(الصفحة 431)
عرض الاحتياط الذي هو في طول الواقع ، فلابدّ أن تكون الرخصـة أيضاً في طولـه ممنوع جدّاً ; لأنّـه قد ثبت في محلّـه أنّ ما في عرض المتقدّم على شيء لايلزم أن يكون متقدّماً عليـه ; لأنّ التقدّم والتأخّر إنّما يثبت في موارد ثبوت ملاكهما ، كا لعلّيـة والمعلوليـة ، ولا معنى لثبوتهما من دون ملاك ، كما هو واضح .
ورابعاً:
أنّ ما ذكره ـ على تقدير تسليم صحّتـه ـ لايجدي في رفع الإشكال با لتوجيـه الذي ذكرناه ، فتدبّر .
وممّا تفصّى بـه عن الإشكال ما أفاده السيّد الأصفهاني
ـ على ماحكاه عنـه المحقّق المعاصر في كتاب «ا لدرر» ـ وملخّصـه : أنّـه لا إشكال في أنّ الأحكام إنّما تتعلّق با لمفاهيم المتصوّرة في الذهن ، لكن لا من حيث إنّها كذلك ، بل من حيث إنّها حاكيـة عن الخارج .
ثمّ إنّ المفهوم المتصوّر تارة يكون مطلوباً على نحو الإطلاق ، واُخرى على نحو التقييد ، وعلى الثاني فقد يكون ذلك لعدم المقتضي في غير المقيّد ، وقد يكون لوجود المانع ، مثلاً قد يكون عتق الرقبـة مطلوباً على سبيل الإطلاق ، وقد يكون الغرض في عتق الرقبـة المؤمنـة خاصّـة ، وقد يكون في المطلق ، إلاّ أنّ عتق الرقبـة الكافرة مناف لغرضـه الآخر ، ولأجلـه قيّد العتق المطلوب بما إذا تحقّق في الرقبـة المؤمنـة ، فتقييده في هذا القسم إنّما هو من جهـة الكسر والانكسار ، لا لتضييق دائرة المقتضى .
ومن المعلوم : أنّ ذلك يتوقّف على تصوّر العنوان المطلوب أوّلاً مع العنوان الآخر المتّحد معـه في الوجود المخرج لـه عن المطلوبيـة الفعليـة ، فلو فرضنا عنوانين غير مجتمعين في الذهن فلايعقل تحقّق الكسر والانكسار . فا للازم من ذلك : أنّـه متى تصوّر العنوان الذي فيـه جهـة المطلوبيـة يكون مطلوباً صرفاً ، من دون تقييد وكذا العنوان الذي فيـه جهـة المبغوضيـة .
(الصفحة 432)
وا لعنوان المتعلّق للأحكام الواقعيـة مع العنوان المتعلّق للأحكام الظاهريـة ممّا لايجتمعان في الوجود الذهني ، مثلاً إذا تصوّر الآمر صلاة الجمعـة فلايمكن أن يتصوّر معها إلاّ الحالات التي يمكن أن تتصف بها في هذه الرتبـة ، مثل كونها في المسجد أو في الدار ، وأمّا اتصافها بكون حكمها الواقعي مشكوكاً فليس ممّا يتصوّر في هذه الرتبـة ; لأنّ هذا الوصف إنّما يعرض الموضوع بعد تحقّق الحكم ، والأوصاف المتأخّرة عنـه لايمكن إدراجها في موضوعـه ، فلا منافاة حينئذ بين الحكمين ; لأنّ الجهـة المطلوبيـة ملحوظـة في ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم ، وجهـة المبغوضيـة ملحوظـة مع لحاظـه .
إن قلت : العنوان المتأخّر وإن لم يكن متعقّلاً في مرتبـة تعقّل الذات ولكن الذات ملحوظـة في مرتبـة تعقّل العنوان المتأخّر ، فعند ملاحظـة العنوان المتأخّر يجتمع العنوانان في اللحاظ .
قلت : تصوّر ما يكون موضوعاً للحكم الواقعي الأوّلي مبني على قطع النظر عن الحكم ، وتصوّره بعنوان كونـه مشكوك الحكم لابدّ وأن يكون بلحاظ الحكم ، ولايمكن الجمع بين لحاظ التجرّد عن الحكم ولحاظ ثبوتـه(1) .
ويرد عليـه أوّلاً:
أنّ عنوان كون الموضوع مشكوك الحكم لايتوقّف على تحقّقـه قبلـه ; ضرورة أنّـه يمكن الشكّ في حكم الموضوع مع عدم كونـه محكوماً بحكم . فبين العنوانين ـ أعني عنوان الموضوع بلحاظ حكمـه الواقعي وعنوان كونـه مشكوك الحكم ـ نسبـة العموم من وجـه ; لأنّـه كما يمكن أن يكون الموضوع معلوم الحكم فيتحقّق الافتراق من ناحيـة الموضوع ، كذلك يمكن أن يكون مشكوك الحكم مع عدم تحقّقـه أصلاً . كيف ، ولو كان عنوان المشكوكيـة
- 1 ـ اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 351 ـ 353.
(الصفحة 433)
متوقّفاً على سبق الحكم يلزم من وجود الشكّ العلم ; لأنّ المفروض أنّ توقّفـه على سبق الحكم أمر مقطوع ، فبعد الشكّ يقطع بـه ، مع أنّـه مستحيل جدّاً .
مضافاً إلى أنّـه لو شكّ في حكم الموضوع ; من حيث الوجوب والتحريم مثلاً فا للازم ـ بناءً على هذا ـ أن يكون الموضوع في الواقع واجباً وحراماً معاً .
وثانياً:
أنّـه لو سلّم أنّ تحقّق عنوان المشكوكيـة في الواقع يتوقّف على سبق الحكم فلا نسلّم ذلك في مقام جعل الأحكام ، الذي لايتوقّف إلاّ على تصوّر موضوعاتها ، فللمولى أن يجعل الحكم متعلّقاً بعنوان مشكوك الحكم قبل أن صدر منـه حكم آخر متعلّق بذوات الموضوعات ، وقد حقّقنا في مبحث التعبّدي والتوصّلي إمكان أن يكون الموضوع مقيّداً بما لايأتي إلاّ من قبل الحكم ، فراجع .
وثالثاً ـ وهو العمدة ـ:
أنّ ما أجاب بـه عن الإشكال الذي أورده على نفسـه بقولـه : إن قلت ممّا لايندفع بـه الإشكال أصلاً ; لأنّ الموضوع المتصوّر المأخوذ موضوعاً للحكم الواقعي إمّا أن يكون مأخوذاً بشرط لا ; من حيث كونـه مشكوك الحكم ، وإمّا أن يكون مأخوذاً لابشرط . ومرجع الأوّل إلى أنّ ثبوت الحكم الواقعي للموضوع إنّما هو في صورة العلم بثبوتـه لـه ، وهو تصويب قام الإجماع ، بل الضرورة على خلافـه ، ولو كان المراد هو الثاني فمن الواضح أنّ الشيء المأخوذ لابشرط لايأبى من الاجتماع مع بشرط شيء ، وحينئذ فيجتمع الحكمان عند ملاحظـة عنوان مشكوك الحكم ، وجعل الحكم متعلّقاً بـه ، كما لايخفى .
ثمّ إنّـه قد تخلّص عن الإشكال بوجوه اُخر ، تعرّض لبعضها الاُستاذ مع الجواب عنـه ، ولكنّـه لا فائدة في التعرّض لـه بعد كونـه مورداً للإشكال ، وبعد الجواب عنـه بما حقّقناه ، فتأمّل في المقام ، فإنّـه من مزالّ الأقدام .
(الصفحة 434)المقام الثاني
في تأسيس الأصل
يقع الكلام في تأسيس الأصل الذي يعوّل عليـه عند عدم الدليل على وقوع التعبّد بغير العلم مطلقاً أو في الجملـة . فنقول : ذكر الشيخ في «ا لرسا لـة» ما ملخّصـه : أنّ التعبّد با لظنّ الذي لم يدلّ على التعبّد بـه دليل محرّم بالأدلّـة الأربعـة .
يكفي من الكتاب قولـه تعا لى : (
قُلْ ءآللّـهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلى اللّـهِ تَفْتَرُونَ)(1) دلّ على أنّ ما ليس بإذن من اللّـه من إسناد الحكم إلى الشارع فهو افتراء .
ومن السنّـة : قولـه(عليه السلام) في عداد القضاة من أهل النار :
«ورجل قضى بالحقّ، وهو لايعلم»(2) .
ومن الإجماع : ما ادعاه الفريد البهبهاني من عدم كون الجواز بديهياً عند
- 1 ـ يونس (10) : 59 .
- 2 ـ الكافي 7: 407 / 1، وسائل الشيعـة 27: 22، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، الحديث 6.
(الصفحة 435)
ا لعوامّ ، فضلاً عن العلماء .
ومن العقل : تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لايعلم بوروده من المولى .
نعم ، فرق بين هذا وبين الاحتياط الذي يستقلّ العقل بحسنـه ; لأنّـه فرق بين الالتزام بشيء من قبل المولى على أنّـه منـه ، مع عدم العلم بأنّـه منـه ، وبين الالتزام بإتيانـه لاحتمال كونـه منـه .
والحاصل:
أنّ المحرّم هو العمل بغير العلم متعبّداً بـه ومتديّناً بـه . وأمّا العمل بـه من دون تعبّد بمقتضاه فهو حسن إن كان لرجاء إدراك الواقع ما لم يعارضـه احتياط آخر ، ولم يثبت من دليل آخر وجوب العمل على خلافـه ، كما لو ظنّ الوجوب ، واقتضى الاستصحاب الحرمـة(1) ، انتهى موضع الحاجـة .
أقول:
المراد بالإسناد إلى الشارع هو التشريع الذي كان قبحـه عقلاً وحرمتـه شرعاً مفروغاً عنـه عندهم ، ولكن كلّما تأمّلنا لم نعرف لـه معناً متصوّراً معقولاً ، إذ الالتزام الحقيقي بما يعلم عدم ورود التعبّد من الشارع ، أو لايعلم وروده منـه ممّا لايمكن أن يتحقّق ; لعدم كون الالتزامات النفسانيـة تحت اختيار المكلّف . نعم ، الإسناد إلى الشارع ـ الذي هو عبارة اُخرى عن البدعـة ـ أمر ممكن معقول ، قد دلّ العقل والنقل على خلافـه ، وأنّـه أمر قبيح محرّم .
وبالجملـة:
فا لتعبّد بمقتضى الأمارة الغير العلميـة التي لم يرد دليل على اعتبارها إن كان معناه هو العمل بمضمونها بعنوان أنّـه من الشارع فهو ممّا لايعقل ، مع عدم العلم بورود التعبّد بـه من الشارع ، وإن كان معناه هو إسناد مضمونها إلى الشارع قولاً فهو من مصاديق القول بغير العلم الذي يحكم العقل بقبحـه قطعاً ،
- 1 ـ فرائد الاُصول 1: 49 ـ 50.