(الصفحة 18)
والتحقيق أن يقال:
إنّ محلّ الكلام ومورد النقض والإبرام هي الملازمـة بين الإرادة الفعليـة المتعلّقـة بذي المقدّمـة وبين الإرادة الفعليـة المتعلّقـة بما يراه المريد مقدّمـة .
توضيح ذلك : أ نّـه لاشبهـة في أنّ الإرادة قد تتعلّق بما لايترتّب عليـه فائدة بل ربّما يرجع بسببـه ضرر إلى الفاعل المريد ، وليس ذلك إلاّ لكون المريد معتقداً بترتّب فائدة عليـه ، كما أ نّـه قد يأبى عن الإتيان بفعل بتخيّل أن المترتّب عليـه ضرر راجع إليـه مع كونـه في الواقع ذا نفع عائد إليـه .
وبا لجملـة فالإنسان ربّما يشتاق إلى فعل ; لتخيّلـه أ نّـه ذو نفع فيريده ، وربّما ينزجر عن فعل آخر ; لتوهّمـه أ نّـه بلا نفع ، فينصرف عنـه ، مع أنّ الأمر في الواقع با لعكس ، فليس تحقّق الإرادة متوقّفاً على النفع الواقعي ، وعدمها على عدمـه .
هذا في الإرادة المتعلّقـة بنفس الفعل ، وأمّا الإرادة المتعلّقـة با لمقدّمات فهي أيضاً كذلك بمعنى أ نّـه قد يتخيّل المريد بأنّ مراده متوقّف على شيء فيريده مع أ نّـه لم يكن من شرائط وجوده في الواقع ، كما أ نّـه ربّما لايريد المقدّمات الواقعيـة ; لتوهّمـه أ نّها لاتكون مقدّمات .
هذا في إرادة الفاعل ، وأمّا الآمر : فإذا أمر بشيء لـه مقدّمات ، فا لنزاع واقع في تحقّق الملازمـة بين الإرادة المتعلّقـة بذي المقدّمـة وبين الإرادة المتعلّقـة بما يراه مقدّمـة لا المقدّمات الواقعيـة .
نعم لو أخطأ في تشخيص المقدّمات ، فيجب على العبد تحصيل المقدّمات الواقعيـة مع علمـه بخطأ المولى لا من باب تعلّق إرادة المولى با لمقدّمات الواقعيـة ، كيف وهي غير متوجهـة إليها ، فلايمكن أن تصير مرادةً ، بل من باب وجوب تحصيل غرض المولى مع الاطّلاع عليـه وإن لم يتعلّق بـه أمر أصلاً .
(الصفحة 19)
هذا ، وحيث إنّ العمدة في مورد البحث هي المقدّمات الشرعيـة ، ومن المعلوم أنّ ما يراه الشارع مقدّمـة ليس متخلّفاً عن الواقع ، فيصحّ النزاع في الملازمـة بين الإرادة المتعلّقـة بذي المقدّمـة وبين الإرادة المتعلّقـة با لمقدّمات الواقعيـة .
هذا غايـة ما يمكن أن يقال في تحرير محلّ النزاع .
الأمر الثاني
هل مسألـة مقدّمـة الواجب من المسائل الاُصوليّـة؟
ثمّ إنّـه يقع الكلام بعد ذلك في أنّ المسأ لـة اُصوليـة أو من المبادئ الأحكاميـة أو فقهيّـة .
ولايخفى أ نّـه إن قلنا بأنّ المسائل الاُصوليـة هي ما يبحث فيها عن عوارض الحجّـة في الفقـه بناءً على أنّ الموضوع لعلم الاُصول هي الحجّـة في الفقـه(1) ، فلايكون النزاع في باب المقدّمـة الراجع إلى النزاع في ثبوت الملازمـة وعدمها نزاعاً في المسأ لـة الاُصوليـة ; إذ لايبحث فيها عمّا يعرض الحجّـة في الفقـه ، وهذا واضح .
وإن قلنا بأنّ مسائل علم الاُصول عبارة عن القواعد التي يمكن أن تقع كبرى لقياس الاستنباط أو التي ينتهي إليها في مقام العمل بعد عدم الدليل ـ كما هو المختار المحقَّق في موضعـه(2) ـ فمن الواضح أنّ المقام من المسائل الاُصوليـة ، كما لايخفى .
- 1 ـ نهايـة الاُصول: 15.
- 2 ـ مناهج الوصول 1: 51 ـ 54.
(الصفحة 20)هل المسألـة عقليـة أو لفظيـة؟
ثمّ إنّـه بعـد الفراغ عن كونها مسأ لـة اُصوليـة يقع الكلام في أ نّها اُصوليـة عقليـة أو لفظيـة ؟
وا لتحقيق أن يقال بابتناء ذلك على كون الدلالـة الالتزاميـة من الدلالات اللفظيـة ، نظير المطابقـة والتضمّن ، وعدمـه ، كما هو الحقّ ، فإن قلنا بالأوّل ، تكون مسأ لةً اُصولية لفظية ، ولعلّـه الوجـه في ذكر المسأ لة في مباحث الألفاظ .
وإن قلنا با لثاني ، تكون عقليةً ويمكن أن يقال بكون المقام مسأ لة اُصولية عقليـة وإن قلنا بكون الدلالـة الالتزاميـة من الدلالات اللفظيـة .
توضيحـه : أنّ عدّ الدلالـة الالتزاميـة من الدلالات اللفظيـة إنّما هو فيما إذا كان الملزوم هو المدلول المطابقي للّفظ ، فهو يدلّ أوّلاً عليـه ، وبتوسيطـه يدلّ على المعنى اللازم لمدلولـه المطابقي ، وهنا ليس كذلك ; لأنّ النزاع في ثبوت الملازمـة بين الإرادة المتعلّقـة با لبعث إلى ذي المقدّمـة وبين الإرادة المتعلّقـة با لبعث إلى المقدّمـة ، فا لتلازم على فرض ثبوتـه إنّما هو بين الإرادتين ، ومن المعلوم أ نّـه لاتكون إحداهما مدلولاً مطابقيّاً للّفظ حتى يدلّ اللّفظ بتوسيطـه على الآخر ، بل مفاد اللّفظ هو البعث المتعلّق بذي المقدّمـة ، وهو وإن كان كاشفاً عن ثبوت الإرادة القبليـة إلاّ أنّ ذلك ليس من باب الدلالـة اللفظيـة عليـه ، بل من باب أنّ الفعل الاختياري كاشف عن ثبوت الإرادة المتعلّقـة بـه قبلـه .
وبالجملـة:
فلم يكن أحد المتلازمين مدلولاً مطابقياً للّفظ أصلاً ، بل كلاهما خارجان عن معناه الموضوع لـه ، وحينئذ فليس إلى ادّعاء الدلالـة اللفظيـة في المقام سبيل أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .
(الصفحة 21)
الأمر الثالث
في تقسيمات المقدّمـة
ثمّ إنّـه ربّما تقسّم المقدّمـة بتقسيمات لابدّ من ذكرها وبيان أنّ أيّ قسم منها داخل في محلّ البحث ومورد النزاع .
تقسيم المقدّمـة إلى الخارجيّـة والداخليّـة
فنقول : من التقسيمات تقسيمها إلى الخارجيـة والداخليـة ، والمراد بالأوّل هي الاُمور الخارجـة عن حقيقـة المأمور بـه التي لايكاد يمكن تحقّقـه بدون واحد منها ، وبا لثاني هي الاُمور التي يتركّب منها المأمور بـه ، ولها مدخليـة في حقيقتـه .
لا إشكال في كون المقدّمات الخارجيـة داخلـة في مورد البحث ، وإنّما الكلام في المقدّمات الداخليـة ، وأ نّها هل تكون داخلةً في محلّ النزاع أم لا ؟
قد يقال باختصاص البحث بخصوص المقدّمات الخارجيـة ; لأنّ الأجزاء لاتكون سابقةً على الكلّ ومقدّمةً عليـه ; لأنّ الكلّ ليس إلاّ نفس الأجزاء بالأسر(1) .
وقد ذكر بعض الأعاظم في دفع الإشكال أنّ المقدّمـة عبارة عن نفس الأجزاء بالأسر ، والمركّب عبارة عن تلك الأجزاء بشرط الانضمام والاجتماع ، فتحصل المغايرة بينهما(2) .
- 1 ـ اُنظر هداية المسترشدين: 216 / السطر 6.
- 2 ـ كفايـة الاُصول: 115.
(الصفحة 22)
هذا ، ولايخفى أنّ هذا الكلام لايدفع بـه الإشكال ; لأنّ مجرّد المغايرة الاعتباريـة بينهما الراجعـة إلى أنّ في الواقع لايكون إلاّ أمر واحد وشيء فارد لايصحّح عنوان المقدّميـة المتوقّف على أن يكون هنا شيء متقدّم في الوجود على ذيها وسابق عليها ; إذ لايعقل أن يتقدّم شيء واحد على نفسـه ، وهذا واضح .
وتحقيق المقام أن يقال:
إنّ المركّبات على قسمين :
الأوّل:
المركّبات الحقيقيـة .
الثاني:
المركّبات غير الحقيقيـة .
وا لمراد بالأوّل هي المركّبات من الجنس والفصل والمادّة والصورة .
ولايخفى أنّ هذا القسم خارج عن محلّ البحث بالاتّفاق ; لأنّ الجنس والفصل من الأجزاء التحليليـة العقليـة ولا وجود لها في الخارج ، والصورة والمادّة وإن كانتا موجودتين في الخارج إلاّ أ نّـه لا امتياز بينهما وبين المركّب منهما ليتوقّف عليهما ، وهذا واضح .
وا لمراد با لقسم الثاني هو المركّب من الأشياء المتخا لفـة الحقائق والاُمور المتبائنـة ، وهو على قسمين :
الأوّل:
المركّبات الصناعيـة ، وهي المركّب من الاُمور المتعدّدة بحيث يكون لذلك المركّب عنوان واحد من دون توقّف على أن تكون وحدتها معتبرةً باعتبار معتبر ، وهذا كا لمسجد والدار والبيت والسرير وأمثا لها .
والثاني:
المركّبات الاعتباريـة ، وهي المركّب من الاُمور المتعدّدة الملحوظـة بنظر الوحدة لأجل مدخليتها بتمامها في حصول غرض واحد ، وترتّب مصلحـة واحدة عليها ، وهذا كأكثر المركّبات .
وهذان القسمان قد وقعا محلّ الخلاف في أ نّـه هل يكونان داخلين في مورد النزاع أم لا .