـ قياماً صدورياً أو حلولياً على القولين ـ فيمكن أن يؤخذ في موضوع الحكم من هذه الحيثيـة ، مع قطع النظر عن كونـه كاشفاً عن الواقع ، كما أنّـه يمكن أن يؤخذ فيـه مع ملاحظـة جهـة كشفـه ، لكن لمّا كان الكشف فيـه تامّاً ـ بخلاف الكشف في سائر الأمارات ـ فيمكن أن يؤخذ تارة بما أنّـه كاشف تامّ ممتاز عن سائر الأمارات ، واُخرى بما أنّـه كاشف ، مع قطع النظر عن الاتصاف با لتماميـة .
وليعلم:
أنّـه لاينافي كون العلم بسيطاً غير مركّب ; ضرورة أنّ تغاير الجهتين إنّما يتحقّق بتحليل عقلي ، وإلاّ فمن الواضح أنّ العلم لايكون مركّباً من الكشف والتماميـة ، وكذلك الظنّ ، فإنّـه لايكون مركّباً منـه ومن النقصان . فا لنسبـة بينهما
(الصفحة 390)
هي النسبـة بين الوجود القوي والوجود الضعيف ، فإنّ العقل وإن كان يعتبر أنّ امتياز الأوّل عن الثاني إنّما هو لجهـة التماميـة والكمال والشدّة ، إلاّ أنّـه لايوجب كونـه مركّباً ; ضرورة أنّ الوجود بسيط ، كما قد قرّر في محلّـه(1) .
فالأقسام الحاصلـة للقطع الموضوعي ستّـة ; لأنّـه إمّا أن يعتبر بنحو الصفتيـة مع قطع النظر عن الكاشفيـة ، وإمّا أن يعتبر بنحو الكاشفيـة التامّـة ، وإمّا أن يؤخذ بنحو أصل الكشف المشترك بينـه وبين سائر الأمارات .
وعلى التقديرات الثلاثـة : فتارة يكون تمام الموضوع ، واُخرى يكون بعض الموضوع .
تقرير إشكال أخذ القطع تمام الموضوع على وجـه الطريقيـة
ثمّ
إنّـه استشكل بعض المحقّقين من المعاصرين ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ في إمكان أخذ القطع تمام الموضوع على وجـه الطريقيـة ، فقال في إمكان أخذه تمام الموضوع على وجـه الطريقيـة إشكال ، بل الظاهر أنّـه لايمكن من جهـة أنّ أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجـه من الوجوه ، وأخذه على وجـه الطريقيـة يستدعي لحاظ ذي الطريق وذي الصورة ، ويكون النظر في الحقيقـة إلى الواقع المنكشف با لعلم ، كما هو الشأن في كلّ طريق ; حيث إنّ لحاظـه طريقاً يكون في الحقيقـة لحاظاً لذي الطريق ، ولحاظ العلم كذلك ينافي أخذه تمام الموضوع(2) ، انتهى .
ولايخفى:
أنّ عدم إمكان الجمع بين الطريقيـة والموضوعيـة إنّما هو فيما
- 1 ـ الحكمـة المتعاليـة 1: 50، شرح المنظومـة، قسم الحكمـة: 22.
- 2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 11.
(الصفحة 391)
إذا أراد القاطع الجمع بينهما ; لأنّ نظره الاستقلالي إلى الواقع المقطوع بـه ، ونظره إلى نفس القطع آليّ ، ولايمكن لـه أن ينظر إليـه في هذا اللحاظ با للحاظ الاستقلالي ، بل يحتاج إلى لحاظ آخر .
وأمّا غير القاطع فيمكنـه أن يلاحظ استقلالاً القطع الذي يكون نظر القاطع إليـه آلياً محضاً ، فهو ينظر استقلالاً إلى القطع الذي يكون طريقاً لقاطعـه ، ولايلزم محال أصلاً . وعلى تقدير لزومـه فلا اختصاص لـه بما إذا اُخذ بنحو تمام الموضوع ; لعدم الفرق بينـه وبين ما إذا اُخذ جزءً لـه .
أخذ القطع بحكم موضوعاً لمثل ذلك الحكم
ثمّ
إنّـه لابأس في أن يؤخذ القطع بحكم موضوعاً تامّاً لمثل ذلك الحكم ، كما إذا قيل : «إذا قطعت بحرمـة شيء فهو ـ أي مقطوع الحرمـة ـ يكون لك حراماً» ، وكذا في أن يؤخذ القطع بموضوع ذي حكم موضوعاً تامّاً لمثل ذلك الحكم ، كما إذا قيل : «مقطوع الخمريـة حرام» ، مع كون الخمر أيضاً بنفسـه حراماً .
وذلك لثبوت التغاير بين متعلّقي الحكمين بنحو العموم من وجـه ; ضرورة أنّ مقطوع الخمريـة قد لايكون خمراً بحسب الواقع ، وكذلك الخمر قد لايتعلّق بـه القطع ، حتّى يصير مقطوعاً . وقد عرفت في مبحث اجتماع الأمر والنهي أنّ الجواز هو مقتضى التحقيق ، ومجرّد الاجتماع في الخارج دائماً بنظر القاطع لايوجب اتحاد المفهومين اللذين هما متعلّقا الأحكام ، لا مصاديقهما ; لأنّ الخارج ظرف سقوط التكليف لا ثبوتـه . ومن هنا يظهر جواز أخذه موضوعاً لنقيض الحكم المقطوع أو حكم المقطوع بـه .
نعم ، لايجوز ذلك إذا اُخذ القطع بنحو الجزئيـة للموضوع ، كما إذا قيل مثلاً :