(الصفحة 89)في الدليل العقلي على المقدّمـة الموصلـة
وأمّا مقام الإثبات : فقد استدلّ صاحب الفصول بوجوه أسدّها وأمتنها هو الوجـه الأخير .
قال في بيانـه:
حيث إنّ المطلوب با لمقدّمـة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصولـه ، فلا جرم يكون التوصّل بها إليـه وحصولـه معتبراً في مطلوبيتها ، فلا تكون مطلوبةً إذا انفكّت عنـه ، وصريح الوجدان قاض بأنّ مَنْ يريد شيئاً لمجرّد حصول شيء آخر لايريده إذا وقع مجرّداً عنـه ، ويلزم منـه أن يكون وقوعـه على وجـه المطلوب منوطاً بحصولـه(1) .
وأجاب عنـه في الكفايـة أوّلاً:
بمنع كون المطلوب با لمقدّمـة التوصّل بها إلى الواجب ، بل مطلوبيتها لأجل عدم التمكّن من التوصّل بدونها ، كيف ولايكون التوصّل من آثارها إلاّ في بعض المقدّمات .
وثانياً:
بأ نّـه لو سلّم كون المطلوب با لمقدّمـة ذلك ولكن لا نسلّم مدخليّـة الغايـة في مطلوبيّـة ذيها ; لأنّ صريح الوجدان يقضي بأنّ ما اُريد لأجل غايـة وتجرّد عنها بسبب عدم حصول بعض ما لَـه دخل في تحقّقها يقع على ما هو عليـه من المطلوبيـة الغيريـة ، كيف وإلاّ يلزم أن يكون وجودها من قيوده ومقدّمـة لوقوعـه على نحو تكون الملازمـة بين وجوبـه بذاك النحو ووجوبها .
وهو كما ترى ، ضرورة أنّ الغايـة لا تكون قيداً لذي الغايـة بحيث كان تخلّفها موجباً لعدم وقوع ذي الغايـة على ما هو عليـه من المطلوبيـة الغيريـة ، وإلاّ يلزم أن تكون مطلوبةً بطلبـه ، كسائر قيوده ، فلايكون وقوعـه على هذه الصفة
- 1 ـ الفصول الغرويّـة: 86 / السطر 22.
(الصفحة 90)
منوطاً بحصولها ، كما أفاده .
ولعلّ منشأ توهّمـه الخلط بين الجهـة التقييديـة والتعليليـة(1) . انتهى ملخّص موضع الحاجـة من كلامـه .
وفي كلٍّ من الجوابين نظر بل منع .
أمّا الأوّل:
فلأنّ من الواضح البديهي أنّ مطلوبيـة المقدّمـة إنّما هو للتوصّل بها إلى ذيها ; لأنّ المفروض أ نّها مطلوبـة بتبع الغير ولأجلـه فتعلّق الطلب بها لاينشأ إلاّ لكونها يتوصّل بها إلى المطلوب الأصلي .
وا لدليل عليـه أ نّـه لاينقطع السؤال عن تعلّق الوجوب بها بـ «لِمَ» إلاّ بعد الجواب بأ نّها مطلوبـة للتوصّل إليـه ، وإلاّ فمجرّد التوقّف مع قطع النظر عن ترتّب ذي المقدّمـة عليها لايكفي في انقطاع السؤال ، كما يظهر بمراجعـة الوجدان السليم .
وما ذكره من أنّ التوصّل ليس من آثارها ، فيدفعـه أ نّك عرفت فيما سبق أنّ المراد بكلمـة الموصل ليس خصوص العلّـة التامّـة ، كما ربّما يوهمـه الجمود على ظاهرها ، بل المراد بـه ترتّب ذي المقدّمـة عليها والإتيان بـه بعدها .
وأمّا الثاني:
فلايخفى أنّ إرادة شيء لأجل غايـة ترجع إلى إرادتـه مقيّداً بها ، كما هو واضح ، ضرورة أنّ العقل لايحكم بحكم إلاّ مع تشخيص موضوعـه بجميع جهاتـه وحيثياتـه التي لها مدخليّـة في الحكم ، وإذا حكم بحكم لموضوع من جهـة خاصّـة وحيثيـة مخصوصـة فيستحيل أن يصرف حكمـه عن تلك الجهـة والحيثيـة ، ويسري إلى ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحيثيـة التي تكون دخيلاً في ترتّب الحكم أو إلى بعض الجهات الاُخر المغايرة لهذه الجهـة ،
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 149 ـ 150.
(الصفحة 91)
فإذا سلّم أنّ مطلوبيـة المقدّمـة إنّما هو للتوصّل بها إلى ذيها ، كما هو المفروض في الجواب الثاني ، فلا محا لـة تكون المطلوبيـة واقعةً على المقدّمة بتلك الحيثية ، وإلاّ فذاتها مطلقاً ولو مع بعض الحيثيات الاُخر لايتعلّق بها طلب أصلاً .
وما اشتهر في الألسن من الفرق بين الجهات التعليليـة والتقييديـة بكون الثانيـة دخيلاً في الموضوع وقيداً لـه دون الاُولى ، ليس بصحيح ، فإنّ جميع الجهات التعليليـة راجعـة إلى الجهات التقييديـة ; لما عرفت من استحا لـة أن يصرف العقل حكمـه الثابت لموضوع عنـه إلى غيره ، وهذا بمكان من الوضوح .
وانقدح من جميع ما ذكرنا أ نّـه لو قلنا با لملازمـة ، فا لواجب متابعـة صاحب الفصول(قدس سره) والأخذ بقولـه الراجع إلى ثبوت الملازمـة بين وجوب ذي المقدّمـة وبين الوجوب المتعلّق بخصوص المقدّمات الموصلـة ، وقد عرفت أ نّـه لايرد عليـه شيء ممّا أوردها القوم عليـه .
وعلى تقدير تسليم الورود ، فلايدفعـه التوجيـه بلحاظ الإيصال ، كما عرفت من الدّرر ، أو با لحصّـة التوأمـة كما عرفت من التقريرات ، إلاّ أنّ الكلام في أصل ثبوت الملازمـة ، وسيجيء ما هو الحقّ في بابها ، فانتظر .
في ثمرة القول بالمقدّمـة الموصلـة
قد يقال ـ كما قيل ـ بأنّ ثمرة القول با لمقدّمـة الموصلـة هو تصحيح العبادة التي يتوقّف على تركها فعل واجب أهمّ ، كا لصلاة التي يتوقّف على تركها فعل الإزا لـة التي هي واجبـة ، وتكون أهمّ من فعل الصلاة بناءً على أن يكون ترك أحد الضدّين مقدّمةً لوجود الآخر ، كما سيأتي تحقيقـه في مبحث الأمر با لشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أم لا ؟ فإنّـه بناءً على هذا القول لايكون الترك مطلقاً واجباً ليكون فعلها محرّماً ، فتكون فاسدةً ، بل الواجب هو الترك الموصل إلى فعل الضدّ
(الصفحة 92)
ا لواجب ، والمحرّم إنّما هو نقيض هذا الترك الخاصّ الذي يقارن مع الفعل تارةً ، ومع الترك المجرّد اُخرى ، ومن المعلوم أ نّـه لايسري الحكم من أحد المتلازمين إلى الآخر فضلاً عن المتقارنين ، وحينئذ فلايكون الفعل محرّماً حتّى يكون فاسداً(1) .
مناقشـة الشيخ الأنصاري في الثمرة
وربّما اُورد على تفريع هذه الثمرة ـ كما في التقريرات المنسوبـة إلى الشيخ الأنصاري(قدس سره) ـ بما حاصلـه أنّ فعل الضدّ وإن لم يكن نقيضاً للترك الواجب مقدّمـة بناءً على المقدّمـة الموصلـة إلاّ أ نّـه لازم لما هو من أفراد النقيض حيث إنّ نقيض ذاك الترك الخاصّ ، وهو أعمّ من الفعل والترك المجرّد ، وهذا يكفي في إثبات الحرمـة ، وإلاّ لم يكن الفعل محرّماً ولو بناء على القول بوجوب مطلق المقدّمـة ; لأنّ الفعل أيضاً ليس نقيضاً للترك ، لأنّـه أمر وجودي ، ونقيض الترك إنّما هو رفعـه ، ورفع الترك الذي هو أمر عدمي لايمكن أن يتّحد مع الفعل الذي هو أمر وجودي ، فكما أنّ مجرّد الملازمـة بين نقيض الترك والفعل يكفي في اتّصافـه با لحرمـة فكذلك تكفي في المقام ، غايـة الأمر أنّ مصداق النقيض للترك إنّما ينحصر في الفعل فقط ، وأمّا نقيض الترك الخاصّ فلـه مصداقان ، وذلك لايوجب تفاوتاً بينهما فيما نحن بصدده ، كما لايخفى(2) .
وأجاب عن الإيراد المحقّقُ الخراساني(قدس سره)
في الكفايـة حيث قال : وأنت خبير بما بينهما من الفرق ، فإنّ الفعل في الأوّل لايكون إلاّ مقارناً لما هو النقيض
- 1 ـ الفصول الغرويّـة: 98 / السطر 6، كفايـة الاُصول: 150 ـ 151.
- 2 ـ مطارح الأنظار: 78 / السطر 26.
(الصفحة 93)
من رفع الترك المجامع معـه تارة ومع الترك المجرّد اُخرى ، ولايكاد تسري حرمـة الشيء إلى ما يلازمـه فضلاً عمّا يقارنـه أحياناً .
نعم لابدّ أن لايكون الملازم محكوماً فعلاً بحكم آخر على خلاف حكمـه ، لا أن يكون محكوماً بحكمـه ، وهذا بخلاف الفعل في الثاني ، فإنّـه بنفسـه يعاند الترك المطلق وينافيـه لا ملازم لمعانده ومنافيـه ، فلو لم يكن عين ما يناقضـه بحسب الاصطلاح مفهوماً لكنّـه متّحد معـه عيناً وخارجاً ، فإذا كان الترك واجباً فلا محا لـة يكون الفعل منهياً عنـه قطعاً ، فتدبّر جيّداً(1) . انتهى .
والتحقيق أن يقال:
إنّـه لو قلنا بأنّ نقيض كلّ شيء رفعـه الذي هو أمر عدمي وقلنا بأنّ وجوب الشيء إنّما يقتضي حرمـة النقيض فقط ، فلا إشكال في أنّ الفعل لايصير محرّماً حتّى بناء على القول بوجوب مطلق المقدّمـة ; لأنّ نقيض الترك المطلق رفعـه الذي هو عبارة عن ترك الترك ، فا لحرمـة إنّما يتعلّق بهذا ، ومن المعلوم عدم اتّحاده مع الفعل أصلاً ; لأنّـه يستحيل أن يتّحد الحيثيـة العدميـة مع الحيثيـة الثبوتيـة الراجعـة إلى حيثيـة طرد العدم ، فيمتنع أن يكون النور عين عدم الظلمـة ، وغير ذلك من الأمثلـة .
ومجرّد الملازمـة بينهما لايوجب سرايـة الحكم من النقيض إلى ما يلازم معـه ، وهو الفعل ، بل غايتـه أن لايكون الفعل محكوماً بحكم يخا لف حكم النقيض ، لا أن يكون محكوماً بحكمـه .
ولو قلنا بأنّ نقيض كلّ شيء رفعـه ، أو كون الشيء مرفوعاً بـه ، فنقيض الأمر الوجودي رفعـه الذي عبارة عن الأمر العدمي ، ونقيض الأمر العدمي الأمرُ الوجودي لارتفاعـه بـه ، وقلنا بأنّ الحرمـة تتعلّق بنفس النقيض ، فلا إشكال في
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 151 ـ 152.