(الصفحة 478)
واُجيب عن الوجـه الثالث:
بأنّ المستحيل إنّما هو إثبات الحكم موضوع شخصـه ، لا إثبات موضوع لحكم آخر ، فإنّ هذا بمكان من الإمكان ، والمقام يكون من هذا القبيل ، فإنّ الذي يثبت بوجوب تصديق الشيخ إنّما هو خبر المفيد ، وإذا ثبت خبر المفيد بوجوب تصديق الشيخ يعرض عليـه وجوب التصديق أيضاً ، وهكذا(1) .
وعن الوجـه الرابع تارة:
بما في تقريرات المحقّق النائيني من أنّ هذا الإشكال إنّما يتوجّـه بناءً على أن يكون المجعول في باب الأمارات منشأ انتزاع الحجّيـة ، أمّا بناءً على ما هو المختار من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات نفس الكاشفيـة والوسطيـة في الإثبات فلا إشكال حتّى نحتاج إلى التفصّي عنـه ، فإنّـه لايلزم شيء ممّا ذكر ; لأنّ المجعول في جميع السلسلـة هو الطريقيـة إلى ما تؤدّي إليـه أيّ شيء كان المؤدّى ، فقول الشيخ طريق إلى قول المفيد ، وقول المفيد طريق إلى قول الصدوق ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى قول زرارة الحاكي لقول الإمام(عليه السلام)(2) .
واُخرى:
بما في تقريرات المحقّق العراقي ممّا حاصلـه : أنّ دليل الاعتبار ـ وهو قولـه «صدّق العادل» مثلاً ـ وإن كان بحسب الصورة قضيـة واحدة ، ولكنّها تنحلّ إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد حصص الطبيعي بتعدّد الأفراد ، وبعد فرض انتهاء سلسلـة سند الروايـة إلى الحاكي لقول الإمام(عليه السلام) ، وشمول دليل وجوب التصديق لـه ; لكون المخبر بـه في خبره حكماً شرعياً تصير بقيـة الوسائط ذات أثر شرعي ، فيشملها دليل وجوب التصديق ; إذ حينئذ يصير وجوب التصديق
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 179.
- 2 ـ نفس المصدر 3 : 180.
(الصفحة 479)
ا لمترتّب على مثل قول الصفّار الحاكي لقول الإمام(عليه السلام) أثراً شرعياً لـه ، وهكذا إلى منتهى الوسائط . فكان كلّ لاحق مخبراً عن موضوع ذي أثر شرعي(1) .
وثالثـة:
بما أفاده المحقّق المعاصر في كتاب «ا لدرر» ممّا حاصلـه : أنّ وجوب تصديق العادل فيما أخبره ليس من قبيل الحكم المجعول للشكّ تعبّداً ، بل مفاده جعل الخبر ; من حيث إنّـه مفيد للظنّ النوعي طريقاً إلى الواقع ، وعليـه لو أخبر العادل بشيء يكون ملازماً لشيء لـه أثر شرعاً ; إمّا عادة أو عقلاً أو بحسب العلم نأخذ بـه ، ونرتّب على لازم المخبر بـه الأثر الشرعي المرتّب عليـه .
والسرّ في ذلك:
أنّ الطريق إلى أحد المتلازمين طريق إلى الآخر ، وحينئذ نقول يكفي في حجّيـة خبر العادل انتهاؤه إلى أثر شرعي ، ولايلزم أن تكون الملازمـة عاديـة أو عقليـة ، ويكفي ثبوت الملازمـة الجعليـة ، بمعنى أنّ الشارع جعل الملازمـة النوعيـة الواقعيـة بين إخبار العادل ، وتحقّق المخبر بـه بمنزلـة الملازمـة القطعيـة ، ولا تكون قضيـة «صدّق العادل» ناظرة إلى هذه الملازمـة ، كما لاتكون ناظرة إلى الملازمـة العقليـة والعاديـة ، بل يكفي في ثبوت هذا الحكم ثبوت الملازمـة في نفس الأمر ، حتّى تكون منتجـة للحكم الشرعي العملي(2) ، انتهى .
هذا، ويرد على الجواب الأوّل:
أنّ جعل الطريقيـة لابدّ وأن يكون بلحاظ الأثر الشرعي المترتّب على ما أدّى إليـه الطريق ، وإلاّ فلايجوز جعل الطريقيـة مع عدم ترتّب الأثر الشرعي على المؤدّى ، والمفروض في المقام أنّ ما أدّى إليـه الطريق هو قول المفيد ، وهو لايكون موضوعاً لشيء من الآثار الشرعيـة ، بناءً
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 124.
- 2 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 388.
(الصفحة 480)
على جعل الوسطيـة والكاشفيـة ، كما هو واضح .
وعلى الجواب الثاني:
أنّ ما ذكره من شمول دليل وجوب التصديق لقول الراوي الذي يحكي لقول الإمام(عليه السلام) لكون المخبر بـه في خبره حكماً شرعياً إنّما يتمّ لو ثبت خبره ، والكلام إنّما هو فيـه ; إذ المفروض أنّ خبره لم يثبت وجداناً ، فمن أين يشمل لـه دليل وجوب التصديق ؟ !
وبا لجملـة : ففرض الكلام من صدر السلسلـة إنّما يصحّ لو ثبت أنّ الراوي الذي وقع في صدرها أخبر من بعده بتحديث الإمام(عليه السلام) لـه ، والكلام إنّما هو في ثبوتـه ، كما لايخفى .
وعلى الجواب الثالث
ـ مضافاً إلى أنّـه لم يدلّ دليل على الملازمـة التي ادعاها ـ : أنّ المخبر بـه ، وهو قول المفيد في المثال لايكون مترتّباً عليـه الأثر الشرعي ، حتّى يجب تصديق الشيخ فيما أخبره بلحاظ ذلك الأثر . وتوهّم أنّ قول المفيد يترتّب عليـه بعض الآثار ، وهو صحّـة النسبـة إليـه ، وعدم كون إسناده إليـه من القول بغير العلم ، فلا مانع من أن يكون وجوب التصديق بلحاظ ذلك الأثر ، مدفوع بأنّ قول المفيد بلحاظ هذا الأثر إنّما يكون من الموضوعات الخارجيـة التي لاتثبت إلاّ با لبيّنـة ، ولايكفي فيـه قول العادل الواحد ، كما هو واضح .
والتحقيق في هذا المقام
ـ بعد عدم رفع الإشكال بما ذكره الأعلام ، كما عرفت ـ أن يقال : إنّ أصل الإشكال ، وكذا الجوابات كلّها من الاُمور العقليـة الخارجـة عن فهم العرف ، الذي هو الملاك والمرجع في معنى الآيـة ونظائرها من الأدلّـة ، فإنّـه لاشكّ في أنّـه لو ألقى عليهم هذا الكلام ، وهو حجّيـة قول العادل ، ووجوب تصديقـه فيما أخبره لايفهمون من ذلك الفرق بين الإخبار بلا واسطـة أو معها ، ولاينظرون في الإخبار مع الواسطـة إلى الوسائط أصلاً ، بل
(الصفحة 481)
يقولون في المثال بأنّ العادل أخبر بأنّ الإمام(عليه السلام) قال كذا أو فعل كذا ، وإن كان العادل الذي وقع في منتهى السلسلـة لم يخبر بقول الإمام(عليه السلام) ، بل المخبر بـه بخبره هو إخبار العادل الذي حدّثـه .
ومن هنا يعلم : أنّ المخبر بـه بخبر هذا العادل وإن كان من الموضوعات ، ولايكفي في ثبوتها إلاّ البيّنـة إلاّ أنّـه حيث لايكون في نظر العرف منظوراً مستقلاّ ، بل منظوراً آليّاً فيكفي في ثبوتـه إخبار عادل واحد .
منها: آيـة النفر
ومن الآيات التي استدلّ بها على حجّيـة خبر الواحد آيـة النفر :
(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ ليَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(1) .
ولكن الاستدلال بها لذلك في غايـة الضعف ; لأنّ المستفاد من لولا التحضيضيـة ليس وجوب أصل النفر ، بل المقصود بها بملاحظـة قولـه :
(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفرُوا كافَّةً) ، وبملاحظة الآيات التي قبل هذه الآية هو نفي وجوب نفر المؤمنين كافّـة ، والنهي عن ذلك ، بمعنى أنّ مفاد لولا التحضيضيـة هو وجوب التفرقـة والتفكيك ; أي لايجوز للمؤمنين كافّـة النفر ، وإبقاء رسول اللّـه(صلى الله عليه وآله وسلم) وحده ، فلِمَ لايكون النافرون طائفـة خاصّـة من المؤمنين .
فا لمراد من الآيـة بحسب الظاهر هو النهي عن النفر العمومي ، وليس المقصود منها هو بيان أصل وجوب نفر طائفـة لغايـة التفقّـة . هذا ، مضافاً إلى أنّ كلمـة النفر كما يدلّ عليـه التأمّل في سياق الآيـة وفي موارد استعمالاتها في
(الصفحة 482)
ا لقرآن الكريم يكون المراد بها النفر للجهاد ، لا النفر للتفقّـة .
وعليـه فيتعيّن أن يكون المراد من الآيـة هو تفقّـة النافرين بسبب ما يرونـه في الجهاد من السفرة الإلهيـة والإمدادات الغيبيـة وقوّة الإيمان وإنذار القوم الذين هم الكفّار الموجودون في المدينـة ، لعلّهم يحذرون ويدخلون في دين اللّـه ، أو يصون الإسلام والمسلمون من شرورهم . ويؤيّد ذلك رجوع الضمير في «ليتفقّهوا» أو ما بعده إلى النافرين المذكورين في الآيـة ، ولا وجـه للرجوع إلى المتخلّفين ، بعد عدم كونهم مذكورين ، وأيضاً لايناسب الإنذار والحذر بالإضافـة إلى المجاهدين ، أصلاً .
وإ لى أنّ التفقّـه يحتمل أن يكون المراد بـه التفقّـه في الاُصول الاعتقاديـة ، لا الأحكام الفرعيـة ، كما يشهد بذلك الروايات الكثيرة التي استدلّ فيها بالآيـة الشريفـة لأصل الإمامـة(1) .
وعلى تقدير أن يكون المراد بـه الأعمّ من التفقّـه في الأحكام الفرعيـة فا لظاهر أنّ المراد بقولـه «لينذروا» هو إنذار كلّ واحد من المتفقّهين النافرين أو المتخلّفين ـ على اختلاف التفسيرين ـ جميع قومهم ، وحينئذ فلايدلّ على وجوب تصديق كلّ واحد من المنذرين ، وعلى تقدير وجوب تصديقـه ينحصر ذلك با لمتفقّـه المنذر ، لا كلّ من تحمّل الحديث ، وإن لم يكن فقيهاً .
هذا كلّـه ، مضافاً إلى المنع من كون الحذر واجباً ، وعلى تقدير وجوبـه لا دليل على كون المراد با لحذر هو الحذر العملي الراجع إلى العمل بقول المنذر ، بل الظاهر هو التحذّر القلبي والخوف والخشيـة ، فيكون المقصود لينذروا قومهم با لموعظـة والإيعاد ، حتّى يخافوا من عذاب اللّـه ، ويعملوا بوظائفهم .
- 1 ـ الكافي 1: 378 ـ 380 / 1 ـ 3.