(الصفحة 197)
واحد بكونـه ذا صلاح وفساد معاً لأجل انطباق عنوانين عليـه : أحدهما ذا مصلحـة ، والآخر ذا مفسدة .
وبا لجملـة ، فاتّصاف الشيء بكونـه ذا مصلحـة إنّما هو لكونـه مصداقاً للعنوان الذي يكون كذلك ، وكذا اتّصافـه بكونـه ذا مفسدة ، فإذا جاز أن يكون شيء واحد مصداقاً لعنوانين متغايرين ـ كما هو المفروض ـ فلِمَ لايجوز أن يتّصف با لصلاح والفساد معاً لأجل كونـه مصداقاً لهما ؟ فهل يشكّ العقل في صلاح حفظ ولد المولى مثلاً من الهلكـة في دار الغير ؟ من حيث إنّـه حفظ لـه وفي فساده من حيث التصرّف في مال الغير ، ولايجوز المدح من الحيثيّـة الاُولى ، والذمّ من الحيثيّـة الثانيـة .
ومن هنا تظهر المناقشـة فيما ذكرناه سابقاً:
من عدم ترتّب صحّـة الصلاة في الدار المغصوبـة على القول بجواز الاجتماع ; لاستحا لـة أن يكون المبعّد مقرّباً .
بيانها : أنّ معنى البعد والقرب ليس هو البُعْد والقرب المكاني حتّى يستحيل أن يكون المقرّب مبعّداً أو با لعكس ، بل معناهما هو القرب والبُعْد بحسب المكانـة والمنزلـة ، ومن المعلوم أنّ تحصيل المنزلـة والقرب بساحـة المولى بسبب الإطاعـة إنّما هو لكون الفعل الخارجي مصداقاً للعنوان الذي يكون متعلّقاً لأمر المولى ، كما أنّ حصول البُعْد عن ساحتـه إنّما هو للإتيان با لفعل الذي يكون مصداقاً للعنوان المزجور عنـه ، وحينئذ فأيّ مانع يلزم من أن يكون فعل واحد مقرّباً للعبد من حيث مصداقيّتـه للمأمور بـه ، ومبعّداً لـه أيضاً من حيث تحقّق العنوان المزجور عنـه بـه ، وحينئذ فلايتمّ ما اشتهر في ألسن المتأخّرين من أنّ المبعّد لايمكن أن يكون مقرّباً .
(الصفحة 198)حول التضادّ بين الأحكام الخمسـة
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ مقتضى التحقيق هو القول با لجواز ولو سلّم ثبوت التضادّ بين الأحكام ، كما هو الشائع ، مضافاً إلى أ نّـه لا نسلّم ذلك أصلاً .
توضيحـه : أنّ الضدّين عبارة عن الماهيّتين النوعيتين المشتركتين في جنس قريب مع ثبوت الاختلاف والبُعْد بينهما ، كما في تعريف المتقدّمين من الحكماء ، أو غايـة البعد والاختلاف ، كما في تعريف المتأخّرين منهم ، وحينئذ فنقول : إن كان الحكم عبارة عن الإرادة المظهرة ، فلاينطبق عليـه تعريف الضدّين أصلاً ; لأنّـه حينئذ ماهيـة واحدة ، وهي حقيقـة الإرادة المتحقّقـة في جميع الأحكام ، ضرورة أ نّها بأجمعها أفعال للمولى مسبوقـة بالإرادة بلا فرق بين الحكم التحريمي والوجوبي من هذه الجهـة وإن كان متعلّق الإرادة في الأوّل هو الزجر ، وفي الثاني هو البعث ، إلاّ أنّ ذلك لايوجب الاختلاف بينهما ; لأنّ قضيّـة تشخّص الإرادة با لمراد هو كون اختلاف المرادات موجباً لتحقّق أشخاص من الإرادة ، ولايوجب ذلك تعدّد حقيقـة الإرادة وماهيّتها ، كما هو واضح .
فاعتبار كون الضدّين مهيّتين يخرج الإرادة وأمثا لها من الحقائق با لنسبـة إلى أفرادها عن التعريف كما لايخفى .
وإن كان الحكم عبارة عن نفس البعث والزجر المتحقّقين بقول : إفعل ولا تفعل ، مثلاً ، فهو أيضاً خارج عن التعريف ; لأنّـه ـ مضافاً إلى أنّ البعث في الوجوب والاستحباب على نهج واحد ، غايـة الأمر ثبوت الاختلاف بينهما في إرادتـه حيث إنّ الوجوب عبارة عن البعث الناشئ من الإرادة القويـة ، والاستحباب عبارة عن البعث الناشئ عن الإرادة الضعيفـة ، وكذا الزجر في الحرمـة والكراهـة ، فإنّـه فيهما على نحو واحد والاختلاف إنّما هو في إرادتـه ،
(الصفحة 199)
وحينئذ فكيف يمكن القول با لتضادّ بين الوجوب والاستحباب ، وكذا بين الحرمـة والكراهـة ؟ ! مع أنّ القائل يدّعي تضادّ الأحكام بأسرها ـ نقول : إنّـه لو سلّم الاختلاف في جميع الأحكام وقطعنا النظر عن عدم اختلاف حقيقـة الوجوب والاستحباب وكذا الحرمـة والكراهـة ، فلا نسلّم التضاد بينها ; لأنّ ثبوتـه مبنيّ على أن يكون متعلّق البعث والزجر هو الوجود الخارجي ; إذ لو كان متعلّقهما هي الطبائع والماهيّات الكلّيـة ، كما عرفت بما لا مزيد عليـه أ نّـه هو مقتضى التحقيق ، فهما لايكونان بمتضادّين أيضاً ; لأنّ الماهيّـة قابلـة لاجتماع العناوين المتضادّة فيها ، ولاتّصافها بكل واحد منها في زمان واحد .
ألا ترى أنّ ماهيـة الإنسان موجودة ومعدومـة في زمان واحد ، كما عرفت ، وكذا ماهيّـة الجسم متّصفـة با لسواد والبياض معاً في زمان واحد .
فظهر أ نّـه لو كان متعلّق البعث والزجر هي طبيعـة واحدة ، فاستحا لتـه ليس من جهـة لزوم اجتماع المتضادّين على شيء واحد ، بل من جهـة أمر آخر ، وهو لزوم التكليف با لمحال من جهـة عدم القدرة على الامتثال ، وإلاّ يلزم عدم إمكان تعلّق البعث والزجر بطبيعـة واحدة ولو من ناحيـة شخصين ، كما أ نّـه لايعقل تحقّق البياض والسواد واجتماعهما على موجود خارجي مطلقاً ولو كان لـه علّتان ، ومن الواضح في المقام خلافـه .
وبا لجملـة ، فعلّـة ثبوت التضادّ بين شيئين إنّما هو عدم اجتماعهما على الموجود الخارجي الواحد ، وإلاّ يلزم عدم تحقّق التضادّ أصلاً ; لما عرفت من أنّ الماهيّـة قابلـة للاتّصاف بجميع العناوين المتضادّة في زمان واحد ، وقد عرفت أنّ متعلّق البعث والزجر ليس هو الوجود الخارجي بمعنى أ نّـه لايعقل أن يصير الموجود في الخارج مبعوثاً إليـه ومزجوراً عنـه أصلاً .
وإن كان الحكم عبارةً عن الأمر الاعتباري المنتزع عن البعث والزجر ،
(الصفحة 200)
فعدم ثبوت التضادّ بينها أظهر من أن يخفى .
ومن جميع ما ذكرنا ظهر بطلان المقدّمـة الاُولى التي مهّدها في الكفايـة(1)لإثبات التضادّ بين الأحكام الخمسـة بأسرها ، وظهر أيضاً أنّ إثبات القول الامتناع من طريق التضادّ بين الأحكام لايتمّ أصلاً ، مضافاً إلى ما عرفت من أ نّـه لو سلّم التضادّ بين الأحكام ، فاختلاف المتعلّقين وتعدّدهما يخرج المقام عن مسأ لـة التضادّ فتأمّل جيّداً .
تنبيهات
التنبيـه الأوّل: بعض أدلّـة المجوّزين
قد استدلّ المجوّزون بأ نّـه لو لم يجز ، لما وقع نظيره ، وقد وقع ، كما في الصلاة في الحمّام ، التي اجتمع فيها الوجوب والكراهـة ، وصوم يوم عاشوراء الذي اجتمع فيـه الاستحباب والكراهـة ، والصلاة في المسجد ، التي اجتمع فيها الوجوب والاستحباب ، ونظائرها ممّا لايحصى .
بيان الملازمـة:
أنّ المانع ليس إلاّ التضادّ بين الوجوب والحرمـة ، وعدم كفايـة تعدّد الجهـة في رفع غائلتـه ، ومن المعلوم أنّ هذا المانع موجود في اجتماع الوجوب مع الكراهـة أو الاستحباب ، واجتماع الاستحباب مع الكراهـة أو الاستحباب ; لأنّ الأحكام الخمسـة متضادّة بأجمعها ، ومن الواضح بطلان التا لي ; للوقوع في تلك الموارد وأشباهها ، فيكشف عن بطلان المقدّم ، وهو امتناع اجتماع الوجوب والحرمـة .
- 1 ـ كفاية الاُصول : 193 .
(الصفحة 201)
وا لتحقيق في ا لجواب أن يقال : إنّ ا لعبادات ا لمكروهـة على ثلاثـة أقسام :
أحدهما:
ما تعلّق ا لنهي بعنوان ا لعبادة ، ولايكون لها بدل ، كصوم يوم ا لعاشور ، وا لنوافل ا لمبتدأة في بعض ا لأوقات .
ثانيها:
ما تعلّق ا لنهي بعنوانها أيضاً ، ولكن يكون لها بدل ، كا لصلاة في ا لحمّام .
ثالثها:
ما تعلّق ا لنهي بعنوان آخر يكون بينـه وبينها نسبـة ا لعموم من وجـه ، كا لصلاة في مواضع ا لتهمـة ، بناء على أن تكون كراهتها من جهـة كراهـة ا لكون فيها ا لمتّحد مع ا لصلاة .
إذا عرفت هذا ، فنقول :
أمّا القسم الثالث:
فلا إشكال فيـه بناءً على ا لقول با لجواز ، كما عرفت أ نّـه مقتضى ا لتحقيق .
وأمّا القسم الثاني:
فكذلك أيضاً لو قلنا بدخول ا لعامّين مطلقاً في محل ا لنزاع أيضاً ، كما نفينا ا لبُعْد عنـه سابقاً في مقدّمات ا لمبحث ، وأمّا لو قلنا بخروجـه عنـه ، فسيأتي ا لجواب عنـه .
إنّما المهم هو القسم الأوّل:
ا لذي لابدّ أن يجيب عنـه كلٌّ من ا لمجوّز وا لممتنع ; لعدم تعدّد ا لجهـة ا لمجدي بناءً على ا لقول با لجواز ; لأنّ ا لنهي إنّما تعلّق بعنوان ا لعبادة ا لتي تكون متعلّقةً للأمر ا لاستحبابي .
وقد أجاب عنـه في ا لكفايـة بما حاصلـه : أنّ ا لكراهـة إنّما هو لانطباق عنوان راجح على ا لترك ا لذي يكون أرجح من ا لفعل ، فيكون ا لفعل وا لترك من قبيل ا لمستحبّين ا لمتزاحمين ، أو لملازمـة ا لترك على عنوان كذلك(1) ، ولكن
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 198 ـ 199.