(الصفحة 369)
بسم اللّـه الرحمن الرحيم، وبـه نستعين
الحمد للّـه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير
خلقـه محمّد أشرف النبيّين، وعلى آلـه الطيّبين،
ولعنـة اللّـه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
مقدّمـة
وبعد ، فلايخفى أنّ مباحث القطع لايكون خارجاً عن مسائل علم الاُصول كما قيل(1) ; لعدم الفرق بينـه وبين الأمارات المعتبرة شرعاً ، التي يكون البحث عنها داخلاً في علم الاُصول قطعاً .
وماذكره الشيخ(قدس سره)
في «الرسالـة»:
من أنّ إطلاق الحجّـة على القطع ليس كإطلاق الحجّـة على الأمارات المعتبرة شرعاً ; لأنّ الحجّـة عبارة عن الوسط الذي بـه يحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر ، ويصير واسطـة للقطع بثبوتـه لـه ، كا لتغيّر لإثبات حدوث العا لم ، وهذا المعنى متحقّق في الظنّ ، فيقال : «هذا مظنون الخمريـة ، وكلّ مظنون الخمريـة يجب الاجتناب عنـه» ، بخلاف القطع ; لأنّا إذا قطعنا بخمريـة شيء يقال : «هذا خمر ، وكلّ خمر حرام» ، ولايقال : «هذا معلوم
(الصفحة 370)
ا لخمريـة ، وكلّ معلوم الخمريـة يجب الاجتناب عنـه» ; لأنّ أحكام الخمر إنّما تثبت للخمر ، لا لما علم أنّـه خمر(1) .
فيرد عليـه:
المنع في مورد الظنّ أيضاً ، فإنّ وجوب الاجتناب مثلاً إنّما هو حكم لنفس الخمر ، لا للخمر المظنون ، كما هو واضح . فإن كان المراد با لحجّـة ما ذكره فإطلاقها على الأمارات أيضاً ممنوع ، وإن كان المراد بها هي ما يحتجّ بـه المولى على العبد ، ويصحّ لـه الاحتجاج بـه عليـه فهو متحقّق في كليهما ، كما لايخفى . ومجرّد كون حجّيـة القطع غير مجعولـة ـ بخلاف الظنّ ـ لايوجب خروجها عن مسائل علم الاُصول .
إذا عرفت ذلك فاعلم:
أنّـه ذكر الشيخ(قدس سره) في «ا لرسا لـة» : أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي فيحصل لـه إمّا الشكّ فيـه أوا لقطع أوا لظنّ(2) ، وظاهره ـ باعتبار أخذ الشكّ والظنّ في التقسيم ـ أنّ المراد با لحكم الشرعي هو الحكم الشرعي الواقعي .
ولذا عدل عن هذا التقسيم في «ا لكفايـة» ; نظراً إلى عدم اختصاص أحكام القطع بما إذا كان متعلّقاً بالأحكام الواقعيـة ، وعمّم متعلّق القطع(3) .
ولكنّـه يرد عليـه : أنّ جعل حكم العقل باتباع الظنّ ـ لو حصل ، وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومـة ـ في مقابل القطع ممّا لا وجـه لـه ; لأنّ المراد با لقطع الحاصل إن كان هو القطع التفصيلي فا للازم أن يكون البحث عن القطع الإجما لي في باب أحكام القطع استطرادياً ، وإن كان المراد الأعمّ منـه ومن الإجما لي فلا وجـه لجعل الظنّ المذكور مقابلاً لـه ; لأنّ حكم العقل باتباع الظنّ
- 1 ـ فرائد الاُصول 1: 4.
- 2 ـ نفس المصدر 1: 2.
- 3 ـ كفايـة الاُصول: 296.
(الصفحة 371)
ليس لاعتباره بنفسـه ، بل منشأه العلم الإجما لي بثبوت التكا ليف ، فوجوب العمل على طبقـه إنّما هو لوجود الحجّـة القطعيـة الإجما ليـة ، وعدم إمكان تحصيل الموافقـة القطعيـة ، أو عدم وجوبـه ، كما لايخفى .
نعم ، يرد على ما ذكره الشيخ من التقسيم التثليثي إشكال التداخل ، فإنّ الظنّ إن قام دليل على اعتباره فهو ملحق با لعلم ، وإلاّ فملحق با لشكّ .
ولكنّـه اعتذر عنـه بعض المحقّقين ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ بأنّ عقد البحث في الظنّ إنّما هو لأجل تميّز الظنّ المعتبر الملحق با لعلم عن الظنّ الغير المعتبر الملحق با لشكّ ، فلابدّ أوّلاً من تثليث الأقسام ، ثمّ البحث عن حكم الظنّ ; من حيث الاعتبار وعدمـه(1) .
ولكنّـه لايخفى أنّ تثليث الأقسام لو كان توطئـة لما كان وجـه لتقييد مجرى الاستصحاب بكون الحا لـة السابقـة ملحوظـة ، فإنّ الظاهر أنّ هذا التقييد إنّما هو لأجل بيان المختار في مجرى الاستصحاب ، وسوق العبارة تقتضي كون التثليث أيضاً وقع من باب بيان الحقّ ، لا مجرّد التوطئـة ، فتدبّر .
نعم، يمكن التثليث بوجـه آخر:
وهو أنّ المكلّف إذا التفت إلى الحكم الشرعي الواقعي فإمّا أن يحصل لـه القطع بـه أو لا ، وعلى الثاني إمّا أن يكون لـه طريق شرعي أو لا ، وعلى الثاني يرجع إلى الاُصول العمليـة . وحينئذ فا لظنّ الانسدادي ـ بناءً على الحكومـة ـ من مسائل القطع ; لأنّـه أعمّ من القطع الإجما لي ، كما أنّ بعض مباحث الاشتغال إنّما يدخل فيـه أيضاً ، كما لايخفى .
ثمّ إنّ المراد با لمكلّف الذي يحصل لـه أحد الأقسام هو خصوص المجتهد ; إذ المراد من الالتفات هو الالتفات التفصيلي الحاصل للمجتهد ، ولا اعتبار بظنّ
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 4.
(الصفحة 372)
ا لمقلّد وشكّـه ، فلايشملـه الخطابات الواردة في أدلّـة اعتبار الطرق والأمارات ، مثل قولـه(عليه السلام)
«لا تنقض اليقين بالشكّ»(1) ; ضرورة أنّـه لايكاد يحصل للمقلّد ا لشكّ واليقين في الشبهات الحكميـة ، وعلى فرض الحصول فلا عبرة بهما ما لم يكن مجتهداً في مسألـة حجّيـة الاستصحاب .
وكيف كان فقد ذكروا في مقام بيان أحكام القطع وأقسامـه اُموراً :
- 1 ـ تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، وسائل الشيعـة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
(الصفحة 373)الأمر الأوّل
وجوب متابعـة القطع وحجّيتـه
لاشبهـة في وجوب العمل على وفق القطع ، ولزوم الحركـة على طبقـه عقلاً . ولايخفى أنّ المراد با لقطع الذي يجب العمل على وفقـه إن كان هو نفس صفـة القطع التي هي من صفات النفس فلا معنى للعمل على طبقـه ; لأنّـه لا عمل لـه ، كما هو واضح ، وإن كان المراد بـه هو الشيء المقطوع بـه فوجوب العمل على وفقـه عقلاً وإن كان ممّا لاريب فيـه إلاّ أنّ هذا الحكم ليس من أحكام القطع ، مثلاً لو قطع بوجوب صلاة الجمعـة فا لعقل وإن كان يحكم بلزوم الإتيان بها ; نظراً إلى لزوم إطاعـة المولى إلاّ أنّ لزوم الإتيان بها ليس من أحكام القطع .
وإن شئت قلت : إنّـه ليس في البين إلاّ حكم العقل بوجوب إطاعـة المولى ، وهو من المسائل الكلاميـة الغير المرتبطـة با لمقام .
نعم ، ما يصحّ أن يعدّ من أحكام القطع هو كونـه منجّزاً للواقع على تقدير الإصابـة ; بحيث لايبقى للمكلّف القاطع عذر أصلاً ، كما هو واضح .
وأمّا ثبوت العذر على تقدير عدم الإصابـة فلايكون أيضاً من أحكام القطع ; لأنّ المعذوريـة إنّما هو بسبب الجهل با لواقع ، وعدم الطريق إليـه ،