(الصفحة 17)
أمّا
الأوّل:
فلأنّـه من الواضح عدم كون كثير من المقدّمات بل جميعها مبعوثاً إليها بمجرّد البعث إلى ذي المقدّمـة .
وأمّا
الثاني:
فلأنّـه لامعنى ـ بناءً عليـه ـ للقول با لملازمـة ; إذ لايعقل تحقّق الملازمـة الفعليّـة بين المتلازمين اللّذين أحدهما موجود با لفعل والآخر موجود با لتقدير بمعنى أ نّـه لم يوجد بعدُ وسيوجد في الاستقبال ; إذ الملازمـة من قبيل الاُبوّة والبنوّة ، فكما أ نّـه لايعقل تحقّق الاُبوّة للشخص الذي يصير ذا ولد في الاستقبال للتضايف الحاصل بينها وبين البنوّة ، ومن شأن المتضايفين عدم إمكان الانفكاك بينهما في الوجود الخارجي بل الوجود الذهني ، كذلك تحقّق الملازمـة الفعليـة وثبوتها بين الشيئين متوقّف على تحقّقهما في الخارج وثبوتهما با لفعل ، وهذا واضح جدّاً .
وأمّا
الثالث:
فلأنّـه كثيراً ما يكون جميع المقدّمات أو بعضها مغفولاً عنها ، وحينئذ فلايمكن تعلّق الإرادة با لبعث إليها ; إذْ لايعقل أن يكون المراد مغفولاً عنـه .
وقد عرفت بما مهّدناه لك:
أنّ الإرادة المتعلّقـة با لمقدّمات إنّما تتحقّق بفعّا ليـة النفس ، وليست مترشّحةً وموجدةً بالإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة ، فراجع ، وحينئذ فلايعقل أن يكون الشيء متّصفاً بأ نّـه مراد مع كونـه مغفولاً عنـه با لنسبـة إلى المريد ، كيف ومن مقدّمات الإرادة تصوّر الشيء والتصديق بفائدتـه والاشتياق إليـه ، ولايمكن اجتماع هذه مع الغفلـة أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .
وأمّا
الرابع:
فلما ذكر في الاحتمال الثاني من أ نّـه يستحيل تحقّق الملازمـة بين الموجود با لفعل والموجود با لتقدير .
فانقدح بما ذكرنا:
أنّ جعل النزاع في الملازمـة با لوجوه المذكورة ممّا لاوجـه لـه ; إذ لايمكن أن يكون ذلك محلّ النزاع ، كما عرفت .
(الصفحة 18)
والتحقيق أن يقال:
إنّ محلّ الكلام ومورد النقض والإبرام هي الملازمـة بين الإرادة الفعليـة المتعلّقـة بذي المقدّمـة وبين الإرادة الفعليـة المتعلّقـة بما يراه المريد مقدّمـة .
توضيح ذلك : أ نّـه لاشبهـة في أنّ الإرادة قد تتعلّق بما لايترتّب عليـه فائدة بل ربّما يرجع بسببـه ضرر إلى الفاعل المريد ، وليس ذلك إلاّ لكون المريد معتقداً بترتّب فائدة عليـه ، كما أ نّـه قد يأبى عن الإتيان بفعل بتخيّل أن المترتّب عليـه ضرر راجع إليـه مع كونـه في الواقع ذا نفع عائد إليـه .
وبا لجملـة فالإنسان ربّما يشتاق إلى فعل ; لتخيّلـه أ نّـه ذو نفع فيريده ، وربّما ينزجر عن فعل آخر ; لتوهّمـه أ نّـه بلا نفع ، فينصرف عنـه ، مع أنّ الأمر في الواقع با لعكس ، فليس تحقّق الإرادة متوقّفاً على النفع الواقعي ، وعدمها على عدمـه .
هذا في الإرادة المتعلّقـة بنفس الفعل ، وأمّا الإرادة المتعلّقـة با لمقدّمات فهي أيضاً كذلك بمعنى أ نّـه قد يتخيّل المريد بأنّ مراده متوقّف على شيء فيريده مع أ نّـه لم يكن من شرائط وجوده في الواقع ، كما أ نّـه ربّما لايريد المقدّمات الواقعيـة ; لتوهّمـه أ نّها لاتكون مقدّمات .
هذا في إرادة الفاعل ، وأمّا الآمر : فإذا أمر بشيء لـه مقدّمات ، فا لنزاع واقع في تحقّق الملازمـة بين الإرادة المتعلّقـة بذي المقدّمـة وبين الإرادة المتعلّقـة بما يراه مقدّمـة لا المقدّمات الواقعيـة .
نعم لو أخطأ في تشخيص المقدّمات ، فيجب على العبد تحصيل المقدّمات الواقعيـة مع علمـه بخطأ المولى لا من باب تعلّق إرادة المولى با لمقدّمات الواقعيـة ، كيف وهي غير متوجهـة إليها ، فلايمكن أن تصير مرادةً ، بل من باب وجوب تحصيل غرض المولى مع الاطّلاع عليـه وإن لم يتعلّق بـه أمر أصلاً .
(الصفحة 19)
هذا ، وحيث إنّ العمدة في مورد البحث هي المقدّمات الشرعيـة ، ومن المعلوم أنّ ما يراه الشارع مقدّمـة ليس متخلّفاً عن الواقع ، فيصحّ النزاع في الملازمـة بين الإرادة المتعلّقـة بذي المقدّمـة وبين الإرادة المتعلّقـة با لمقدّمات الواقعيـة .
هذا غايـة ما يمكن أن يقال في تحرير محلّ النزاع .
الأمر الثاني
هل مسألـة مقدّمـة الواجب من المسائل الاُصوليّـة؟
ثمّ إنّـه يقع الكلام بعد ذلك في أنّ المسأ لـة اُصوليـة أو من المبادئ الأحكاميـة أو فقهيّـة .
ولايخفى أ نّـه إن قلنا بأنّ المسائل الاُصوليـة هي ما يبحث فيها عن عوارض الحجّـة في الفقـه بناءً على أنّ الموضوع لعلم الاُصول هي الحجّـة في الفقـه(1) ، فلايكون النزاع في باب المقدّمـة الراجع إلى النزاع في ثبوت الملازمـة وعدمها نزاعاً في المسأ لـة الاُصوليـة ; إذ لايبحث فيها عمّا يعرض الحجّـة في الفقـه ، وهذا واضح .
وإن قلنا بأنّ مسائل علم الاُصول عبارة عن القواعد التي يمكن أن تقع كبرى لقياس الاستنباط أو التي ينتهي إليها في مقام العمل بعد عدم الدليل ـ كما هو المختار المحقَّق في موضعـه(2) ـ فمن الواضح أنّ المقام من المسائل الاُصوليـة ، كما لايخفى .
- 1 ـ نهايـة الاُصول: 15.
- 2 ـ مناهج الوصول 1: 51 ـ 54.
(الصفحة 20)هل المسألـة عقليـة أو لفظيـة؟
ثمّ إنّـه بعـد الفراغ عن كونها مسأ لـة اُصوليـة يقع الكلام في أ نّها اُصوليـة عقليـة أو لفظيـة ؟
وا لتحقيق أن يقال بابتناء ذلك على كون الدلالـة الالتزاميـة من الدلالات اللفظيـة ، نظير المطابقـة والتضمّن ، وعدمـه ، كما هو الحقّ ، فإن قلنا بالأوّل ، تكون مسأ لةً اُصولية لفظية ، ولعلّـه الوجـه في ذكر المسأ لة في مباحث الألفاظ .
وإن قلنا با لثاني ، تكون عقليةً ويمكن أن يقال بكون المقام مسأ لة اُصولية عقليـة وإن قلنا بكون الدلالـة الالتزاميـة من الدلالات اللفظيـة .
توضيحـه : أنّ عدّ الدلالـة الالتزاميـة من الدلالات اللفظيـة إنّما هو فيما إذا كان الملزوم هو المدلول المطابقي للّفظ ، فهو يدلّ أوّلاً عليـه ، وبتوسيطـه يدلّ على المعنى اللازم لمدلولـه المطابقي ، وهنا ليس كذلك ; لأنّ النزاع في ثبوت الملازمـة بين الإرادة المتعلّقـة با لبعث إلى ذي المقدّمـة وبين الإرادة المتعلّقـة با لبعث إلى المقدّمـة ، فا لتلازم على فرض ثبوتـه إنّما هو بين الإرادتين ، ومن المعلوم أ نّـه لاتكون إحداهما مدلولاً مطابقيّاً للّفظ حتى يدلّ اللّفظ بتوسيطـه على الآخر ، بل مفاد اللّفظ هو البعث المتعلّق بذي المقدّمـة ، وهو وإن كان كاشفاً عن ثبوت الإرادة القبليـة إلاّ أنّ ذلك ليس من باب الدلالـة اللفظيـة عليـه ، بل من باب أنّ الفعل الاختياري كاشف عن ثبوت الإرادة المتعلّقـة بـه قبلـه .
وبالجملـة:
فلم يكن أحد المتلازمين مدلولاً مطابقياً للّفظ أصلاً ، بل كلاهما خارجان عن معناه الموضوع لـه ، وحينئذ فليس إلى ادّعاء الدلالـة اللفظيـة في المقام سبيل أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .
(الصفحة 21)
الأمر الثالث
في تقسيمات المقدّمـة
ثمّ إنّـه ربّما تقسّم المقدّمـة بتقسيمات لابدّ من ذكرها وبيان أنّ أيّ قسم منها داخل في محلّ البحث ومورد النزاع .
تقسيم المقدّمـة إلى الخارجيّـة والداخليّـة
فنقول : من التقسيمات تقسيمها إلى الخارجيـة والداخليـة ، والمراد بالأوّل هي الاُمور الخارجـة عن حقيقـة المأمور بـه التي لايكاد يمكن تحقّقـه بدون واحد منها ، وبا لثاني هي الاُمور التي يتركّب منها المأمور بـه ، ولها مدخليـة في حقيقتـه .
لا إشكال في كون المقدّمات الخارجيـة داخلـة في مورد البحث ، وإنّما الكلام في المقدّمات الداخليـة ، وأ نّها هل تكون داخلةً في محلّ النزاع أم لا ؟
قد يقال باختصاص البحث بخصوص المقدّمات الخارجيـة ; لأنّ الأجزاء لاتكون سابقةً على الكلّ ومقدّمةً عليـه ; لأنّ الكلّ ليس إلاّ نفس الأجزاء بالأسر(1) .
وقد ذكر بعض الأعاظم في دفع الإشكال أنّ المقدّمـة عبارة عن نفس الأجزاء بالأسر ، والمركّب عبارة عن تلك الأجزاء بشرط الانضمام والاجتماع ، فتحصل المغايرة بينهما(2) .
- 1 ـ اُنظر هداية المسترشدين: 216 / السطر 6.
- 2 ـ كفايـة الاُصول: 115.