(الصفحة 147)
ا لماهيّـة من حيث هي هي ، أو أ نّـه هي الماهيّـة بلحاظ وجودها في الخارج ؟ إذ لايعقل أن يتعلّق الطلب با لفرد ; للزوم تحصيل الحاصل .
وحينئذ فنقول:
إنّ الظاهر هو الأوّل ، وذلك لأنّـه بعد كون المصلحـة الباعثـة على الطلب قائمةً بنفس الماهيّة من دون مدخلية لشيء آخر أصلاً ، كما هو المفروض ، ومن المعلوم أنّ اللّفظ لايحكي إلاّ عن مدلولـه الذي هي نفس الماهيّـة في المقام ، فسرايـة الطلب منها إلى غيرها مستلزم لكون بعض المطلوب ممّا ليس لـه دخل في حصول الغرض أصلاً ، ولكون اللّفظ حاكياً عمّا ليس بموضوع لـه ، واتّحاد الماهيّـة مع وجوداتها في الخارج لايستلزم أن يكون اللّفظ الموضوع بإزائها دالاّ عليها أيضاً ، كيف وباب الألفاظ لا ربط لـه بباب الحقائق ، كما هو واضح .
وتوهّم:
أنّ الماهيّـة من حيث هي هي ليست إلاّ هي لا موجودة ولا معدومـة ولا مطلوبـة ولا غير مطلوبـة ، فكيف يمكن أن يتعلّق الطلب بها من هذه الحيثيـة .
مدفوع:
بأنّ معنى هذا الكلام عدم كون الموجوديـة والمعدوميـة ونظائرهما مأخوذةً في الماهيّـة بحيث كانت تمامَ ذاتها أو جزءَ ذاتها ، وهذا لايستلزم استحا لـة تعلّق الطلب بها من حيث نفسها ، كيف ولا ارتباط بين المقامين أصلاً ، كما هو واضح .
وقد يتوهّم أيضاً:
أنّ الماهيّـة من دون لحاظ وجودها في الخارج ليست منشأً لأثر ; إذ الآثار إنّما يترتّب على الوجود على ما هو مقتضى التحقيق ، فكيف يجوز أن تجعل في حيّز الطلب .
ولكنّـه مدفوع أيضاً:
بأنّ الماهيّـة من هذه الحيثيـة ـ أي مع لحاظ وجودها في الخارج ـ ظرف لسقوط الطلب ، فا لمصحّح لتعلّقـه بها إنّما هو هذه الحيثيـة
(الصفحة 148)
ا لتي لا تكون الماهيّـة بها منشأً للأثر ; إذ لحاظ التحقّق في الخارج إنّما هو لحاظ السقوط وحصول المطلوب ، كما هو واضح .
فالحقّ:
أنّ الطلب إنّما تعلّق بنفس الماهيّـة ، غايـة الأمر أنّ صدق عنوانها يتوقّف على التحقّق الخارجي ، فالأمر بإكرام زيد مثلاً إنّما تعلّق بنفس طبيعـة الإكرام ، غايـة الأمر أنّ صدق عنوان الإكرام وتحقّقـه يتوقّف على وجوده ; إذ ماهيّـة الإكرام لا تكون إكراماً ، كما هو واضح .
ثمّ لايخفى أنّ في التقريرات المنسوبـة إلى المحقّق العراقي(قدس سره) قد عقد بعد هذا الفصل فصلاً آخر لسرايـة الطلب المتعلّق بصرف وجود الطبيعـة إلى حصصها أو الخصوصيات الفرديـة(1) ، وكلامـه فيـه مبني على ما يقولـه الرجل الهمداني ، وقد فصّل مع جوابـه في محلّـه ، فراجع .
- 1 ـ نهايـة الأفكار 1: 384 ـ 389.
(الصفحة 149)الفصل الثامن
في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب
وا لكلام هنا تارة يقع في الإرادة الحتميـة التي ينشأ منها البعث ، واُخرى في البعث والوجوب ، وعلى التقديرين تارة يقع الكلام في إمكان بقاء الجواز بعد النسخ ، واُخرى في بيان مقتضى الجمع بين الدليلين ، وأ نّـه هل يقتضي الدليل ثبوتـه بعد الفراغ عن إمكان البقاء ثبوتاً ، فا لبحث يتمّ في ضمن اُمور :
الأمر الأوّل: في إمكان بقاء الجواز
فنقول : أمّا الكلام في الإرادة الحتميـة فقد يقال بإمكان بقاء أصلها بعد نسخها بتلك المرتبـة القويّـة ، نظراً إلى أنّ الإرادة وإن كانت من البسائط إلاّ أنّ صدقها على أفرادها إنّما هو على سبيل التشكيك ، كما يظهر بمراجعـة الوجدان ، فإنّ الإنسان قد يريد شيئاً بحيث لايمكن ردعـه عنها ، وقد يريد شيئاً ولكنّـه يمكن أن ينصرف عنها لتحقّق بعض الموانع ، وحينئذ فإذا نسخت بتلك المرتبـة القويّـة ،
(الصفحة 150)
فلا مانع من بقائها ولو في ضمن المرتبـة الضعيفـة(1) .
هذا ، ولكن لايخفى أنّ معنى البساطـة هو عدم كون تلك الحقيقـة البسيطـة مركّبةً من شيء مشترك بين أفرادها بحيث كانت التفاوت الموجود بينها خارجاً عن الحقيقـة ، بل كانت تفاوت أفراد الطبيعـة من حيث القوّة والضعف ونظائرهما بحيث يكون ما بـه الاختلاف عين ما بـه الاشتراك ، وحينئذ فكيف يعقل ارتفاع بعض الأفراد وبقاء شيء منـه ؟ ! وهل يتوهّم أحد أ نّـه لو ارتفع الوجوب من الواجب الوجود يبقى أصل الوجود حتّى يمكن أن يصير ماديّاً ؟
وبا لجملـة ، فمن الواضح عدم إمكان البقاء في مثل البسائط .
هذا في الإرادة ، وأمّا الوجوب فكذلك أيضاً ، فإنّـه مع بساطتـه ـ كما اعترف بـه القائل ـ كيف يمكن بقاء شيء منـه ، كما هو واضح .
فا لتحقيق أ نّـه لايمكن البقاء ثبوتاً حتّى يبحث في مقام الإثبات .
الأمر الثاني: في مقتضى الأدلّـة إثباتاً بعد فرض إمكانـه
ثمّ إنّـه لو سلّمنا إمكان البقاء بحسب مقام الثبوت فهل يقتضي الدليل بقاء الجواز قد يقال : نعم ; لأنّ ذلك مقتضى الجمع بين دليلي الناسخ والمنسوخ ، نظير ما إذا ورد دليل على وجوب شيء ودليل آخر على عدم وجوبـه ، فإنّـه لا إشكال في أنّ مقتضى الجمع بينهما هو حمل الأوّل على الاستحباب ، فليكن المقام كذلك أيضاً ; لأنّـه لا فرق بينهما أصلاً .
هذا ، ولكن لايخفى أنّ قياس المقام بذلك المثال قياس مع الفارق ; لأنّ
- 1 ـ لاحظ نهايـة الدرايـة 2: 262 ـ 266، نهايـة الأفكار 1: 389 ـ 390.
(الصفحة 151)
ا لحمل على الاستحباب هناك لقيام الدليل على عدم كون البعث ناشئاً من الإرادة الحتميـة حتّى ينتزع منـه الوجوب بناءً على ما ذكرنا في معنى هيئـة «افعل» وأمّا بناء على ما ذكروه فقيام الدليل الآخر على عدم الوجوب قرينـة على إرادة معنى مجازي من الصيغـة الظاهرة في الوجوب عند التجرّد عن القرينـة .
وأمّا هنا فمن المعلوم أنّ دليل المنسوخ ظاهر في الوجوب ، وليس لـه ظهورات متعدّدة حسب تعدّد مراتب الوجوب ، بل ليس لـه إلاّ ظهور واحد في خصوص الوجوب ، غايـة الأمر أ نّـه يكشف عن ثبوت الجواز والرجحان أيضاً ، وحينئذ فمع قيام الدليل على ارتفاعـه الراجع إلى ارتفاع الكاشف لايبقى وجـه لثبوتهما بعد انعدام ما يكشف عنهما ; إذ قد عرفت أ نّـه ليس هنا ظهورات ثلاثـة حتّى يكون مقتضى دليل الناسخ ارتفاع أحدها بحيث لاينافي ثبوت الباقي ، فا لحقّ أ نّـه لو قلنا بإمكان بقاء الجواز ثبوتاً ، فلايكون هنا دليل على بقائـه .
الأمر الثالث: في استصحاب الجواز عند الشكّ في بقائـه
قد يتمسّك في ذلك بالاستصحاب .
ولكن يرد عليـه ـ مضافاً إلى أنّ جريانـه موقوف على جريان الاستصحاب في ا لقسم الثا لث من أقسام استصحاب الكلّي مع أ نّـه محلّ إشكال ـ أ نّـه لو قلنا با لجريان في هذا القسم فهو إنّما فيما إذا لم يختلّ بعض ممّا يعتبر في جريان الاستصحاب ، وأمّا إذا اختلّ كما في ا لمقام لأنّ الجواز المستصحب لايكون موضوعاً لمجعول شرعي حتّى يترتّب عليـه بالاستصحاب الحكم الذي جعل موضوعاً لـه ، ولايكون بنفسـه مجعولاً حتّى يثبت بالاستصحاب في الزمان اللاّحق فلا .