(الصفحة 492)
في تقدّم الأمارات عليـه واضح ; لأنّ الأمارات حجّـة شرعيـة ـ تأسيساً أو إمضاءً ـ فيجوز رفع اليد بها عن اليقين السابق ; لأنّ مقتضى أخبار الاستصحاب هو حرمـة نقض الحجّـة ما لم تحصل حجّـة على خلافها ، وأدلّـة اعتبار الأمارات تثبت الحجّـة المعتبرة ، فتكون واردة عليها .
هذا، ويشهد لما ذكرنا:
من أنّ اليقين ليس المراد بـه اليقين الوجداني ، بل الحجّـة والدليل ملاحظـة نفس أخبار الاستصحاب ، والتأمّل فيها ، فإنّـه قد حكم الإمام(عليه السلام) في صحيحـة زرارة الاُولى ، الواردة في الوضوء(1) بحرمـة نقض اليقين با لطهارة با لشكّ فيها ، مع أنّ اليقين الوجداني با لطهارة لايتفق إلاّ نادراً ; لأنّ العلم الجزمي بكون الوضوء الصادر من الإنسان قد صدر جامعاً لجميع ما اعتبر فيـه في غايـة القلّـة ، بل لولا قاعدة الفراغ لأشكل الأمر بسبب ذلك ، ومع ذلك قد حكم الإمام(عليه السلام) بجريان استصحاب الطهارة ، وليس ذلك إلاّ لكون المراد من اليقين ليس ما اصطلح عليـه العلماء ، وهو ما يقابل الظنّ والشكّ والوهم ، كما هو واضح .
ونظير ذلك ما وقع في صحيحتـه الثانيـة(2) من حكم الإمام(عليه السلام) بجريان ا لاستصحاب فيما لو ظنّ إصابـة الدم أو المني الثوب ، مع عدم اليقين بذلك ; معلّلاً بـ
«أنّك كنت على يقين من طهارتك» ، مع أنّ اليقين الوجداني والعلم الجزمي بطهارة الثوب ممّا لايتفق إلاّ نادراً .
وكذلك صحيحتـه الثا لثـة الواردة في عدّة أحكام الشكوك : منها
- 1 ـ تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، وسائل الشيعـة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
- 2 ـ تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعـة 3: 477، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 41، الحديث 1.
(الصفحة 493)
قولـه(عليه السلام) :
«وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام، فأضاف إليها اُخرى، ولاشيء عليـه، ولاينقض اليقين بالشكّ»(1) ، فإنّ التعبير بقولـه : «وقد أحرز الثلاث» دليل على أنّ المراد با ليقين ليس إلاّ الإحراز ، فتأمّل . وكيف كان فا لظاهر ـ خصوصاً بملاحظـة ما ذكرنا ، وكذا سائر الموارد التي يستفاد منها هذا المعنى ـ أنّ المراد با ليقين في أخبار لا تنقض ليس إلاّ الحجّـة ، وحينئذ فتكون أدلّـة الأمارات واردة عليها ، كما لايخفى .
هذا ، ومن هنا يظهر وجـه تقدّم الأمارات على أصا لـة البراءة التي مدركها إمّا مثل حديث الرفع ، وإمّا حكم العقل . فعلى الأوّل فا لظاهر أنّ المراد بـ «ما لايعلمون» الوارد فيـه ليس إلاّ ما يعمّ الحجّـة عليـه ، ومن الواضح أنّ أدلّـة الأمارات يثبت حجّيتها ، كما أنّ مدركـه لو كان قاعدة قبح العقاب بلابيان تكون الأمارات متقدّمـة عليـه أيضاً ; لأنّها بيان قام الدليل على اعتبارها .
وأمّا تقدّم الاستصحاب على أصل البراءة;
فإن كان مدركها حكم العقل بقبح العقاب ، من دون بيان فواضح ; لأنّ أدلّـة الاستصحاب الدالّـة على حرمـة نقض اليقين بغير اليقين بيان وحجّـة للمولى على العبد ، كما هو واضح .
وأمّا لو كان مدركها هو مثل حديث الرفع فلأنّ مفاد أدلّـة الاستصحاب تنزيل الشكّ المسبوق با ليقين بمنزلـة اليقين ; لكونـه أمراً مستحكماً مبرماً لاينبغي أن ينقض با لشكّ الذي لايكون كذلك على ما هو التحقيق من أنّ المراد با ليقين ليس المتيقّن ، فإنّـه لايناسب النقض با لشكّ ، كما لايخفى . وحينئذ فتكون أدلّـة
- 1 ـ الكافي 3: 351 / 3، وسائل الشيعـة 8: 220، كتاب الصلاة، أبواب الخلل في الصلاة، الباب 11، الحديث 3.
(الصفحة 494)
ا لاستصحاب حاكمـة على مثل حديث الرفع(1) ; لأنّ مدلولـه رفع ما لايعلم ، وهي تدلّ على تنزيل الشكّ منزلـة العلم ، وتحكم بكونـه علماً في عا لم التشريع .
وإن شئت قلت:
إنّ المراد بـ «ما لايعلمون» ـ كما عرفت ـ هو ما لم يقم الحجّـة عليـه ، ولاشبهـة في أنّ أدلّـة الاستصحاب حجّـة ودليل ، فتكون متقدّمـة عليـه ، كما هو واضح ، ولعلّـه سيجيء التكلّم في هذا المقام في مبحث الاستصحاب .
- 1 ـ التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
(الصفحة 495)حول
أدلّـة الاُصوليّين على البراءة
إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنّا بصدده ، وهو التكلّم في البراءة ، فنقول : قد استدلّ على البراءة بالأدلّـة الأربعـة :
الدليل الأوّل: الآيات
منها:
قولـه تعا لى :
(وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(1) .
وقد اُورد على التمسّك بـه
تارة:
بأنّ ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث ، فيختصّ با لعذاب الدنيوي الواقع في الاُمم السابقـة(2) .
واُخرى:
بأنّ نفي فعليـة التعذيب أعمّ من نفي الاستحقاق(3) .
وثالثـة:
بأنّ مفادها أجنبي عن البراءة ، فإنّ مفادها الإخبار بنفي التعذيب
- 1 ـ الإسراء (17): 15.
- 2 ـ فرائد الاُصول 1: 317.
- 3 ـ الفصول الغرويّـة: 353 / السطر 7.
(الصفحة 496)
قبل إتمام الحجّـة ، كما هو حال الاُمم السابقـة ، فلا دلالـة لها على حكم مشتبـه الحكم ; من حيث إنّـه مشتبـه ، فهي أجنبيـة عمّا نحن فيـه(1) .
وأنت خبير بعدم تماميـة شيء من هذه الإيرادات .
أمّا الأوّل:
فلأنّ الآيـة إنّما وقعت في ذيل الآيات الواردة في القيامـة ، ولا اختصاص لها ، بل لا ارتباط لها بنفي العذاب الدنيوي با لنسبـة إلى الاُمم السا لفـة . وحينئذ فيكون المراد با لتعذيب المنفي هو العذاب الاُخروي ، كما أنّ المراد ببعث الرسول ليس مجرّد بعثـه ، ولو لم يكن مأموراً با لتبليغ ، كما يدلّ على ذلك ـ مضافاً إلى أنّـه هو المتفاهم منـه ـ ذكر الرسول ، لا النبيّ ، بل المراد بـه أنّ البعث لأجل التبليغ وإتمام الحجّـة إنّما يكون غايـة لعدم التعذيب .
ومن هنا يظهر : أنّـه لو بلغ بعض الأحكام دون بعض ، أو بلّغها إلى أهل بلد خاصّ دون سائر البلدان ، أو بلّغها إلى جميع البلدان في عصره ، ثمّ لم يبلغ إلى الأعصار المتأخّرة ; لأجل الموانع والحوادث يفهم من الآيـة عدم التعذيب با لنسبـة إلى التكليف الذي لم يبلّغـه أصلاً ، أو الشخص الذي لم يصل إليـه ، وحينئذ فالآيـة ظاهرة ، بل صريحـة في نفي العذاب با لنسبـة إلى ما لم يصل إلى المكلّف .
هذا ، ولو سلّم ظهورها في الإخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث ، واختصاصها با لعذاب الدنيوي الواقع في الاُمم السابقـة فنقول : يستفاد منـه البراءة في المقام حينئذ بطريق أولى ; إذ لو كان التعذيب الدنيوي مع كونـه يسيراً محدوداً بمكان لايصدر منـه تعا لى إلاّ بعد بعث الرسول وإتمام الحجّـة فا لعذاب الاُخروي الذي لايمكن قياسـه مع العذاب الدنيوي ، لا من حيث الكمّ ، ولا من حيث الكيف
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 333.