(الصفحة 130)
فيـه ذلك ، بل يشترط فيـه أن لايكون جميعهم أو أكثرهم تاركين للمنهي عنـه ; لعدم الابتلاء ، وأمّا لو كان بعضهم تاركاً لـه ولم يكن في البين ما يميّز كلّ واحد من الطائفتين عن الاُخرى ، فلايضرّ بصحّـة الخطاب بنحو العموم أصلاً ، فما اشتهر بينهم من أ نّـه إذا خرج بعض أطراف العلم الإجما لي عن مورد الابتلاء ، لم يجب الاجتناب من الآخر أيضاً ليس في محلّـه ، كما حقّقناه في موضعـه(1) .
وا لوجـه في عدم الانحلال : أ نّـه لا إشكال في كون الكفّار والعصاة مكلّفين بالأحكام الشرعيـة مع أ نّـه لو قيل بالانحلال إلى خطابات متكثّرة ، يلزم عدم كونهم مكلّفين ; لعدم صحّـة توجيـه الخطاب الخاصّ إليهم بعد عدم انبعاثهم إلى فعل المأمور بـه ، وعدم انزجارهم عن فعل المنهي عنـه أصلاً ، كما لايخفى ، فمن كونهم مكلّفين يستكشف أ نّـه لايشترط في الخطاب بنحو العموم كون كلّ واحد من المخاطبين واجداً لشرائط صحّـة توجيـه الخطاب الخاصّ إليـه .
وا لدليل على عدم كون الخطابات الواردة في الشريعـة مقيّدة با لعلم والقدرة ، مضافاً إلى ما نراه با لوجدان من عدم كونها مقيّدةً بنظائرهما : أ نّها لو كانت مقيّدةً با لقدرة بحيث لم يكن العاجز مشمولاً لها ومكلّفاً با لتكا ليف التي تتضمّنـه تلك الخطابات يلزم فيما لو شكّ في القدرة وعدمها إجراء البراءة ; لأنّ مرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في التكليف ; لأنّ المفروض الشكّ في تحقّق قيده ، وإجراء البراءة في موارد الشكّ في التكليف ممّا لا خلاف فيـه بينهم مع أ نّـه يظهر منهم القول بالاحتياط في مورد الشكّ في القدرة كما يظهر بمراجعـة فتاويهم .
وأيضاً لو كانت الخطابات مقيّدةً با لقدرة ، يلزم جواز إخراج المكلّف نفسـه عن عنوان القادر ، فلايشملـه التكليف ، كما يجوز للحاضر أن يسافر ، فلايشملـه
- 1 ـ أنوار الهدايـة 2: 213 وما بعدها.
(الصفحة 131)
تكليف الحاضر ، وكما يجوز للمكلّف أن يعمل عملاً يمنعـه عن صدق عنوان المستطيع عليـه ، وغيرهما من الموارد ، مع أنّ ظاهرهم عدم الجواز في المقام ، وليس ذلك كلّـه إلاّ لعدم اختصاص الخطاب با لقادرين ، بل يعمّ الجميع غايـة الأمر كون العاجز معذوراً في مخا لفـة التكليف المتعلّق بـه بحكم العقل .
وتوهّم:
أ نّـه كيف يمكن أن تتعلّق إرادة المولى بإتيان جميع الناس مطلوباتـه مع أنّ العقل يحكم بامتناع تعلّق الإرادة من الحكيم بإتيان العاجز .
مدفوع:
بأ نّـه ليس في المقام إلاّ الإرادة التشريعيـة ، ومعناها ليس إرادة المولى إتيان العبد ، كيف ولازمـه استحا لـة الانفكاك با لنسبـة إلى اللّـه جلّ شأنـه ; لما قرّر في محلّـه من عدم إمكان تخلّف مراده تعا لى عن إرادتـه ، بل معنى الإرادة التشريعيـة ليست إلاّ الإرادة المتعلّقـة بجعل القوانين المتضمّنـة للبعث والزجر ، فمتعلّق الإرادة إنّما هو بعث الناس إلى محبوبـه وزجرهم عن مبغوضـه ، لا انبعاثهم وانزجارهم حتّى يستحيل الانفكاك .
وبا لجملـة ، فلايشترط في جعل القوانين العامّـة إلاّ كونها صا لحةً لانبعاث النوع وانزجار لسببـه كما يظهر بمراجعـة العقلاء المقنّين للقوانين العرفيـة ، فتأمّل في المقام ; فإنّـه من مزالّ الأقدام .
الثالثـة:
قد عرفت أنّ كلّ واحد من الأمر بالأهمّ والأمر با لمهمّ إنّما تعلّق با لطبيعـة معراة عن جميع القيود ، وليس فيها لحاظ الأفراد ولا لحاظ الحالات التي يطرأ بعد تعلّق الأمر بها حتّى صار المولى بصدد بيان العلاج ودفع التزاحم بين الأمرين في حا لـة الاجتماع .
الرابعـة:
أ نّـه ليس للعقل التصرّف في أوامر المولى بتقييدها ببعض القيود ، بل لـه أحكام توجب معذوريـة المكلّف با لنسبـة إلى مخا لفـة تكا ليف المولى ، فحكمـه بقبح العقاب في صورة الجهل أو العجز لايرجع إلى تقييد الأحكام بصورة
(الصفحة 132)
ا لعلم والقدرة حتّى لايكون الجاهل أو العاجز مكلّفاً ، بل الظاهر ثبوت التكليف با لنسبـة إلى جميع الناس أعمّ من العا لم والجاهل والقادر والعاجز ، غايـة الأمر كون الجاهل والعاجز معذوراً في المخا لفـة بحكم العقل . نعم قد يكون حكم العقل كاشفاً عن بعض الأحكام الشرعيـة ، فحكمـه حينئذ طريق إليـه ، كما لايخفى .
الخامسـة:
قد عرفت أنّ الخطابات الواردة في الشريعـة إنّما تكون على نحو العموم ، ولايشترط فيها أن يكون كلّ واحد من المخاطبين قادراً على إتيان متعلّقها ، بل يعمّ القادر والعاجز ، ومعذوريّـة العاجز إنّما هو لحكم العقل بقبح عقابـه على تقدير المخا لفـة ، لا لعدم ثبوت التكليف في حقّـه ، وحينئذ فا لعجز إمّا أن يكون متعلّقاً بالإتيان بمتعلّق التكليف الواحد ، وحينئذ فلا إشكال في معذوريـة المكلّف في مخا لفتـه ، وإمّا أن يكون متعلّقاً با لجمع بين الإتيان بمتعلّق التكليفين أو أزيد بأن لايكون عاجزاً عن الإتيان بمتعلّق هذا التكليف بخصوصـه ولايكون عاجزاً عن موافقـة ذلك التكليف بخصوصـه أيضاً ، بل يكون عاجزاً عن الجمع بين موافقـة التكليفين ومتابعـة الأمرين .
إذا عرفت هذه المقدّمات،
فنقول : إذا كان الأمران متعلّقين با لضدّين المساويين من حيث الأهمّيـة ، فا لمكلّف حينئذ إمّا أن يشتغل بفعل واحد منهما أو بأمر آخر ، وعلى الثاني إمّا أن يكون ذلك الأمر محرّماً وإمّا أن لايكون كذلك ، فا لصور ثلاثـة :
أمّا الصورة الاُولى:
فلا إشكال فيها في ثبوت الأمرين معاً ; لما عرفت في المقدّمات السابقـة ، غايـة الأمر كونـه معذوراً في مخا لفـة واحد منهما لحكم العقل بمعذوريـة العاجز .
(الصفحة 133)
وأمّا الصورة الثانيـة:
فا لمكلّف يستحقّ فيها ثلاث عقوبات ، أمّا العقوبـة على ما اشتغل بـه من فعل المحرّم فواضح . وأمّا العقوبـة على مخا لفـة كلٍّ من الأمرين : فلكونـه قد خا لفهما من غير عذر ; لفرض كونـه قادراً على إتيان متعلّق كلّ واحد منهما ، وعجزه إنّما هو عن الجمع بينهما ، والجمع لايكون متعلّقاً للأمر حتّى يعذر في مخا لفتـه ; لتحقّق العجز .
وأمّا الصورة الثالثـة:
فيظهر الحكم فيها ممّا ذكرنا في الصورة الثانيـة .
هذا ، إذا كان الأمران متعلّقين بمساويين من حيث الأهمّيـة ، وأمّا إذا كان أحد الضدّين أهمّ من الآخر ، فا لعقل يحكم بوجوب ترجيحـه على المهمّ في مقام الإطاعـة والامتثال ، وحينئذ فإذا امتثل الأمر بالأهمّ ، فا لعقل يحكم بمعذوريّتـه في مخا لفـة الأمر با لمهمّ بعد كونـه غير مقدور عن إطاعتـه ، وأمّا إذا امتثل الأمر با لمهمّ وصرف قدرتـه إلى طاعتـه دون الأمر بالأهمّ ، فلا إشكال في استحقاق المثوبـة على امتثا لـه ، وعدم كونـه معذوراً في مخا لفـة الأمر بالأهمّ بعدما عرفت من كونـه مشمولاً لكلا الخطابين ، والعقل لايحكم بمعذوريتـه .
ومنـه يظهر أ نّـه لو خا لف الأمرين معاً ، يستحقّ العقوبـة عليهما .
وا لمتحصّل من جميع ما ذكرنا أمران :
أحدهما:
بطلان ما حكي عن البهائي من أ نّـه لو قيل بعدم الاقتضاء فلا أقلّ من عدم تعلّق الأمر با لضدّ ، فإنّك قد عرفت أ نّـه لا منافاة بين الأمرين أصلاً ، بل الظاهر ثبوتهما من دون أن يكون أحدهما مترتّباً على الآخر ، بل يكونان في عرض واحد بلا ترتّب وطوليّـة .
ثانيهما:
استحقاق العقابين على تقدير مخا لفـة كلا الأمرين ، ولا إشكال فيـه ، كما عرفت .
(الصفحة 134)تحقيق في الترتّب
ثمّ إنّـه يظهر من المحقّق النائيني(قدس سره) القول با لترتّب ، وقد أطال الكلام في ذلك بإقامـة مقدّمات كثيرة(1) ، ونحن نقتصر على ما يرد عليها ، فنقول :
أمّا المقدّمـة الاُولى:
الراجعـة إلى إثبات أنّ ما أوقع المكلّف في مضيقـة ، الجمع بين الضدّين وأوجبـه عليـه هل هو نفس الخطابين الفعليين أو إطلاقهما وشمولهما لحا لتي فعل الآخر وعدمـه ، فهي وإن كانت بنفسها صحيحةً إلاّ أ نّـه لايترتّب عليـه النتيجـة ، كما سيأتي ، ويبقى فيها ما أورده على الشيخ من المناقضـة بين ما اختاره في هذا المقام من إنكار الترتّب غايـة الإنكار(2) وبين ما ذكره الشيخ في مبحث التعادل والترجيح من الفرائد حيث قال في الجواب عمّا قيل من أنّ الأصل في المتعارضين عدم حجّيـة أحدهما ما لفظـه : لكن لمّا كان امتثال التكليف با لعمل بكلٍّ منهما ـ كسائر التكا ليف الشرعيّـة والعرفيّـة ـ مشروطاً با لقدرة ، والمفروض أنّ كلاّ منهما مقدور في حال ترك الآخر ، وغير مقدور مع إيجاد الآخر ، فكلٌّ منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركـه ويتعيّن فعلـه ، ومع إيجاد الآخر يجوز تركـه ، ولايعاقب عليـه ، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجـة أدلّـة وجوب الامتثال ، والعمل بكلٍّ منهما بعد تقييد وجوب الامتثال با لقدرة ، وهذا ممّا يحكم بـه بديهـة العقل ، كما في كلّ واجبين اجتمعا على المكلّف ، ولا مانع من تعيين كلٍّ منهما على المكلّف بمقتضى دليلـه إلاّ تعيين
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 336 ـ 352.
- 2 ـ مطارح الأنظار: 57 ـ 59.