(الصفحة 379)
بارتكاب ما قطع أنّـه من مصاديق الخمر(1) .
ويرد عليـه:
وضوح إمكان الالتفات إلى العلم ; لأنّـه ليس من العناوين التي لايمكن الالتفات إليها ، كعنوان التجرّي مثلاً ; حيث إنّ التوجّـه والالتفات إليـه يخرج الملتفت عن كونـه متجرّياً ، كما هو واضح . وأمّا العلم ونظائره من العناوين ـ كعنوان القصد ـ فيمكن الالتفات إليـه .
وحينئذ فلا إشكال في اختصاص الخطاب بـه ، فإنّ العا لم با لخمر ـ بعدما التفت إلى أنّ معلومـه بما أنّـه معلوم يكون موضوعاً للحرمـة ـ يتوجّـه با لتوجّـه الثانوي إلى علمـه ، توجّهاً استقلالياً . ويدلّ على ذلك وقوع العلم في الشريعـة متعلّقاً للأحكام كثيراً ، كقولـه(عليه السلام) :
«كلّ شيء طاهر، حتّى تعلم أنّـه قذر»
(2) .
وأمّا ما أفاده في ذيل كلامـه ففساده أظهر من أن يخفى ; ضرورة أنّ شرب المايع في المثال كان اختيارياً لـه بلا إشكال ; ولذا يترتّب عليـه بطلان الصوم ونظائره ، كما لايخفى .
ثانيهما:
ما في تقريرات المحقّق المتقدّم من أنّ توجيـه الخطاب بمثل «لاتشرب معلوم الخمريـة» مستلزم لاجتماع المثلين في نظر العا لم دائماً ، وإن لم يلزم ذلك واقعاً ; لأنّ النسبـة بين الخمر الواقعي والخمر المعلوم هي العموم من وجـه ، وفي مادّة الاجتماع يتأكّد الحكمان ، كما في مثل «أكرم العا لم ، وأكرم الهاشمي» إلاّ أنّـه في نظر العا لم دائماً يلزم اجتماع المثلين ; لأنّ العا لم لايحتمل المخا لفـة ، ودائماً يرى مصادفـة علمـه للواقع ، فدائماً يجتمع في نظره حكمان .
ولايصلح كلّ من هذين الحكمين لأن يكون داعياً ومحرّكاً لإرادة العبد
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 299 ـ 302.
- 2 ـ تهذيب الأحكام 1: 284 / 832، وسائل الشيعـة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
(الصفحة 380)
بحيال ذاتـه ، فإنّـه لو فرض أنّ للخمر حكماً ، ولمعلوم الخمريـة أيضاً حكماً فبمجرّد العلم بخمريـة شيء يعلم بوجوب الاجتناب عنـه ، الذي فرض أنّـه رتّب على ذات الخمر ، فيكون هو المحرّك والباعث للاجتناب ، والحكم الآخر المترتّب على معلوم الخمريـة لايصلح لأن يكون باعثاً ، ويلزم لغويتـه . وليس لـه مورد آخر يمكن استقلالـه في الباعثيـة ، فإنّ العلم با لخمريـة دائماً ملازم للعلم بوجوب الاجتناب عنـه ، المترتّب على الخمر الواقعي ، وذلك واضح بعدما كان العا لم لايحتمل المخا لفـة . فتوجيـه خطاب آخر على معلوم الخمريـة لايصحّ(1) . انتهى .
وفيـه ما لايخفى;
لأنّ تعلّق الحكمين با لخمر الواقعي وبمعلوم الخمريـة لايكاد يكون مستلزماً لاجتماع المثلين ، بعد وضوح كون النسبـة بين المتعلّقين هي العموم من وجـه . ومجرّد اجتماعهما في نظر القاطع لايوجب اجتماع المثلين عنده ، بعد ثبوت الاختلاف بين المفهومين في نظر القاطع أيضاً ; لأنّـه لايرى إلاّ مصادفـة قطعـه للواقع ، وهذا لايستلزم اتحاد المفهومين في عا لم المفهوميـة ، الذي هو عا لم تعلّق الأحكام ، كما حقّقناه في المباحث السابقـة بما لا مزيد عليـه .
مضافاً إلى أنّ الحكم لاينحصر بهذا القاطع ; ضرورة اشتراك الكلّ في الأحكام ، فهذا القاطع ـ مع أنّـه يرى مصادفـة قطعـه للواقع ، المستلزمـة لاجتماع المثلين عنده ، بناءً على ما ذكره(قدس سره) ـ يحتمل الخطأ با لنسبـة إلى القاطع الآخر ، فلم يجتمع الحكمان با لنسبـة إليـه في نظر هذا القاطع ، كما هو واضح .
وأمّا ما ذكره من عدم صلاحيـة كلّ من الحكمين لأن يكون داعياً ومحرّكاً فيرد عليـه وضوح أنّ المكلّف قد لاينبعث بأمر واحد ، وينبعث بأمرين أو أكثر .
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 45 ـ 46.
(الصفحة 381)
ومجرّد تحقّق الإطاعـة بترك فعل واحد والعصيان بإتيانـه لايوجب اللغويـة بعد وجود مادّة الافتراق بينهما ، كما لايخفى .
هذا ، ولكن الظاهر عدم كون النزاع في حرمـة التجرّي ; لأنّ تعلّق الحرمـة بعنوانـه قد عرفت بطلانـه ، وتعلّقـه بمعلوم الخمريـة مقيّداً بعدم مصادفـة العلم للواقع ـ مضافاً إلى استحا لتـه ـ ممنوع ; لعدم اختصاص ملاك التحريم بـه ، فلابدّ من أن يكون متعلّقاً بمعلوم الخمريـة مطلقاً ، ومن غير تقييد . وتعلّقـه بـه مستلزم للتسلسل ; لأنّ تعلّق الحرمـة بمعلوم الخمريـة معلوم أيضاً ، فيتحقّق نهي آخر متعلّق بمعلوم الحرمـة ، وتعلّق النهي الثاني بـه أيضاً معلوم ، فيتحقّق نهي آخر ، إلى ما لا نهايـة لـه ، وهذا ممّا يقطع بخلافـه .
فانقدح:
أنّ المسألـة عقليـة كلاميـة ، يكون محلّ النزاع فيها هو حكم العقل باستحقاق المتجرّي للعقاب وعدمـه ، فلا تغفل .
المناط في استحقاق العقوبـة
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المتجرّي والعاصي كليهما يشتركان في جميع المراحل ، من تصوّر الحرام ، والتصديق بفائدتـه ، والعزم على ارتكابـه ، والجرأة على المولى ، وإنّما يفترقان في أمرين :
أحدهما:
ارتكاب مبغوض المولى ، والإتيان بما فيـه المفسدة .
ثانيهما:
مخا لفـة المولى ، وعدم إطاعـة تكليفـه عمداً .
فإنّ هذين الأمرين متحقّقان في العاصي دون المتجرّي ، ولاشبهـة في أنّ استحقاق العقوبـة ليس لمجرّد ارتكاب المبغوض وما فيـه المفسدة ، وإلاّ يلزم أن يكون الجاهل المرتكب للحرام مستحقّاً للعقوبـة ، كما أنّـه لاشبهـة في أنّ مخا لفـة المولى عمداً قبيح عند العقل ، ويستحقّ العبد بسببها العقوبـة ، بمعنى أنّ
(الصفحة 382)
ا لعقل يحكم بحسن عقاب المولى للعبد الذي خا لف أحكامـه من أوامره ونواهيـه .
إنّما الإشكال في أنّ الجرأة على المولى وهتك حرمتـه ـ الذي يكون قبيحاً عقلاً بلاريب ـ هل يوجب استحقاق العقوبـة أم لا . ولايتوهّم الملازمـة بين القبح العقلي واستحقاق العقوبـة ; ضرورة أنّ أكثر ما يحكم العقل بقبحـه لايترتّب عليـه إلاّ مجرّد اللوم والذّم . ألا ترى أنّ ترجيح المرجوح على الراجح قبيح ، مع أنّـه لايستحقّ المرجّح بسببـه العقوبـة أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .
فمجرّد حكم العقل بقبح شيء لايوجب استحقاق الفاعل للعقوبـة ، وحينئذ فإن قلنا بترتّب العقوبـة على مجرّد الجرأة على المولى فا للازم هو الالتزام بثبوت العقوبتين في صورة العصيان ، ولا وجـه للتداخل ، بعد كون كلّ من المخا لفـة العمديـة والجرأة على المولى سبباً مستقلاّ لثبوت العقاب ، ولم نعثر على من يقول بذلك ، فيستكشف منـه أنّ الجرأة على المولى التي يشترك فيها العاصي والمتجرّي لايوجب العقاب أصلاً . نعم ، يختصّ العاصي با لمخا لفـة العمديـة التي هي السبب في الاستحقاق .
فانقدح من ذلك:
أنّـه لايترتّب على مجرّد التجرّي استحقاق للعقوبـة أصلاً . نعم ، لو قلنا بأنّ الجرأة على المولى لها صورة برزخيّـة ، وأثر في النفس يظهر في عا لم الغيب ، ويكون ملازماً للإنسان ، كما أنّـه يتجسّم الأعمال الصا لحـة والقبيحـة بصورها الملكوتيـة ، وترى كلّ نفس عين عملـه ، كما قال اللّـه تعا لى :
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْس ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْر مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوء)(1) ، وقال
(الصفحة 383)
تعا لى :
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ)(1) ، فيشترك العاصي والمتجرّي في هذا المعنى ، بلا تداخل في العاصي أصلاً ، كما لايخفى .
ثمّ لايذهب عليك : أنّ الفعل المتجرّى بـه الذي يكون مصداقاً لبعض العناوين الغير المحرّمـة حقيقةً لايتصف با لقبح أصلاً ; لعدم كونـه مصداقاً للتجرّي على المولى ـ الذي قد عرفت أنّـه قبيح عند العقل ـ ضرورة أنّ الجرأة على المولى إنّما تكون من الصفات النفسانيـة والأحوال العارضـة للنفس ، ولايكون لها مصداق في الخارج أصلاً ، بل هو نظير العلم والإرادة وغيرهما من الصفات التي محلّها النفس . نعم ، يكون الإتيان با لفعل المتجرّى بـه كاشفاً عن تحقّقـه فيها ، ومظهراً لثبوتـه ، ولايكون مصداقاً لـه ، كما هو واضح . وحينئذ فلا وجـه لسرايـة القبح إليـه ، بعد كونـه مصداقاً حقيقياً لبعض العناوين الغير المحرّمـة .
نقد كلام صاحب الكفايـة
ثمّ
إنّ المحقّق الخراساني(قدس سره) بعد أن اختار قبح التجرّي ; مستدلاّ بشهادة الوجدان ، وذهب إلى أنّـه لايوجب تفاوتاً في الفعل المتجرّى بـه ، بل هو باق على ما هو عليـه من الحسن والقبح والوجوب أو الحرمـة ـ لعدم كونـه بما هو مقطوع الحرمـة اختيارياً ـ أورد على نفسـه بقولـه : إن قلت : إذا لم يكن الفعل كذلك فلا وجـه لاستحقاق العقوبـة على مخا لفـة القطع ، وهل كان العقاب عليها إلاّ عقاباً على ما ليس بالاختيار .
ثمّ أجاب بأنّ العقاب إنّما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان ، لا