(الصفحة 490)
على خلافـه ، كذلك القطع الإجما لي با لحكم الفعلي يكون حجّـة موجباً لتنجّزه ، ولايعقل الترخيص بخلافـه ، فإنّـه لو علم إجمالاً بأنّ قتل النبي المردّد بين جمع كثير مهدور الدم يكون محرّماً با لحرمـة الفعليـة التي لايرضى المولى بـه أصلاً لايجوز لـه ارتكاب قتل واحد من تلك الجماعـة ، وكذا لايجوز الترخيص من المولى ، فإنّـه لايجتمع مع الحرمـة الفعليـة ، كما هو واضح .
وبا لجملـة : فلا فرق في أحكام القطع بين القطع التفصيلي والإجما لي قطعاً ، فلابدّ من إدخا لـه فيـه .
والثاني: هو مبحث الظنّ،
وقد عرفت أنّـه لافرق فيـه أيضاً بين أن يعلم تفصيلاً بقيام الأمارة المعتبرة ، وبين أن يعلم إجمالاً بقيامها . والقسم الثاني هو مبحث الاشتغال المعروف بينهم ، الذي يذكرونـه عقيب مبحث البراءة ، فإنّ الظاهر أنّ المراد منـه هو العلم الإجما لي بقيام الأمارة على التكليف من إطلاق دليل أو غيره ; لما عرفت من أنّـه لا مجال لتوهّم الإشكال في حجّيـة العلم الإجما لي المتعلّق با لتكليف الفعلي ، وكونـه منجّزاً ; بحيث لايجوز الترخيص بخلافـه . وحينئذ فيكون مبحث الاشتغال من مباحث الظنّ .
والثالث: هو مبحث الاستصحاب;
لأنّـه حجّـة على الواقع ، وإن لم يكن أمارة عليـه .
والرابع: هو مبحث البراءة،
ومن هنا ظهر : أنّ الوضع الطبيعي يقتضي تأخير مبحث البراءة عن جميع المباحث ، وكذا إدراج البحث عن الاشتغال في مباحث الظنّ . نعم ، للاشتغال حظّ من مبحث الاستصحاب ، وهو ما لو كان المستصحب المعلوم مردّداً بين شيئين أو أشياء ، كما لايخفى .
إذا عرفت ذلك فاعلم:
أنّـه لا إشكال في تقدّم القطع بقسميـه على غيره من
(الصفحة 491)
ا لأمارات والاُصول ، ولا مجال لها معـه ; أمّا القطع التفصيلي فتقدّمـه عليها واضح ; لأنّها اُمور تعبّديـة مجعولـة للشاكّ الذي لايعلم با لواقع ، وأمّا القطع الإجما لي فلما عرفت من أنّـه حجّـة عقليـة موجباً لتنجّز التكليف ; بحيث لايعقل الترخيص في تركـه ، فلا مجال معـه من التعبّد الذي مورده صورة الشكّ وعدم العلم .
وأمّا تقدّم الأمارات على الاُصول فنقول:
أمّا تقدّمها على الاستصحاب فربّما يشكل وجهـه لو كان المراد با ليقين الذي ورد في أخبار لا تنقض هو اليقين القطعي الوجداني الذي لايحتمل معـه الخلاف ; لأنّ مفاد هذه الأخبار حينئذ أنّ نقض اليقين با لشكّ حرام إلى أن يحصل اليقين الوجداني ، بخلاف اليقين الأوّل .
ومن المعلوم:
أنّ الأمارات التي جلّها ، بل كلّها حجج عقليـة ثابتـة ببناء العقلاء ـ كما عرفت ـ لاتكون مفيدة لليقين ، ولم يكن عملهم على طبقها من باب أنّـه يقين ; ضرورة أنّ الطريق عندهم لايكون منحصراً با لقطع ، وليس ذلك من جهـة تنزيل سائر الطرق منزلـة الطريقـة العلميـة أصلاً ، كما يظهر ذلك بمراجعتهم .
وحينئذ فيقع التعارض بحسب الظاهر بين دليل اعتبار الأمارة وبين أخبار لاتنقض ; لأنّ مفاده التعبّد بثبوت الطهارة مثلاً لو شهدت البيّنـة بها ، ومفادها حرمـة نقض اليقين با لنجاسـة ما دام لم يحصل يقين وجداني با لطهارة . وحينئذ فيشكل وجـه تقدّم الأمارات على الاستصحاب .
هذا ، ويحتمل قويّاً أن يكون المراد با ليقين في أخبار الاستصحاب هي الحجّـة والدليل ، فمعناها حينئذ حرمـة نقض الحجّـة بمجرّد الشكّ ، بل الواجب نقضها بحجّـة اُخرى ، ولايجوز رفع اليد عن الحجّـة بلا حجّـة ، وحينئذ فا لوجـه
(الصفحة 492)
في تقدّم الأمارات عليـه واضح ; لأنّ الأمارات حجّـة شرعيـة ـ تأسيساً أو إمضاءً ـ فيجوز رفع اليد بها عن اليقين السابق ; لأنّ مقتضى أخبار الاستصحاب هو حرمـة نقض الحجّـة ما لم تحصل حجّـة على خلافها ، وأدلّـة اعتبار الأمارات تثبت الحجّـة المعتبرة ، فتكون واردة عليها .
هذا، ويشهد لما ذكرنا:
من أنّ اليقين ليس المراد بـه اليقين الوجداني ، بل الحجّـة والدليل ملاحظـة نفس أخبار الاستصحاب ، والتأمّل فيها ، فإنّـه قد حكم الإمام(عليه السلام) في صحيحـة زرارة الاُولى ، الواردة في الوضوء(1) بحرمـة نقض اليقين با لطهارة با لشكّ فيها ، مع أنّ اليقين الوجداني با لطهارة لايتفق إلاّ نادراً ; لأنّ العلم الجزمي بكون الوضوء الصادر من الإنسان قد صدر جامعاً لجميع ما اعتبر فيـه في غايـة القلّـة ، بل لولا قاعدة الفراغ لأشكل الأمر بسبب ذلك ، ومع ذلك قد حكم الإمام(عليه السلام) بجريان استصحاب الطهارة ، وليس ذلك إلاّ لكون المراد من اليقين ليس ما اصطلح عليـه العلماء ، وهو ما يقابل الظنّ والشكّ والوهم ، كما هو واضح .
ونظير ذلك ما وقع في صحيحتـه الثانيـة(2) من حكم الإمام(عليه السلام) بجريان ا لاستصحاب فيما لو ظنّ إصابـة الدم أو المني الثوب ، مع عدم اليقين بذلك ; معلّلاً بـ
«أنّك كنت على يقين من طهارتك» ، مع أنّ اليقين الوجداني والعلم الجزمي بطهارة الثوب ممّا لايتفق إلاّ نادراً .
وكذلك صحيحتـه الثا لثـة الواردة في عدّة أحكام الشكوك : منها
- 1 ـ تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، وسائل الشيعـة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
- 2 ـ تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعـة 3: 477، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 41، الحديث 1.
(الصفحة 493)
قولـه(عليه السلام) :
«وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام، فأضاف إليها اُخرى، ولاشيء عليـه، ولاينقض اليقين بالشكّ»(1) ، فإنّ التعبير بقولـه : «وقد أحرز الثلاث» دليل على أنّ المراد با ليقين ليس إلاّ الإحراز ، فتأمّل . وكيف كان فا لظاهر ـ خصوصاً بملاحظـة ما ذكرنا ، وكذا سائر الموارد التي يستفاد منها هذا المعنى ـ أنّ المراد با ليقين في أخبار لا تنقض ليس إلاّ الحجّـة ، وحينئذ فتكون أدلّـة الأمارات واردة عليها ، كما لايخفى .
هذا ، ومن هنا يظهر وجـه تقدّم الأمارات على أصا لـة البراءة التي مدركها إمّا مثل حديث الرفع ، وإمّا حكم العقل . فعلى الأوّل فا لظاهر أنّ المراد بـ «ما لايعلمون» الوارد فيـه ليس إلاّ ما يعمّ الحجّـة عليـه ، ومن الواضح أنّ أدلّـة الأمارات يثبت حجّيتها ، كما أنّ مدركـه لو كان قاعدة قبح العقاب بلابيان تكون الأمارات متقدّمـة عليـه أيضاً ; لأنّها بيان قام الدليل على اعتبارها .
وأمّا تقدّم الاستصحاب على أصل البراءة;
فإن كان مدركها حكم العقل بقبح العقاب ، من دون بيان فواضح ; لأنّ أدلّـة الاستصحاب الدالّـة على حرمـة نقض اليقين بغير اليقين بيان وحجّـة للمولى على العبد ، كما هو واضح .
وأمّا لو كان مدركها هو مثل حديث الرفع فلأنّ مفاد أدلّـة الاستصحاب تنزيل الشكّ المسبوق با ليقين بمنزلـة اليقين ; لكونـه أمراً مستحكماً مبرماً لاينبغي أن ينقض با لشكّ الذي لايكون كذلك على ما هو التحقيق من أنّ المراد با ليقين ليس المتيقّن ، فإنّـه لايناسب النقض با لشكّ ، كما لايخفى . وحينئذ فتكون أدلّـة
- 1 ـ الكافي 3: 351 / 3، وسائل الشيعـة 8: 220، كتاب الصلاة، أبواب الخلل في الصلاة، الباب 11، الحديث 3.
(الصفحة 494)
ا لاستصحاب حاكمـة على مثل حديث الرفع(1) ; لأنّ مدلولـه رفع ما لايعلم ، وهي تدلّ على تنزيل الشكّ منزلـة العلم ، وتحكم بكونـه علماً في عا لم التشريع .
وإن شئت قلت:
إنّ المراد بـ «ما لايعلمون» ـ كما عرفت ـ هو ما لم يقم الحجّـة عليـه ، ولاشبهـة في أنّ أدلّـة الاستصحاب حجّـة ودليل ، فتكون متقدّمـة عليـه ، كما هو واضح ، ولعلّـه سيجيء التكلّم في هذا المقام في مبحث الاستصحاب .
- 1 ـ التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.