(الصفحة 412)
(الصفحة 413)المقام الأوّل
في إمكان التعبّد بالظنّ
ولايخفى أنّ عقد هذا المقام في كلام القوم إنّما هو للرّد على ابن قبـة القائل بالاستحا لـة ، مع أنّ دليلـه الأوّل الذي استدلّ بـه يدلّ على أنّ مراده هو نفي الوقوع ; لتمسّكـه بالإجماع(1) ، فراجع .
المراد من «الإمكان» المزبور
وهل المراد بالإمكان هو الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع الذاتي ، أو الإمكان الوقوعي الذي يقابل الامتناع الوقوعي ، وهو الذي لايلزم من وجوده محال ؟ الظاهر هو إمكان تقرير الكلام في كليهما ، كما أنّـه يمكن أن يدعي القائل بالاستحا لـة كلاّ منهما ; لأنّـه يجوز أن يدعي أنّ معنى التعبّد على طبق الأمارة هو جعل حكم مماثل لها ، سواء كانت مطابقـة أو مخا لفـة ، وحينئذ يلزم اجتماع الضدّين أو المثلين ، وهما من الممتنعات الذاتيـة بلا إشكال ، ويمكن أن يدعي
- 1 ـ اُنظر فرائد الاُصول 1: 40.
(الصفحة 414)
بنحو يوجب وقوعـه تحقّق المحال ، كما سيجيء .
وكيف كان : فا للازم هو البحث في كل منهما ، ولايخفى أنّ إثبات الإمكان بأحد معنييـه ممّا يحتاج إلى إقامـة برهان ، ومن المعلوم أنّـه لابرهان لـه . ولكن الذي يسهّل الخطب : أنّـه لا احتياج إلى إثبات الإمكان ; ضرورة أنّ ما هو المحتاج إليـه إنّما هو ردّ أدلّـة الامتناع ; لأنّـه إذا لم يدلّ دليل على الامتناع فمع فرض قيام دليل شرعي على التعبّد بالأمارات نعمل على طبقـه ، ولايجوز لنا رفع اليد عن ظاهره ، وهذا بخلاف ما لو دلّ دليل عقلي على الامتناع ، فإنّـه يجب صرف دليل الحجّيـة والتعبّد عن ظاهره ، كما هو الشأن في جميع الموارد التي قام الدليل العقلي على خلاف ظواهر الأدلّـة الشرعيـة . فا لمهمّ في المقام هو ردّ أدلّـة الامتناع ; ليستكشف من دليل التعبّد الإمكان الوقوعي ، لا إثبات الإمكان .
ومن هنا يظهر:
أنّ الإمكان الذي يحتاج إليـه في المقام هو الإمكان الواقع في كلام شيخ الرئيس ، وهو قولـه : «كلّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعـة الإمكان ما لم يذدك عنـه قائم البرهـان»(1) ; لما عرفت من أنّ ردّ أدلّـة الامتناع ا لموجب لثبوت احتمال الجواز يكفي في هذا الأمر ; لأنّـه لا موجب معـه من صرف دليل التعبّد عن ظاهره ، كما لايخفى . فالأولى في عنوان البحث أن يقال : «في عدم وجدان دليل على امتناع التعبّد بالأمارة الغير العلميّـة» .
وأمّا جعل البحث في الإمكان فمضافاً إلى عدم الاحتياج إليـه يرد عليـه ما عرفت من عدم إقامتهم الدليل على إثباتـه ، مع أنّـه أيضاً كالامتناع في الاحتياج إلى الدليل ، فتدبّر .
ثمّ إنّـه ذكر بعض الأعاظم
ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ : أنّ المراد
- 1 ـ الإشارات والتنبيهات 3: 418.
(الصفحة 415)
بالإمكان المبحوث عنـه في المقام هو الإمكان التشريعي ; يعني أنّ من التعبّد بالأمارات هل يلزم محذور في عا لم التشريع من تفويت المصلحـة والإلقاء في المفسدة واستلزامـه الحكم بلا ملاك واجتماع الحكمين المتنافيين وغير ذلك من التوا لي الفاسدة المتوهّمـة في المقام ، أو أنّـه لايلزم شيء من ذلك ؟ وليس المراد من الإمكان هو الإمكان التكويني ; بحيث يلزم من التعبّد با لظنّ أو الأصل محذور في عا لم التكوين ، فإنّ الإمكان التكويني لايتوهّم البحث عنـه في المقام(1) .
وفيـه أوّلاً:
أنّ الإمكان التشريعي ليس قسماً مقابلاً للأقسام المتقدّمـة ، بل هو من أقسام الإمكان الوقوعي الذي معناه عدم لزوم محال من وقوعـه . غايـة الأمر : أنّ المحذور الذي يلزم قد يكون تكوينياً وقد يكون تشريعياً ، وهذا لايوجب تكثير الأقسام ، وإلاّ فيمكن التقسيم بملاحظـة أنّ الممكن قد يكون مادّياً وقد يكون غيره ، وبملاحظـة الجهات الاُخر .
وثانياً:
أنّ أكثر المحذورات المتوهّمـة في المقام محذور تكويني ، لايعقل تحقّقـه في عا لم التكوين ، كاجتماع الحبّ والبغض ، والإرادة والكراهـة ، والمصلحـة والمفسدة في شيء واحد .
حول استدلال «ابن قبـة» على عدم إمكان التعبّد
ثمّ إنّـه استدلّ ابن قبـة القائل باستحا لـة التعبّد بخبر الواحد ، بل بمطلق الأمارات ، كما يظهر من بعض أدلّتـه بوجهين :
أحدهما:
أنّـه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لجاز التعبّد بـه في الإخبار عن اللّـه تعا لى ، والتا لي باطل إجماعاً .
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 88.
(الصفحة 416)
ثانيهما:
أنّ العمل بـه موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ; إذ لايؤمن أن يكون ما اُخبر بحلّيتـه حراماً ، وبا لعكس(1) .
والجواب عن الوجـه الأوّل:
أنّ دعوى الملازمـة تبتني على كون الإخبار عن الرسول والإخبار عن اللّـه مثلين ; لعدم اختلاف الإخبار بواسطـة اختلاف المخبر بـه ، وكونـه هو اللّـه سبحانـه أو النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فمرجعـه إلى أنّ الإجماع قام على نفي حجّيـة الإخبار مطلقاً ، سواء كان عن اللّـه أو عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن الأئمّـة (عليهم السلام) . وسيأتي الجواب عن الإجماعات المنقولـة على عدم حجّيـة الخبر الواحد ، ولو كان اختلاف المخبر بـه دخيلاً في ذلك ، بمعنى أنّ معقد الإجماع إنّما هو خصوص الإخبار عن اللّـه تعا لى ، لا عن غيره .
فيرد عليـه منع الملازمـة ; لأنّـه قياس صرف ; خصوصاً مع وجود الفارق بينهما ، وهو أنّ التعبّد بالإخبار عن اللّـه تعا لى موجب للإلقاء في المفسدة الكثيرة ; ضرورة أنّ ذلك يوجب تحقّق الدواعي الكثيرة من المعتصمين بالأهويـة العا ليات والمتحرّكين بتحريك الشهوات ; لعدم ثبوت الموازين التي عليها يعتمد ، وبها يتميّز الصحيح عن غيره . وهذا بخلاف الإخبار عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمّـة (عليهم السلام) .
هذا ، مضافاً إلى أنّ الإجماع إنّما قام على عدم الوقوع ، لا على الامتناع ، كما لايخفى .
والجواب عن الوجـه الثاني أن يقال:
إنّ هذا الوجـه ينحلّ إلى محذورات ، بعضها راجع إلى ملاكات الأحكام ، كاجتماع المفسدة والمصلحـة الملزمتين ، وبعضها راجع إلى مبادئ الخطابات ، كاجتماع الإرادة والكراهـة ، والحبّ
- 1 ـ اُنظر فرائد الاُصول 1: 40.