(الصفحة 152)
أمّا عدم كونـه موضوعاً لمجعول شرعي : فواضح .
وأمّا عدم كونـه مجعولاً : فلأنّ الجعل إنّما تعلّق با لوجوب لا بـه .
وتوهّم تعلّق الجعل بـه تبعاً ، مدفوع : بأ نّـه لايكون الجواز جزء للوجوب حتّى يتعلّق الجعل بـه با لتبع ; لما عرفت من كونـه بسيطاً .
(الصفحة 153)الفصل التاسع
في الواجب التعييني والتخييري
ربّما يقسّم الواجب إلى تعييني وتخييري باعتبار أ نّـه لو كان متعلّق الوجوب شيئاً واحداً ، فهو واجب تعييني ، ولو كان شيئين أو أزيد ، فهو واجب تخييري .
وقد يقال بامتناع الثاني ; نظراً إلى أ نّـه لايعقل تعلّق الإرادة بأحد الشيئين أو الأشياء على نحو الترديد بأن يكون التعلّق بحسب الواقع ونفس الأمر مردّداً ، وذلك لأنّ تشخّص الإرادة إنّما هو با لمراد ، ومن المعلوم أنّ التشخّص الذي هو مساوق للوجود مناف للإبهام والتردّد ; إذ لايعقل عروض الوجود للشيء المردّد بين الأمرين أو اُمور بأن يكون المردّد من حيث هو مردّد موجوداً في الواقع ، نعم لابأس بأن يكون الواقع المعيّن مردّداً عندنا ومجهولاً لنا ، ولكنّـه لايعقل التردّد مع قطع النظر عن علمنا وجهلنا .
وبا لجملـة فالإرادة من الصفات الحقيقيـة للنفس كا لعلم ونظائره ، ولها أيضاً إضافـة إلى المراد كإضافـة العلم إلى المعلوم ، فكما أنّ تشخّص العلم إنّما هو
(الصفحة 154)
با لمعلوم ، ولايعقل تعلّق العلم با لمردّد الواقعي كذلك تشخّص الإرادة وتعيّنها إنّما هو با لمراد ، فلايعقل تعلّقها با لمردّد بحسب نفس الأمر أو بأزيد من شيء واحد ، وهذا في إرادة الفاعل واضح ، ومعلوم أ نّـه لا فرق بينها وبين إرادة الأمر ، فلايمكن تعلّقها أيضاً با لمردّد الواقعي والمبهم النفسي الأمري ، فظهر أ نّـه لايعقل الواجب التخييري ، وحينئذ فيجب صرف ما ظاهره ذلك ممّا ورد في الشرعيات والعرفيات عن ظاهرها ، ويقال بأحد الأقوال التي كلّها مبنيّـة على امتناع الواجب التخييري .
هذا غايـة ما يمكن أن يقال في امتناع الواجب التخييري،
ولكنّـه لايخفى ما فيـه ; فإنّ قياس الإرادة التشريعيـة بالإرادة الفاعليـة قياس مع الفارق ، فإنّ معنى الإرادة التشريعيـة ليس راجعاً إلى إرادة الآمر إتيان المأمور با لمأمور بـه ، كيف ويستحيل تخلّفـه با لنسبـة إلى الواجب تعا لى ، بل معناها ليس إلاّ إرادة التشريع والبعث والتحريك ، وحينئذ فنقول : إنّ تعلّق الإرادة بأحد الشيئين أو الأشياء مردّداً ومبهماً وإن كان مستحيلاً ، بداهـة إلاّ أ نّـه لايلزم في الواجب التخييري هذا المحذور أصلاً ، فإنّ الآمر بعدما يتصوّر الشيئين مثلاً ويرى أنّ كل واحد منهما مؤثّر في حصول غرضـه الواحد أو كان هناك غرضان يترتّب أحدهما على أحد الشيئين والآخر على الآخر ولكن مع حصول أحد الغرضين لايمكن تحصيل الآخر أو لايكون تحصيلـه لازماً ، فبعدما رأى ذلك يريد أن يبعث العبد نحوهما فيبعث ، ولكن يفهم العبد ذلك ، أي كون أحدهما غير واجب مع حصول الآخر بأن يخلّل بين البعثين كلمـة أو نحوها .
وبالجملـة:
فليس هناك شيء متعلّق با لمردّد الواقعي لا تصوّر المولى ولا إرادتـه البعث ولا نفس البعث .
أمّا الأوّل : فمن الواضح أنّ البعث إلى الشيئين لايعقل بدون تصوّرهما ،
(الصفحة 155)
وحيث إنّ المتصوّر متعدّد فلا محا لـة يكون التصوّر كذلك ; لما عرفت من أنّ تشخّصـه إنّما هو بتشخّصـه ، فهناك تصوّران .
وأمّا إرادتـه البعث : فواضح تعدّدها بعدما يريد البعث إلى هذا والبعث إلى ذاك .
ومن هنا يظهر وجـه تعدّد البعثين .
فتوهّم:
أنّ القول با لواجب التخييري مستلزم لكون متعلّق البعث الواحد مردّداً بين الشيئين أو الأشياء مع وضوح استحا لتـه ; لأنّـه وإن كان من الاُمور الاعتباريـة إلاّ أنّ تعلّقها با لمردّد مستحيل كتعلّق الاُمور الحقيقيـة بـه ، وهل يعقل اعتبار ملكيـة المردّد بين الثوب والدار ونظائره ؟
مدفوع:
بأنّ ذلك كلّـه مبني على أن يكون البعث واحداً والمبعوث إليـه متعدّداً ، مع أ نّك عرفت تعدّد البعث حسب تعدّد المبعوث إليـه في الواجب التخييري .
فالتحقيق:
أنّ الواجب التخييري ليس نحواً آخر من الوجوب وسنخاً آخر من البعث ، بل لا فرق بينـه وبين التعييني من حيث الوجوب والبعث أصلاً ، غايـة الأمر أ نّـه يعتبر التعيينيّـة والتخييريـة بعد ملاحظـة وحدة الواجب وتعدّده ، فا لحقّ إمكان الواجب التخييري ، ومعـه لا مجال لرفع اليد عمّا ظاهره ذلك من الأدلّـة الشرعيـة والأوامر العرفيـة كما أ نّـه لا تصل النوبـة إلى الأقوال الكثيرة التي عرفت أنّ كلّها مبنيّـة على امتناع الواجب التخييري .
ثمّ إنّ ما ذكره في الكفايـة:
من أ نّـه لو كان هناك غرض واحد مترتّب على الشيئين أو الأشياء ، فلا محا لـة يكون الواجب هو الجامع والقدر المشترك بينهما أو بينها ; لأنّـه لايمكن صدور الغرض الواحد من المتعدّد بما هو متعدّد ، فحيث إنّ
(الصفحة 156)
ا لغرض يترتّب على الجامع ، فلا محا لـة يكون الجامع واجباً(1) ، ففيـه ـ مضافاً إلى منع ما ذكره من عدم إمكان صدور الشيء الواحد من المتعدّد فإنّ ذلك إنّما هو في موارد مخصوصـة ، كما حقّق في محلّـه(2)ـ أ نّـه لو سلّم ترتّب الغرض على ا لجامع ، فلا ارتباط لذلك با لمقام ; إذ ليس الكلام في أنّ المترتّب عليـه الغرض هل هو شيء واحد أو متعدّد ، وليس التقسيم أيضاً ناظراً إلى الغرض ، بل التقسيم إنّما هو للوجوب باعتبار الواجب ، فا لحكم بكون الواجب في الغرض واجباً تعيينيّاً لكون الغرض واحداً ، والمؤثّر في حصولـه أيضاً كذلك ممنوع جدّاً بعدما كان الواجب بحسب الظاهر شيئين أو أشياء ، وكون التقسيم بملاحظتـه ، ولا منافاة بين كون الغرض مترتّباً على الجامع والأمر متعلّقاً بما هو في ضمنـه كما لايخفى .
ثمّ لايذهب عليك أنّ البعث إلى أحد الأشياء ونظائره من العناوين الكليّـة الانتزاعيـة إنّما هو من قبيل الواجب التعييني ; لأنّ متعلّق الوجوب شيء واحد وإن كان كلّياً انتزاعيّاً ، فتأمّل جيّداً .
تذنيب: التخيير بين الأقلّ والأكثر
هل يمكن التخيير عقلاً بين الأقلّ والأكثر أم لا ؟
وليعلم أنّ مورد النزاع ما إذا اُخذ الأقلّ لابشرط من حيث الزيادة ، وأمّا إذا اُخذ بشرط لا ، فهو مباين للأكثر ، والتخيير بينـه وبين الأكثر حينئذ يكون من التخيير بين المتبائنين ، ولا إشكال في جوازه .
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 174.
- 2 ـ الحكمـة المتعاليـة 2: 210 ـ 212.