(الصفحة 496)
قبل إتمام الحجّـة ، كما هو حال الاُمم السابقـة ، فلا دلالـة لها على حكم مشتبـه الحكم ; من حيث إنّـه مشتبـه ، فهي أجنبيـة عمّا نحن فيـه(1) .
وأنت خبير بعدم تماميـة شيء من هذه الإيرادات .
أمّا الأوّل:
فلأنّ الآيـة إنّما وقعت في ذيل الآيات الواردة في القيامـة ، ولا اختصاص لها ، بل لا ارتباط لها بنفي العذاب الدنيوي با لنسبـة إلى الاُمم السا لفـة . وحينئذ فيكون المراد با لتعذيب المنفي هو العذاب الاُخروي ، كما أنّ المراد ببعث الرسول ليس مجرّد بعثـه ، ولو لم يكن مأموراً با لتبليغ ، كما يدلّ على ذلك ـ مضافاً إلى أنّـه هو المتفاهم منـه ـ ذكر الرسول ، لا النبيّ ، بل المراد بـه أنّ البعث لأجل التبليغ وإتمام الحجّـة إنّما يكون غايـة لعدم التعذيب .
ومن هنا يظهر : أنّـه لو بلغ بعض الأحكام دون بعض ، أو بلّغها إلى أهل بلد خاصّ دون سائر البلدان ، أو بلّغها إلى جميع البلدان في عصره ، ثمّ لم يبلغ إلى الأعصار المتأخّرة ; لأجل الموانع والحوادث يفهم من الآيـة عدم التعذيب با لنسبـة إلى التكليف الذي لم يبلّغـه أصلاً ، أو الشخص الذي لم يصل إليـه ، وحينئذ فالآيـة ظاهرة ، بل صريحـة في نفي العذاب با لنسبـة إلى ما لم يصل إلى المكلّف .
هذا ، ولو سلّم ظهورها في الإخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث ، واختصاصها با لعذاب الدنيوي الواقع في الاُمم السابقـة فنقول : يستفاد منـه البراءة في المقام حينئذ بطريق أولى ; إذ لو كان التعذيب الدنيوي مع كونـه يسيراً محدوداً بمكان لايصدر منـه تعا لى إلاّ بعد بعث الرسول وإتمام الحجّـة فا لعذاب الاُخروي الذي لايمكن قياسـه مع العذاب الدنيوي ، لا من حيث الكمّ ، ولا من حيث الكيف
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 333.
(الصفحة 497)
لايصدر منـه تعا لى إلاّ بعد ذلك بطريق أولى ، كما لايخفى .
وأمّا الثاني:
فلأنّـه ليس المقصود في المقام إثبات نفي الاستحقاق ، بل يكفينا مجرّد ثبوت المؤمّن عن العذاب ، وإن كان أصل الاستحقاق ثابتاً .
وأمّا الثالث:
فيظهر الجواب عنـه ممّا ذكرناه في الجواب عن الإيراد الأوّل .
هذا ، ويبقى في الآيـة أنّـه لو ثبت بدليل وجوب الاحتياط لايكون التعذيب حينئذ تعذيباً قبل بعث الرسول ، حتّى لايناسب مقامـه ـ جلّ شأنـه ـ كما لايخفى .
ومنها:
قولـه تعا لى :
(لا يُكَلِّفُ اللّـهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها)(1) .
ويقع الكلام فيـه في مقامين : أحدهما في إمكان دلالتـه على المقام ، ثانيهما فيما هو ظاهره .
أمّا المقام الأوّل:
فلا إشكال في أنّـه لو كان المراد من التكليف هو التكليف الفعلي ، ومن الموصول هو التكليف الفعلي أيضاً أو أعمّ منـه ومن المال وغيره يلزم المحال ; لأنّـه يصير معناه حينئذ : أنّ التكليف الفعلي لايتحقّق إلاّ بعد إيصال التكليف الفعلي ، فيكون اتصافـه با لفعليـة مشروطاً بإيصا لـه متصفاً بها ، وهذا دور صريح .
وكذا يلزم ذلك لو كان المراد من كليهما هو التكليف الشأني ، وأمّا لو كان المراد بالأوّل هو التكليف الفعلي وبا لموصول هو التكليف الشأني فلايلزم المحال بوجـه ، كما أنّـه لو كان المراد من قولـه :
(لا يُكَلِّفُ اللّـهُ) هو عدم إيقاعـه تعا لى نفساً في الكلفة والمشقّة ، لا التكليف المصطلح فلا مانع من أن يكون المراد با لموصول هو التكليف الفعلي . وحينئذ يصير معنى الآيـة : أنّـه تعا لى لايوقع نفساً
(الصفحة 498)
في المشقّـة إلاّ من قبل التكا ليف الواقعيـة الفعليـة التي بلّغها إلى المكلّف .
وحينئذ فيدلّ على نفي وجوب الاحتياط أيضاً ; لأنّـه لو فرض وجوب الاحتياط يلزم إيقاع المكلّف في الكلفـة من قبل التكا ليف المجهولـة التي لم تصل إلى المكلّف ; ضرورة أنّ إيجاب الاحتياط ليس إلاّ لرعايـة حفظ الواقع ، ولايكون وجوبـه إلاّ طريقياً ، فلايقال بأنّ الآيـة لاتنافي وجوب الاحتياط ; لأنّـه تكليف واصل إلى المكلّفين ، فلا مانع من وقوع المكلّف في المشقّـة من ناحيتـه ، فتدبّر .
ثمّ إنّـه لو اُريد با لموصول في الآيـة أعمّ من التكليف فا لظاهر أنّـه ممّا لايمكن ; لأنّـه لايعقل أن يتعلّق التكليف با لتكليف إلاّ على وجـه تعلّق الفعل با لمفعول المطلق ، كما أنّ تعلّقـه با لمال أو بمطلق الشيء إنّما يكون على وجـه تعلّقـه با لمفعول بـه ، وهذان الوجهان ممّا لايمكن فرض الجامع القريب بينهما ; لأنّ المفعول بـه لابدّ وأن يكون مفروض التحقّق قبل ورود الفعل عليـه ، والمفعول المطلق إنّما هو من شؤون الفعل وأنواعـه ، ولا جامع بين ما يقع عليـه الفعل وبين ما هو مأخوذ من نفس الفعل . وإن شئت قلت في المقام بعدم الجامع بين التكليف والمكلّف بـه .
هذا، واُجيب عن ذلك بوجوه:
منها:
ما أفاده المحقّق النائيني على ما في التقريرات من أنّ إرادة العموم من الموصول لايستلزم أن يكون المراد من الموصول الأعمّ من المفعول بـه والمفعول المطلق ، بل يراد منـه خصوص المفعول بـه .
وتوهّم أنّ المفعول بـه لابدّ وأن يكون لـه نحو وجود وتحقّق في وعائـه قبل ورود الفعل عليـه ممنوع بأنّ المفعول المطلق النوعي والعددي يصحّ جعلـه مفعولاً بـه بنحو من العنايـة ، مثلاً الوجوب وإن كان وجوده بنفس الإيجاب
(الصفحة 499)
وا لإنشاء إلاّ أنّـه باعتبار ما لـه من المعنى الاسم المصدري يصحّ تعلّق التكليف بـه . نعم ، الوجوب با لمعنى المصدري لايصحّ تعلّق التكليف بـه(1) .
هذا ، ولايخفى ما فيـه ، فإنّ المعنى الاسم المصدري هو ما يحصل من المصدر ، ويتحقّق منـه ، فيكون في الرتبـة المتأخّرة عن نفس المصدر ، وحينئذ فكيف يعقل فرض وجود لـه قبيل المصدر ، ثمّ إيقاعـه عليـه ، كما هو واضح .
ومنها:
ما أفاده المحقّق العراقي من أنّ هذا الإيراد إنّما يرد في فرض إرادة الخصوصيات المزبورة من شخص الموصول ، وإلاّ فبناءً على استعمال الموصول في معناه الكلّي العامّ ، وإرادة الخصوصيات من دوالّ اُخر خارجيـة فلايتوجّـه محذور ، لا من طرف الموصول ، ولا في لفظ الإيتاء ، ولا في تعلّق الفعل با لموصول ; لأنّـه لم تستعمل الموصول والإيتاء إلاّ في المعنى الكلّي ، وإفادة الخصوصيات إنّما هي بدوالّ اُخر . وكذلك تعلّق الفعل با لموصول ليس إلاّ نحو تعلّق واحد . ومجرّد تعدّده با لتحليل لايقتضي تعدّده با لنسبـة إلى الجامع(2) ، انتهى ملخّصاً .
وأنت خبير بأنّـه بعد فرض عدم وجود الجامع القريب بين خصوصيات الموصول كيف يمكن أن يقال بأنّها مستعملـة في المعنى العام .
نعم ، الإيتاء مستعمل في معناه ، وهو الإعطاء ، وهو أمر كلّي جامع بين الإعطاء والإقدار والإعلام ، وبعد عدم وجود الجامع لايكون النسبـة أيضاً متعلّقـة بـه ، حتّى يقال بأنّ تعدّدها إنّما هو با لتحليل .
أمّا المقام الثاني:
ـ بحسب مقام الإثبات والاستظهار ـ فدعوى ظهور
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 331 ـ 333.
- 2 ـ نهايـة الأفكار 3: 202.
(الصفحة 500)
ا لآيـة فيـه ممنوعـة ، والذي يدفع الإشكال : أنّ ظاهر الآيـة ـ بقرينـة ما قبلها وما بعدها ـ ينافي الحمل على التكليف ، وكونها بمنزلـة كبرى كلّيـة لايوجب شمولها للتكليف ، بل الظاهر أنّ مفادها هو مفاد قولـه تعا لى :
(لا يُكَلِّفُ اللّـهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها)(1) ، فلامجال للاستدلال بها على المقام ، كما لايخفى .
الدليل الثاني: الأخبار
منها:
حديث الرفع(2) ; حيث عدّ فيـه
«ما لايعلمون» من جملـة التسعـة ا لمرفوعـة . وتحقيق الكلام في مفاد الحديث الشريف يتمّ برسم اُمور :
الأمر الأوّل: في معنى الرفع
فنقول : ذكر المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات ـ أنّ الرفع في الحديث بمعنى الدفع ، ولايلزم من ذلك مجاز ، ولايحتاج إلى عنايـة أصلاً ، قال في توضيحـه ما ملخّصـه : إنّ استعمال الرفع وكذا الدفع لايصحّ إلاّ بعد تحقّق مقتضى الوجود ; بحيث لو لم يرد الرفع وكذا الدفع على الشيء لكان موجوداً في وعائـه المناسب لـه ; لوضوح أنّ كلاّ منهما لايرد على ما يكون معدوماً في حدّ ذاتـه لا وجود لـه ولا اقتضاء الوجود ، ويفترق الرفع عن الدفع بأنّ استعمال الرفع إنّما يكون غا لباً في المورد الذي فرض وجوده في الزمان السابق أو في المرتبـة السابقـة ، والدفع يستعمل غا لباً في المورد الذي فرض ثبوت المقتضي بوجود
- 1 ـ البقرة (2): 286.
- 2 ـ التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.