(الصفحة 394)
وفيـه أوّلاً:
أنّ بعض الانقسامات اللاحقـة ممّا لايمكن تقييد الأدلّـة بـه ، ولايمكن فيـه نتيجـة التقييد مثل المقام ، فإنّ أخذ القطع موضوعاً با لنسبـة إلى نفس الحكم الذي تعلّق بـه مستحيل بأيّ وجـه كان .
وكيف يمكن أن يكون الحكم مختصّاً با لعا لم بـه ، مع كونـه من الدور الواضح ؟ فإنّ العلم با لحكم يتوقّف على ثبوتـه با لضرورة ، فلو فرض اختصاصـه با لعا لم ـ ولو بنتيجـة التقييد ـ يصير الحكم متوقّفاً على العلم بـه . وبا لجملـة فلايرتفع إشكال الدور بذلك .
نعم ، يمكن تقييد الأدلّـة ببعض الانقسامات اللاحقـة بدليل آخر ، كقصد التقرّب في العبادات ، بناءً على عدم إمكان التقييد اللحاظي ، ولكنّك عرفت في مبحث التعبّدي والتوصّلي إمكانـه ، فضلاً عن التقييد بدليل آخر .
وأمّا باب الجهر والإخفات ، والقصر والإتمام فلايكون من باب الاختصاص ، فإنّـه يمكن أن يكون عدم وجوب القضاء والإعادة من باب التخفيف والتقبّل ، لا من باب صحّـة العمل ومطابقـة المأتيّ بـه مع المأمور بـه ، كما نفينا البعد عنـه في مثل حديث لا تعاد ، بناءً على عدم اختصاصـه با لسهو(1) .
وثانياً:
أنّ التقييد اللحاظي ـ الذي حكم بأنّـه إذا امتنع امتنع الإطلاق ; لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكـة ـ هل هو مقابل للإطلاق اللحاظي ، أو أنّـه يقابل نفس الإطلاق ، من دون اتصافـه بذلك .
فعلى الأوّل يرد عليـه ـ مضافاً إلى أنّ معنى الإطلاق ، كما حقّقناه في موضعـه هو عبارة عن مجرّد عدم لحاظ التقييد ، ولايحتاج إلى اللحاظ أصلاً(2)ـ
- 1 ـ الفقيـه 1: 225 / 991، وسائل الشيعـة 6: 91، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب29، الحديث 5.
- 2 ـ مناهج الوصول 2: 315.
(الصفحة 395)
أنّ اللحاظين أمران وجوديان ، والتقابل بينهما حينئذ يكون من قبيل تقابل الضدّين ، لا العدم والملكـة .
وعلى الثاني يرد عليـه منع الملازمـة بين امتناع التقييد وامتناع الإطلاق ; لأنّ التقابل بينهما حينئذ وإن كان من قبيل تقابل العدم والملكـة إلاّ أنّ ذلك لايقتضي ثبوت الملازمـة .
وتوضيحـه : أنّ المتعلّق قد لايمكن تقييده ; لقصور فيـه ; بحيث لايكون لـه شأنيـة التقييد أصلاً ، وقد لايمكن ذلك ، لا لقصوره وعدم الشأنيـة ، بل لمنع خارجي ، كلزوم الدور ونحوه . ففي الأوّل لايمكن الإطلاق ; لأنّ ذلك مقتضى تقابل العدم والملكـة في جميع الموارد ، فإنّـه لايقال للجدار أعمى ، ولايقال زيد مطلق بالإطلاق الأفرادي ، وهذا بخلاف الثاني ، كما في المقام ، فإنّ امتناع التقييد ليس لعدم القابليـة لـه ، بل لمنع خارجي ; وهو استلزامـه للدور ، وفي مثلـه يمكن الإطلاق . وحينئذ فلابأس بأن يقال : إنّ دليل اشتراك الأحكام بين العا لم والجاهل هو إطلاقات الكتاب والسنّـة ، ولا احتياج إلى التماس دليل آخر ; ولذا تراهم يتمسّكون بها في كثير من الموارد ، كما لايخفى .
وثالثاً:
أنّ ما ذكره في القياس ممّا لايتمّ ، فإنّ من راجع الأدلّـة الناهيـة عن العمل با لقياس يعرف أنّ المنع عنـه إنّما هو لأجل قصور العقول البشريـة ، وبعدها عن الوصول إلى أحكام اللّـه تعا لى من قبل نفسـه ، وعدم حصول العلم منـه غا لباً ، لا لأجل الفرق بين العلم الحاصل منـه والقطع الحاصل من غيره ، فراجع الأخبار الواردة في هذا الباب ، المذكورة في كتاب القضاء من «ا لوسائل»(1) .
ثمّ
إنّـه حكى عن صاحب «ا لمقالات» أنّـه ذهب إلى إمكان أخذ القطع
- 1 ـ وسائل الشيعـة 27: 35، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6.
(الصفحة 396)
با لحكم في موضوع نفس ذلك الحكم بنحو نتيجـة التقييد بوجـه آخر(1) ، غير ا لذي عرفت ، فراجع كلامـه ، وتأمّل في جوابـه .
والتحقيق في المقام أن يقال:
إنّـه تارة يؤخذ القطع با لحكم تمام الموضوع لذلك الحكم ، بمعنى أنّ الموضوع لـه إنّما هو القطع ، سواء أخطأ أو أصاب ، فلا مدخليـة لوجود الحكم واقعاً في تحقّق موضوعـه ، واُخرى يؤخذ بعض الموضوع ; بحيث كان الموضوع هو القطع الذي أصاب .
وإن شئت قلت : إنّ الموضوع هو الواقع المقطوع بـه ، ففي الأوّل يمكن ذلك بلا استلزام للدور أصلاً ; ضرورة أنّ الحكم ، وإن كان يتوقّف حينئذ على موضوعـه الذي هو القطع با لحكم ، إلاّ أنّ الموضوع لايتوقّف على ثبوتـه أصلاً ; ضرورة أنّ الموضوع إنّما هو نفس القطع ، وهو قد يحصل مع عدم تحقّق المقطوع في الواقع ; إذ ليس كلّ قطع مصيباً ، كما هو واضح .
وهذا بخلاف ما إذا اُخذ بعض الموضوع ، فإنّ تحقّق القطع حينئذ وإن كان لايتوقّف على ثبوت الحكم في الواقع ، إلاّ أنّ المفروض هو عدم كونـه تمام الموضوع ، بل قيد الإصابـة معتبر فيـه ، وهو لايتحقّق بدون ثبوت الحكم في الواقع ، فصارتحقّق الموضوع متوقّفاً على ثبوت الحكم في ا لواقع ، وهودور صريح .
حول قيام الأمارات والاُصول مقام القطع
إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّـه يقع البحث في قيام الطرق والأمارات والاُصول بنفس أدلّتها مقام القطع بأقسامـه ، وفيـه مقامان :
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 15.
(الصفحة 397)
ا لأوّل : في إمكان قيامها مقامـه ثبوتاً .
ا لثاني : في وقوعـه إثباتاً .
قيام الأمارات والاُصول مقام القطع ثبوتاً
أمّا المقام الأوّل : فا لظاهر الإمكان وعدم لزوم محذور ، عدا ما أفاده المحقّق الخراساني ، وهو يرجع إلى إشكا لين :
أحدهما:
أنّ الدليل الواحد لايكاد يكفي إلاّ بأحد التنزيلين ; حيث لابدّ في كلّ تنزيل من لحاظ المنزّل والمنزّل عليـه ، ولحاظهما في أحدهما آليّ وفي الآخر استقلالي ; ضرورة أنّ النظر في حجّيتـه وتنزيلـه منزلـة القطع في الطريقيـة في الحقيقـة إلى الواقع ومؤدّى الطريق ، وفي كونـه بمنزلتـه في دخلـه في الموضوع إلى أنفسهما ، ولايكاد يمكن الجمع بينهما(1) ، هذا .
وا لجواب عنـه هو ما ذكرناه جواباً عن الإشكال في إمكان أخذ القطع تمام الموضوع على وجـه الطريقيـة ، كما عرفت سابقاً ، فراجع(2) .
ثانيهما:
ما ذكره ; ردّاً على مقا لتـه في «ا لحاشيـة» ; حيث التزم فيها
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 304.
- 2 ـ ويؤيّده، بل يدلّ عليـه حكم العقل بحجّيـة القطع الطريقي، فإنّ القطع المأخوذ موضوعاً للحكم بالحجّيـة وإن كان هو القطع الطريقي بنحو يكون تمام الموضوع لهذا الحكم; ضرورة أنّـه لا فرق في الحجّيـة بين ما إذا أصاب القطع أو أخطأ، إلاّ أنّـه لاينافي ذلك مع كون المراد هو القطع الطريقي الذي لايكون ملحوظاً عند القاطع إلاّ بنحو الآليـة. ففي هذا الحكم اجتمع بين كونـه تمام الموضوع، وكونـه هو القطع الطريقي، ومن المعلوم أنّـه لا فرق بين هذا الحكم الذي يكون الحاكم بـه العقل وبين سائر الأحكام التي يكون الحاكم بها الشرع من هذه الحيثيـة أصلاً، كما لايخفى. [المقرّر حفظـه اللّـه].
(الصفحة 398)
لتصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلـة الواقع والقطع بأنّ دليل الاعتبار إنّما يوجب تنزيل المؤدّى منزلـة الواقع ، وإنّما كان تنزيل القطع فيما لـه دخل في الموضوع با لملازمـة بين تنزيلهما وتنزيل القطع با لواقع تعبّداً منزلـة القطع با لواقع حقيقةً(1) .
وملخّص ما أفاده في وجـه الردّ:
أنّـه لايكاد يصحّ تنزيل جزء من الموضوع أو قيده بلحاظ أثره إلاّ فيما كان جزؤه الآخر أو ذاتـه محرزاً با لوجدان ، أو تنزيلـه في عرضـه . فلايكاد يكون دليل الأمارة دليلاً على تنزيل جزء الموضوع ، ما لم يكن دليل على تنزيل جزئـه الآخر ، ففي مثل المقام لايكون دليل الأمارة دليلاً عليـه ; للزوم الدور ، فإنّ دلالتـه على تنزيل المؤدّى تتوقّف على دلالتـه على تنزيل القطع با لملازمـة ، ولا دلالـة لـه كذلك إلاّ بعد دلالتـه على تنزيل المؤدّى ، كما لايخفى(2) .
وفيـه : أنّـه يكفي في صحّـة التنزيل الأثر التعليقي ، وهو هنا متحقّق ، فإنّ المؤدّى لو انضمّت إليـه جزؤه الآخر يكون ذا أثر فعلي . فانقدح : أنّ الإمكان وعدم لزوم أمر مستحيل من ذلك ممّا لا مجال للمناقشـة فيـه أصلاً .
قيام الأمارات والاُصول مقام القطع إثباتاً
ا لمقام الثاني : فيما يدلّ عليـه أدلّـة الأمارات والاُصول ، فنقول :
أمّا الأمارات:
فقد ذكر في التقريرات كلاماً طويلاً ، واُسّس بنياناً رفيعاً
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 31.
- 2 ـ كفايـة الاُصول: 306 ـ 307.