(الصفحة 505)
فقال(عليه السلام) :
«لا، قال رسول اللّـه(صلى الله عليه وآله وسلم): رفع عن اُمّتي ما اُكرهوا عليـه وما لايطيقون وما أخطأوا»(1) .
وا لحلف با لطلاق والعتاق والصدقـة وإن كان باطلاً عند الإماميـة في حال الاختيار أيضاً إلاّ أنّ استشهاد الإمام(عليه السلام) على عدم لزومها في صورة الإكراه دليل على عدم اختصاص حديث الرفع برفع خصوص المؤاخذة . هذا ، ويمكن أن يقال بأنّ المقصود من الروايـة : أنّـه إذا اُكره الرجل على الحلف بأن يطلّق أو يعتق أو يصدّق فهل يجب عليـه العمل على مقتضى حلفـه أم لا ؟ وحينئذ فلايكون هذا الحلف باطلاً مع الاختيار ، بل يجب عليـه مع وجود شرائطـه أن يطلّق أو يعتق أو يصدّق .
ويؤيّد كون المقصود من الروايـة هو هذا المعنى التعبير بقولـه «يلزمـه» ، فإنّـه لايناسب كون المراد با لحلف با لطلاق ونظائره هو الحلف بكون امرأتـه مطلّقـة مثلاً ، كما لايخفى .
ثمّ لايذهب عليك:
أنّ نسبـة الرفع إلى الاُمور التسعـة المذكورة في الحديث ليس على نسق واحد ; ضرورة أنّ المراد برفع الخطأ والنسيان ليس هو رفع الآثار المترتّبـة على نفس الخطأ والنسيان ; لأنّـه لايعقل ذلك ، كما صرّح بـه الشيخ في «ا لرسا لـة»(2) ، بل المراد با لخطأ والنسيان هو ما أخطأ وما نسي . فالآثار المترتّبـة على الفعل لايترتّب عليـه إذا وقع خطأً أو نسياناً .
وا لسرّ في التعبير عنـه بذلك إنّما هو وضوح أنّ المتفاهم من هذين العنوانين بحسب نظر العرف ليس نفسهما مستقلاّ ، بل من حيث كونهما طريقاً ، وهذا بخلاف
- 1 ـ المحاسن: 339 / 124، وسائل الشيعـة 23: 226، كتاب الأيمان، الباب 12، الحديث12.
- 2 ـ فرائد الاُصول 1: 320 ـ 322.
(الصفحة 506)
عنوان الحسد والطيرة ، فإنّـه لايكون طريقاً إلى شيء آخر ، بل المتبادر منـه إنّما هو نفس عنوانـه . ويدلّ على ذلك : التعبير عن الخطأ في الروايـة المتقدّمـة بكلمـة «ما أخطأوا» . هذا ، ويمكن أن يكون الوجـه في التعبير با لخطأ والنسيان في الحديث هو متابعـة الآيـة الشريفـة ; من حيث إنّـه قد عبّر فيها با لنسيان والخطأ .
وبالجملـة:
لاينبغي الإشكال في أنّ المراد با لخطأ والنسيان في الحديث ليس ظاهرهما ، بل المراد هو ما أخطأوا وما نسوا ، وحينئذ فيصير مطابقاً لمثل «ما لايعلمون» ونظائره .
ثمّ إنّ ظاهر الحديث هو اختصاص رفع هذه الاُمور بهذه الاُمّـة ، مع أنّ المؤاخذة على الخطأ والنسيان وما لايعلمون وأشباهها مرفوعـة عقلاً ، ولا اختصاص لـه بهذه الاُمّـة ، ولكن هذا الإيراد إنّما يرد بناءً على أن يكون المرفوع هو المؤاخذة ، وقد عرفت أنّ المصحّح لإسناد الرفع إلى الاُمور المذكورة في الحديث إنّما هو كونها مرفوعـة بجميع آثارها . وعلى تقدير أن يكون المرفوع هو خصوص المؤاخذة يمكن أن يقال بمنع استقلال العقل بقبح المؤاخذة على هذه الاُمور بقول مطلق ، فإنّـه لايقبح المؤاخذة على الخطأ والنسيان الصادرين من ترك التحفّظ ، كما لايخفى .
ثمّ إنّ مقتضى كون الحديث امتناناً على العباد ليس إلاّ مجرّد رفع الأحكام والآثار عن تلك الاُمور المذكورة فيما إذا وقعت تلك الاُمور اتفاقاً ، فهو بصدد رفع الكلفـة والمشقّـة على ا لعباد ، وحينئذ فلادلالـة لـه على رفع الحكم فيما إذ أوقع المكلّف نفسـه اختياراً في الاضطرار إلى ترك واجب أو فعل محرّم أو شرب دواء ـ مثلاً ـ اختياراً ، فذهبت منـه القدرة على فعل المأمور بـه وأشباه ذلك ، كما هو واضح جدّاً .
(الصفحة 507)
كما أنّ مقتضى الحديث رفع الحكم فيما إذا لم يلزم من رفعـه ضرر على شخص آخر ; لأنّ ذلك ينافي الامتنان على الاُمّـة الظاهر في الامتنان على جميع الاُمّـة ، كما لايخفى . وحينئذ فالاضطرار مثلاً إلى أكل مال الغير لايوجب إلاّ سقوط التحريم المتعلّق بإتلاف مال الغير من دون إذن ، لا سقوط الضمان أيضاً ، بل يشكل سقوط الحكم التكليفي أيضاً في بعض الموارد ، كما إذا اضطرّ بالاضطرار العرفي الغير البا لغ حدّ الاضطرار الشرعي إلى أكل عين متعلّقـة با لغير ; بحيث كانت خصوصيتها أيضاً متعلّقـة لغرضـه ، ولايرضى بإتلافـه مع دفع القيمـة أصلاً ; لكون خصوصيتها مطلوبـة لـه أيضاً ، فإنّـه يشكل الحكم بجواز الإتلاف بمجرّد عروض اضطرار يمكن لـه التحمّل عقلاً ، وإن لم يكن ممّا يتحمّل عادة ، كما لايخفى .
الأمر الثالث: في شمول الحديث للاُمور العدميـة
ذكر المحقّق النائيني(قدس سره) ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ أنّ حديث الرفع إنّما يختصّ برفع الاُمور الوجوديـة ، فلو اُكره المكلّف على الترك أو اضطرّ إليـه أو نسي الفعل ففي شمول الحديث لـه إشكال ; لأنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلـة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلـة الوجود ، فإنّ ذلك إنّما يكون وضعاً لا رفعاً ، فلو نذر أن يشرب من ماء دجلـة ، فاُكره على العدم أو اضطرّ إليـه أو نسي أن يشرب فمقتضى القاعدة وجوب الكفّارة عليـه ، لو لم تكن أدلّـة وجوب الكفّارة مختصّـة بصورة التعمّد ومخا لفـة النذر عن إرادة والتفات(1) .
هذا، وأجاب عن ذلك المحقّق العراقي
ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ بعدم
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 352 ـ 353.
(الصفحة 508)
ا لفرق بين رفع الفعل أو الترك ; إذ كما أنّ معنى رفع الوجود في عا لم التشريع عبارة عن رفع الأثر المترتّب عليـه ، وخلوّه عن الحكم في عا لم التشريع ، كذلك في رفع العدم ، فإنّ مرجع رفعـه إلى رفع الأثر المترتّب على هذا العدم الراجع إلى عدم أخذه موضوعاً للحكم با لفساد ، ووجوب الإعادة مثلاً بملاحظـة دخل نقيضـه ، وهو الوجود في الصحّـة .
وبا لجملـة : فرق واضح بين قلب الوجود بعدم ذاتـه وتنزيلـه منزلتـه ، وبا لعكس ، وبين قلب أخذه موضوعاً للحكم بعدم أخذه في مرحلـة تشريع الحكم ، وخلوّ خطاباتـه عنـه . والإشكال المزبور إنّما يرد على الأوّل دون الثاني(1) ، انتهى .
هذا، وأنت خبير بعدم تماميـة هذا الجواب;
إذ ليس معنى رفع هذه الاُمور هو رفعها عن موضوعيـة الحكم المترتّب عليها مطلقاً ، حتّى في ناحيـة رفع الفعل ، فإنّـه لو كان معنى رفع ما اضطرّوا إليـه مثلاً هو رفع شرب الخمر الذي حصل الاضطرار إليـه عن موضوعيـة الحكم با لحرمـة ، الظاهر في حرمتـه مطلقاً لما كان الكلام محتاجاً إلى ادعاء ومصحّح ، كما أتعبوا بـه أنفسهم ; إذ الرفع حينئذ يصير رفعاً حقيقياً ، لا ادعائياً .
فالإشكال إنّما هو بناءً على ظاهر الحديث من كون المرفوع هي ذوات هذه الأشياء ، وجعلها بمنزلـة العدم ، والجواب لاينطبق عليـه ، كما هو واضح .
والتحقيق في الجواب أن يقال:
أمّا أوّلاً ; فلأنّ العدم المرفوع في الحديث هو العدم المضاف ، وهو يمكن اعتباره بنحو ثبت لـه الثبوت الإضافي ، وثانياً : أنّ تعلّق الرفع بـه يوجب تحقّقاً اعتبارياً لـه ، وبهذا الاعتبار يمكن أن يتعلّق بـه ،
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 219.
(الصفحة 509)
وثا لثاً : إذا فرض ترتّب حكم على الترك في الشريعـة فلابدّ من أن يكون لـه ثبوت اعتباري في عا لم التشريع ، وإلاّ فلايعقل أن يتعلّق بـه الحكم ، ويترتّب عليـه الأثر ، وحينئذ فا لحديث إنّما يرفع هذا الثابت با لثبوت الاعتباري ، والمصحّح لإسناد الرفع إليـه هو خلوّه في عا لم التشريع عن الحكم والأثر رأساً . وبا لجملـة : فلاينبغي الإشكال في شمول الحديث لرفع التروك أيضاً .
الأمر الرابع: في شمول الموصول للشبهات الموضوعيـة والحكميـة
إنّما الكلام في شمول الموصول في قولـه «ما لايعلمون» للشبهات الحكميـة وعدمــه ، فاعلم أنّـه قد يقال ـ كما قيل ـ باختصاصـه با لشبهات الموضوعيـة(1) : إمّا لأنّ المرفوع في الحديث هو خصوص المؤاخذة ، والمؤاخذة على نفس الحكم ممّا لايعقل .
وإمّا لأنّ وحدة السياق تقتضي ذلك ; لأنّ المراد من الموصول في «ما استكرهوا عليـه» وأخواتـه هو الموضوع ; إذ لايعقل الاستكراه ـ مثلاً ـ على الحكم . ومقتضى وحدة السياق أن يكون المراد با لموصول في «ما لايعلمون» أيضاً هو الموضوع الذي اشتبـه عنوانـه ، فلايعمّ الشبهات الحكميـة .
وإمّا لأنّ إسناد الرفع إلى الحكم إسناد إلى ما هو لـه ، وإسناده إلى الفعل إسناد إلى غير ما هو لـه ، ولا جامع بينهما حتّى يمكن أن يراد من الموصول ، وحينئذ فمع قطع النظر عن وحدة السياق ينبغي تخصيص الحديث با لشبهات الحكميـة ; لأنّ إسناد الرفع فيها إسناد حقيقي ، إلاّ أنّ وحدة السياق اقتضت الحمل
- 1 ـ فرائد الاُصول 1: 320 ـ 321، كفايـة الاُصول: 387، دررالفوائد، المحقّق الخراساني: 190.