(الصفحة 429)
ومن ذلك يظهر:
أنّـه لا مضادّة بين إيجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي ، فإنّ المشتبـه إن كان ممّا يجب حفظ نفسـه واقعاً فوجوب الاحتياط يتّحد مع الوجوب الواقعي ، ويكون هو هو ، وإن لم يكن كذلك فلايجب الاحتياط ; لانتفاء علّتـه ، وإنّما المكلّف يتخيّل وجوبـه ، هذا كلّـه إذا كانت مصلحـة الواقع تقتضي جعل المتمّم من إيجاب الاحتياط .
وإن لم تكن المصلحـة الواقعيـة بهذه المثابـة من الأهمّيـة فللشارع جعل المؤمّن بلسان الرفع كحديث الرفع(1) ، أو بلسان الوضع كقولـه :
«كلّ شيء لك حلال»(2) ، فإنّ المراد من الرفع ليس رفع التكليف عن موطنـه ، بل رفع التكليف عمّا يستتبعـه من التبعات ، وإيجاب الاحتياط ، فا لرخصـة المستفادة من حديث الرفع نظير الرخصـة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، فكما أنّ هذه الرخصـة لا تنافي الحكم الواقعي كذلك الرخصـة المستفادة من حديث الرفع .
والسرّ في ذلك:
هو أنّ هذه الرخصـة تكون في طول الحكم الواقعي ، ومتأخّر رتبتها عنـه ; لأنّ الموضوع فيها هو الشكّ في الحكم ; من حيث كونـه موجباً للحيرة في الواقع وغير موصل إليـه ، فقد لوحظ في الرخصـة وجود الحكم الواقعي ، ومعـه كيف يعقل أن تضادّ الحكم الواقعي .
وبالجملـة:
الرخصـة والحلّيـة المستفادة من حديثي الرفع والحلّ تكون في عرض المنع والحرمـة المستفادة من إيجاب الاحتياط ، وقد عرفت أنّ إيجاب
- 1 ـ التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
- 2 ـ الكافي 6: 339 / 2، وسائل الشيعـة 25: 118، كتاب الأطعمـة والأشربـة، أبواب الأطعمـة المباحـة، الباب 61، الحديث 2.
(الصفحة 430)
ا لاحتياط يكون في طول الواقع ومتفرّعاً عليـه ، فما يكون في عرضـه يكون في طول الواقع أيضاً ، إلاّ يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضـه(1) ، انتهى .
ويرد عليـه أوّلاً:
أنّ الفرق بين أخذ الشكّ باعتبار كونـه من الحالات والطوارئ وبين أخذه باعتبار كونـه موجباً للحيرة في الواقع ، دعوى المناط في رفع التضادّ هو الأخذ على الوجـه الثاني ممّا لا محصّل لـه ، فإنّ مجرّد الطوليـة لو كان كافياً في رفع التضادّ فا للازم رفعـه بناءً على الوجـه الأوّل أيضاً ; لأنّ الحالات الطارئـة أيضاً في طول الواقع ، وإن لم يكن كافياً فيـه ، فالأخذ على الوجـه الثاني أيضاً لايرفع التضادّ ، بل نقول : إنّ الاعتبارين مجرّد تغيير في العبارة ، وإلاّ فلا فرق بينهما واقعاً ، كما لايخفى .
وثانياً:
أنّ ما أجاب بـه عن الإشكال الذي أورده على نفسـه بقولـه : إن قلت : من عدم وجوب الاحتياط واقعاً في مورد الشكّ مع عدم كون المشكوك ممّا يجب حفظـه ; لكون وجوب حفظ المؤمن علّـة للحكم بالاحتياط ، لا علّـة للتشريع ممّا لاوجـه لـه ، فإنّ وجوب الاحتياط حكم ظاهري مجعول لغرض حفظ الواقع ، ولابدّ أن يتعلّق حقيقـة بكلّ مشكوك ، سواء كان واجب الحفظ أم لم يكن ، وإلاّ فلو تعلّق بخصوص ما كان منطبقاً على الواجب الواقعي فقط فيحتاج إلى متمّم آخر ، فإنّ وجوب الاحتياط المتعلّق على المشكوك الواجب بحسب الواقع لايصلح للداعويـة نحو المشكوك كونـه هو الواقع ، وقاصر عن تحريك العبد نحوه ، فيصير جعل إيجاب الاحتياط لغواً ; لأنّ جميع موارد الشكّ يكون تعلّق وجوب الاحتياط بها مشكوكاً ، كما لايخفى .
وثالثاً:
أنّ ما أفاد من أنّ الرخصـة ، وكذا أصا لـة الحلّيـة إنّما يكون في
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 114 ـ 119.
(الصفحة 431)
عرض الاحتياط الذي هو في طول الواقع ، فلابدّ أن تكون الرخصـة أيضاً في طولـه ممنوع جدّاً ; لأنّـه قد ثبت في محلّـه أنّ ما في عرض المتقدّم على شيء لايلزم أن يكون متقدّماً عليـه ; لأنّ التقدّم والتأخّر إنّما يثبت في موارد ثبوت ملاكهما ، كا لعلّيـة والمعلوليـة ، ولا معنى لثبوتهما من دون ملاك ، كما هو واضح .
ورابعاً:
أنّ ما ذكره ـ على تقدير تسليم صحّتـه ـ لايجدي في رفع الإشكال با لتوجيـه الذي ذكرناه ، فتدبّر .
وممّا تفصّى بـه عن الإشكال ما أفاده السيّد الأصفهاني
ـ على ماحكاه عنـه المحقّق المعاصر في كتاب «ا لدرر» ـ وملخّصـه : أنّـه لا إشكال في أنّ الأحكام إنّما تتعلّق با لمفاهيم المتصوّرة في الذهن ، لكن لا من حيث إنّها كذلك ، بل من حيث إنّها حاكيـة عن الخارج .
ثمّ إنّ المفهوم المتصوّر تارة يكون مطلوباً على نحو الإطلاق ، واُخرى على نحو التقييد ، وعلى الثاني فقد يكون ذلك لعدم المقتضي في غير المقيّد ، وقد يكون لوجود المانع ، مثلاً قد يكون عتق الرقبـة مطلوباً على سبيل الإطلاق ، وقد يكون الغرض في عتق الرقبـة المؤمنـة خاصّـة ، وقد يكون في المطلق ، إلاّ أنّ عتق الرقبـة الكافرة مناف لغرضـه الآخر ، ولأجلـه قيّد العتق المطلوب بما إذا تحقّق في الرقبـة المؤمنـة ، فتقييده في هذا القسم إنّما هو من جهـة الكسر والانكسار ، لا لتضييق دائرة المقتضى .
ومن المعلوم : أنّ ذلك يتوقّف على تصوّر العنوان المطلوب أوّلاً مع العنوان الآخر المتّحد معـه في الوجود المخرج لـه عن المطلوبيـة الفعليـة ، فلو فرضنا عنوانين غير مجتمعين في الذهن فلايعقل تحقّق الكسر والانكسار . فا للازم من ذلك : أنّـه متى تصوّر العنوان الذي فيـه جهـة المطلوبيـة يكون مطلوباً صرفاً ، من دون تقييد وكذا العنوان الذي فيـه جهـة المبغوضيـة .
(الصفحة 432)
وا لعنوان المتعلّق للأحكام الواقعيـة مع العنوان المتعلّق للأحكام الظاهريـة ممّا لايجتمعان في الوجود الذهني ، مثلاً إذا تصوّر الآمر صلاة الجمعـة فلايمكن أن يتصوّر معها إلاّ الحالات التي يمكن أن تتصف بها في هذه الرتبـة ، مثل كونها في المسجد أو في الدار ، وأمّا اتصافها بكون حكمها الواقعي مشكوكاً فليس ممّا يتصوّر في هذه الرتبـة ; لأنّ هذا الوصف إنّما يعرض الموضوع بعد تحقّق الحكم ، والأوصاف المتأخّرة عنـه لايمكن إدراجها في موضوعـه ، فلا منافاة حينئذ بين الحكمين ; لأنّ الجهـة المطلوبيـة ملحوظـة في ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم ، وجهـة المبغوضيـة ملحوظـة مع لحاظـه .
إن قلت : العنوان المتأخّر وإن لم يكن متعقّلاً في مرتبـة تعقّل الذات ولكن الذات ملحوظـة في مرتبـة تعقّل العنوان المتأخّر ، فعند ملاحظـة العنوان المتأخّر يجتمع العنوانان في اللحاظ .
قلت : تصوّر ما يكون موضوعاً للحكم الواقعي الأوّلي مبني على قطع النظر عن الحكم ، وتصوّره بعنوان كونـه مشكوك الحكم لابدّ وأن يكون بلحاظ الحكم ، ولايمكن الجمع بين لحاظ التجرّد عن الحكم ولحاظ ثبوتـه(1) .
ويرد عليـه أوّلاً:
أنّ عنوان كون الموضوع مشكوك الحكم لايتوقّف على تحقّقـه قبلـه ; ضرورة أنّـه يمكن الشكّ في حكم الموضوع مع عدم كونـه محكوماً بحكم . فبين العنوانين ـ أعني عنوان الموضوع بلحاظ حكمـه الواقعي وعنوان كونـه مشكوك الحكم ـ نسبـة العموم من وجـه ; لأنّـه كما يمكن أن يكون الموضوع معلوم الحكم فيتحقّق الافتراق من ناحيـة الموضوع ، كذلك يمكن أن يكون مشكوك الحكم مع عدم تحقّقـه أصلاً . كيف ، ولو كان عنوان المشكوكيـة
- 1 ـ اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 351 ـ 353.
(الصفحة 433)
متوقّفاً على سبق الحكم يلزم من وجود الشكّ العلم ; لأنّ المفروض أنّ توقّفـه على سبق الحكم أمر مقطوع ، فبعد الشكّ يقطع بـه ، مع أنّـه مستحيل جدّاً .
مضافاً إلى أنّـه لو شكّ في حكم الموضوع ; من حيث الوجوب والتحريم مثلاً فا للازم ـ بناءً على هذا ـ أن يكون الموضوع في الواقع واجباً وحراماً معاً .
وثانياً:
أنّـه لو سلّم أنّ تحقّق عنوان المشكوكيـة في الواقع يتوقّف على سبق الحكم فلا نسلّم ذلك في مقام جعل الأحكام ، الذي لايتوقّف إلاّ على تصوّر موضوعاتها ، فللمولى أن يجعل الحكم متعلّقاً بعنوان مشكوك الحكم قبل أن صدر منـه حكم آخر متعلّق بذوات الموضوعات ، وقد حقّقنا في مبحث التعبّدي والتوصّلي إمكان أن يكون الموضوع مقيّداً بما لايأتي إلاّ من قبل الحكم ، فراجع .
وثالثاً ـ وهو العمدة ـ:
أنّ ما أجاب بـه عن الإشكال الذي أورده على نفسـه بقولـه : إن قلت ممّا لايندفع بـه الإشكال أصلاً ; لأنّ الموضوع المتصوّر المأخوذ موضوعاً للحكم الواقعي إمّا أن يكون مأخوذاً بشرط لا ; من حيث كونـه مشكوك الحكم ، وإمّا أن يكون مأخوذاً لابشرط . ومرجع الأوّل إلى أنّ ثبوت الحكم الواقعي للموضوع إنّما هو في صورة العلم بثبوتـه لـه ، وهو تصويب قام الإجماع ، بل الضرورة على خلافـه ، ولو كان المراد هو الثاني فمن الواضح أنّ الشيء المأخوذ لابشرط لايأبى من الاجتماع مع بشرط شيء ، وحينئذ فيجتمع الحكمان عند ملاحظـة عنوان مشكوك الحكم ، وجعل الحكم متعلّقاً بـه ، كما لايخفى .
ثمّ إنّـه قد تخلّص عن الإشكال بوجوه اُخر ، تعرّض لبعضها الاُستاذ مع الجواب عنـه ، ولكنّـه لا فائدة في التعرّض لـه بعد كونـه مورداً للإشكال ، وبعد الجواب عنـه بما حقّقناه ، فتأمّل في المقام ، فإنّـه من مزالّ الأقدام .