(الصفحة 23)
إذا عرفت ما ذكرنا، فنقول:
إذا أراد الفاعل بناء مسجد مثلاً ، فلا إشكال في أ نّـه يتصوّره وما يترتّب عليـه من الفوائد ثمّ يشتاق إليـه ثمّ يُريده ، وربّما لايتوجّـه إلى أجزاء المسجد في مقام تعلّق الإرادة ببنائـه أصلاً ، بل تكون كلّها مغفولاً عنها .
ثمّ إذا شرع في العمل ورأى أنّ تحقّق المسجد يتوقّف على اُمور متعدّدة ، فلا محا لـة يريد كلّ واحد منها ; لتوقّف حصول الغرض الأقصى عليـه .
غايـة الأمر أنّ الإرادة المتعلّقـة بها ليست لأجل نفسها ، بل لحصول غيرها ، لا أن تكون تلك الإرادة مترشّحةً عن الإرادة المتعلّقة ببناء المسجد ومسبّبةً عنها ، كما عرفت في صدر المبحث ، وقد حقّق في محلّـه أنّ تعيّن الإرادة وتشخّصها إنّما هو با لمراد بمعنى أ نّـه لايمكن تحقّقها بدون المراد ، كما يشهد بـه الوجدان ، ويدلّ عليـه البرهان(1) . وكذلك لايمكن تعلّق إرادة واحدة بمرادات متعدّدة ، بل كلّ مراد يحتاج إلى إرادة مستقلّـة ، وحينئذ فالإرادة المتعلّقـة ببناء المسجد ليست هي الإرادة المتعلّقـة با لمقدّمات ، وإلاّ لزم تعدّد المراد مع إرادة واحدة .
وبالجملـة:
فا لمسجد عنوان واحد قد تتعلّق بـه الإرادة لما يترتّب عليـه من الفوائد ، وفي هذه الإرادة لامدخليـة للأجزاء أصلاً بمعنى أ نّـه لو سُئل المريد عن الاشتياق با لمقدّمات لأجاب بنفيـه ، وعدم كونها مرادةً أصلاً ، ثمّ بعد علمـه بتوقّفـه عليها يريدها بالإرادة الغيريـة ; إذ من المعلوم أنّ كلّ واحد من المقدّمات يغاير المراد الأوّلي ، فكما أنّ كلّ واحد من المقدّمات الخارجيـة يصير مرادةً بالإرادة الغيريـة فكذلك المقدّمات الداخليـة بلا فرق بينهما أصلاً .
- 1 ـ الحكمـة المتعاليـة 6: 323.
(الصفحة 24)
وما يظهر من بعض الكلمات من أنّ المقدّمـة هي الأجزاء بالأسر(1) إن اُريد با لمجموعيـة عموم الأجزاء با لعموم الاستغراقي الراجع إلى أنّ المقدّمـة هي كلّ واحد من الأجزاء مستقلاّ ، فنحن لانمنعـه ، ولكن هذا لايوجب الفرق بينها وبين المقدّمات الخارجيـة أصلاً ، كما هو واضح .
وإن اُريد بها عموم الأجزاء با لعموم المجموعي الراجع إلى أنّ المجموع مقدّمـة ، فيرد عليـه : أنّ الوجدان شاهد على خلافـه ; لعدم تحقّق ملاك المقدّميـة ـ وهو التوقّف ـ إلاّ في كلّ واحد من الأجزاء .
هذا ، مضافاً إلى أنّ الأجزاء بالأسر هو المركّب لا المقدّمات .
ثمّ بما ذكرنا ظهر أمران :
الأوّل:
تحقّق ملاك المقدّميـة في الأجزاء .
الثاني:
كونها داخلةً في محلّ النزاع ; لعدم لزوم اجتماع المثلين بعد فرض أنّ متعلّق الإرادة النفسيـة هي عنوان المسجد مثلاً ، ومتعلّق الإرادة الغيريـة هي كلّ واحد من الأجزاء .
ثمّ إنّا جعلنا المثال في إرادة الفاعل وفي القسم الأوّل من المركّبات ، وعليك مقايسـة إرادة الآمر بإرادة الفاعل والقسم الثاني بالأوّل .
دفعُ وَهم: في أنحاء الوحدة الاعتباريّـة
ثمّ إنّـه ذكر المحقّق العراقي ـ على ما في التقريرات المنسوبـة إليـه ـ أنّ الوحدة الاعتباريـة يمكن أن تكون في الرتبـة السابقـة على الأمر بأن يعتبر عدّة اُمور متبائنـة شيئاً واحداً بلحاظ مدخليتها في حصول غرض واحد ، ويمكن أن
(الصفحة 25)
تكون في الرتبـة المتأخّرة بحيث تنتزع من نفس الأمر بلحاظ تعلّقـه بعدّة اُمور ، فيكون تعلّقـه بها منشأً لانتزاع الوحدة لها الملازمـة لاتّصافها بعنواني الكلّ والأجزاء .
ثمّ ذكر بعد ذلك أنّ الوحدة با لمعنى الثاني لايعقل أن تكون سبباً لترشّح الوجوب من الكلّ إلى الأجزاء بملاك المقدّميـة ; لأنّ الجزئيـة والكلّيـة الملزومـة لهذه الوحدة ناشئـة من الأمر على الفرض ، فتكون المقدّميّـة في رتبـة متأخّرة عن تعلّق الأمر با لكلّ ، ومعـه لايعقل ترشّحـه على الأجزاء ; لأنّ الأمر الغيري إنّما يتعلّق بما يكون مقدّمةً مع الغضّ عن تحقّق الأمر ، ولايمكن تعلّقـه بما لايكون مقدّمةً في رتبة سابقة على الأمر ، فا لنزاع في تعلّق الوجوب الغيري ينحصر با لقسم الأوّل(1) . انتهى .
ولايخفى أنّ في كلامـه(قدس سره) خلطاً من وجهين :
الأوّل:
أنّ جعل أشياء متعدّدة متعلّقةً لأمر واحد لايمكن إلاّ بعد كون المصلحـة قائمةً بهيئتـه الاجتماعية ، وإلاّ فمع كون كلّ واحد منها ذا مصلحة مستقلّة موجبـة لتعلّق إرادة مستقلّـة بها لايمكن اجتماعها في متعلّق أمر واحد .
وبا لجملـة فتعلّق الأمر بالأشياء المتعدّدة متوقّف على تصوّرها با لنحو الذي يترتّب المصلحـة عليها ، وذلك النحو ليس إلاّ اجتماع كلّ مع الآخر ، فالاجتماع ملحوظ لامحا لـة قبل تعلّق الأمر ; إذ المصلحـة المنظورة إنّما يترتّب عليها مع هذا الوصف ، ولا نعني با لوحدة إلاّ لحاظ الأشياء المتغائرة مجتمعةً كلّ واحد منها مع الآخر لامفهوم الوحدة كما لايخفى ، فلا فرق بين القسمين في أنّ الوحدة في كليهما ملحوظـة قبل تعلّق الأمر أصلاً .
- 1 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 315 ـ 316.
(الصفحة 26)
الثاني:
أ نّـه لو سلّمنا أنّ انتزاع الوحدة الملازمـة لاتّصاف الأشياء بعنواني الكلّ والأجزاء إنّما هو بعد تعلّق الأمر بها ، ولكن نقول : إنّ النزاع في باب المقدّمـة إنّما هو فيما يتوقّف عليـه المأمور بـه واقعاً ، ولايكاد يمكن تحقّقـه بدونـه ، لا في عنوان المقدّميـة ; ضرورة أ نّها لم تكن متوقّفاً عليها أصلاً ، وحينئذ فمجرّد أنّ عنوان المقدّميـة يتوقّف اتّصاف الأجزاء بـه على تعلّق الأمر لايوجب خروج الأجزاء عن توقّف المأمور بـه عليها واقعاً .
مضافاً إلى أنّ عنوان المقدّميـة إنّما هو من العناوين الإضافيـة التي من شأنها أن يتحقّقا معاً من دون توقّف بينهما أصلاً ، نظير العلّيّـة والمعلوليـة ، فإنّ العلّـة منشأ لصدور المعلول بذاتها ومتقدّمـة عليـه بحقيقتها لابوصف العلّيّـة ، فإنّها من الاُمور الإضافيـة ، وعروضها للعلّـة إنّما هو في مرتبـة عروض وصف المعلوليـة للمعلول من دون تقدّم وتأخّر أصلاً . وهذا واضح جدّاً .
التفصيل بين العلّـة التامّـة وغيرها
ثمّ إنّـه قد يفصّل في المقدّمات الخارجيـة بين العلّـة التامّـة وغيرها بخروج الأوّل من مورد النزاع ، وذلك ; لأنّ إرادة الأمر لابدّ أن تتعلّق بما يمكن أن تتعلّق بـه إرادة الفاعل ، وهي لايمكن أن تتعلّق با لمعلول ; لأنّـه يكون خارجاً عن قدرة الفاعل ، فمتعلّق القدرة هي العلّـة ، فالأمر لابدّ أن يتعلّق بها دون المعلول .
وفيـه : أ نّـه على فرض صحّتـه لايكون تفصيلاً في محلّ النزاع ; لأنّ مرجعـه إلى أنّ الأمر المتعلّق با لمسبّب يجب أن ينصرف إلى علّتـه ، والنزاع إنّما هو على تقدير تعلّق الأمر با لمسبّب ، كما هو واضح .
هذا ، مضافاً إلى بطلانـه من رأس ; فإنّ المسبّب وإن لم يكن من فعل الفاعل من دون وسط ، إلاّ أ نّـه يصحّ انتسابـه إليـه ; لتعلّق القدرة بـه ولو بواسطـة ، فيصحّ
(الصفحة 27)
تعلّق الأمر بالإحراق ; لصحّـة استناده إلى المكلّف وإن كان متحقّقاً بمقتضى طبيعـة النّار ، إلاّ أ نّـه مقدور للمكلّف ; لقدرتـه على الإلقاء فيـه .
وهذا واضح جدّاً ، وإلاّ لم يكن كثير من الأفعال مقدوراً للمكلّف ; لتوقّفها غا لباً على بعض المقدّمات . والإشكال لاينحصر با لعلّـة التامّـة ; إذ كلّ فعل فهو غير مقدور للمكلّف إلاّ مع مقدّمتـه ، كما لايخفى .
ومن تقسيمات المقدّمـة:
تقسيمها إلى الشرعيّـة والعقليّـة والعاديّـة .
ومن تقسيمات المقدّمـة:
تقسيمها إلى مقدّمـة الصحـة ومقدّمـة العلم ومقدّمـة الوجود ومقدّمـة الوجوب .
وا لكلام فيها ما ذكره المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفايـة(1) ، فلا نطيل با لتعرّض لما ذكره(قدس سره) .
تقسيم المقدّمـة إلى المتقدّمـة والمقارنـة والمتأخرّة
ومن تقسيمات المقدّمـة : تقسيمها إلى المقدّمـة المتقدّمـة والمقارنـة والمتأخّرة بحسب الوجود با لنسبـة إلى ذي المقدّمـة .
وقد اُشكل في الأوّل والأخير بأ نّـه لاريب في أنّ المقدّمـة من أجزاء العلّـة التامّـة ، ولابدّ من تقدّمها بجميع أجزائها على المعلول ، فلايعقل تقدّم المقدّمـة وتأخّره(2) ، ومع ذلك فقد ورد في الشرع ما بظاهره مخا لف لهذه القضيّـة العقليّـة ا لدالّـة على امتناع تأخّر العلّـة عن معلولها ، وكذلك تقدّمها زماناً ، وذلك كالإجازة في عقد الفضولي بناءً على الكشف الحقيقي ، والأغسال الليليـة المعتبرة في
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 116 ـ 117.
- 2 ـ بدائع الأفكار، المحقّق الرشتي: 301 / السطر 27 ـ 28.