(الصفحة 399)
لقيامها بأدلّـة اعتبارها مقام القطع(1) ، ولكنّـه خال عن الدليل ; لعدم دلالـة أدلّـة حجّيـة الأمارات على ما ذكره أصلاً .
والتحقيق أن يقال:
إنّ العمدة في أدلّـة حجّيـة الأمارات هي بناء العقلاء بما هم عقلاء على العمل على طبقها ، وليس للشارع في اعتبارها تأسيس أصلاً ، كما يظهر بمراجعـة الأخبار الواردة في حجّيـة خبر الواحد الذي هو من عمدة الأمارات ، فإنّـه لايظهر من شيء منها ما يدلّ على حجّيـة خبر الواحد ، أو وجوب تصديق العادل ، أو نحوهما ممّا يشعر بكون الشارع جعل خبر الواحد طريقاً إلى الأحكام ، بل التأمّل فيها يقضي بكون ذلك أمراً مسلّماً عند الناس ; بحيث لايحتاج إلى السؤال ; لأنّ بنائهم في الاُمور الدنيويـة كلّها أيضاً على العمل بذلك .
وبالجملـة:
كون الدليل على ذلك هو مجرّد بناء العقلاء ، وعمل الشارع بـه إنّما هو لكونـه منهم ممّا لا مجال للإشكال فيـه . وحينئذ فنقول : لا إشكال في أنّ الوجـه في ذلك ليس لكون الظنّ عندهم بمنزلـة القطع ، ويقوم مقامـه ، فإنّ لهم طرقاً معتبرة يعملون بها في اُمورهم ، من غير تنزيل شيء منها مقام الآخر .
ومنـه يظهر:
أنّ الأثر المترتّب على القطع الطريقي ـ وهو الحجّيـة والمنجّزيـة للواقع على تقدير الثبوت ـ يترتّب على تلك الطرق العقلائيـة ، لكن لا من باب كونها قائمـة مقام القطع ، ومنزّلـة بمنزلتـه . وتقدّم القطع على سائر الطرق العقلائيـة لايؤيّد دعوى التنزيل ، فإنّ الوجـه فيـه إنّما هو أنّ العمل على طبقها إنّما هو مع فقد العلم ، وذلك لايوجب انحصار الطريق في القطع ; بحيث تكون سائر الطرق قائمـة مقامـه ، ويكون العمل بها بعنايـة التنزيل .
وأمّا القطع الموضوعي:
فما كان منـه مأخوذاً في الموضوع على نعت
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 15.
(الصفحة 400)
ا لصفتيـة فلا إشكال في عدم قيام الظنّ مقامـه ، ولا في عدم ترتّب آثاره عليـه ، كما أنّـه لا إشكال في ذلك فيما لو كان القطع مأخوذاً على وجـه الطريقيـة التامّـة .
وأمّا لو كان مأخوذاً في الموضوع بما أنّـه أحد الكواشف فلاريب في ترتّب حكمـه على الظنّ أيضاً ، لكن لا من باب كونـه قائماً مقامـه ، بل من باب كونـه أيضاً مأخوذاً في الموضوع ، فإنّ المفروض أنّ القطع قد اُخذ فيـه بما أنّـه من الكواشف ، فمرجعـه إلى كون الدخيل في الموضوع هو الكاشف بما هو كاشف ، والظنّ أيضاً كا لقطع يكون من مصاديقـه ، كما هو واضح ، هذا حال الأمارات .
وأمّا الاُصول، فمنها : الاستصحاب،
ولايخفى أنّ مفاد الأخبار الواردة في بابـه ليس إلاّ مجرّد البناء العملي على بقاء المتيقّن سابقاً في زمان الشكّ ، وترتيب آثار البقاء في حا لـه ، فهو أصل تعبّدي مرجعـه إلى مجرّد بقاء المتيقّن تعبّداً ، والحكم بثبوتـه شرعاً ، وهذا المعنى لا ارتباط لـه بباب التنزيل وإقامتـه مقام القطع أصلاً ، كما هو واضح .
نعم ، لو كان مفاد أخبار الاستصحاب هي إطا لـة عمر اليقين ووجوب عدم نقضـه ; بحيث يكون مرجعها إلى كون الشاكّ فعلاً متيقّناً شرعاً وتعبّداً لكان الظاهر هو قيام الاستصحاب مقام القطع بجميع أقسامـه . لكن الأمر ليس كذلك ، كما سنحقّقـه إن شاء اللّـه تعا لى في موضعـه(1) .
- 1 ـ ومنها: أصالـة البراءة الشرعيـة التي هي مقتضى مثل حديث الرفع، ومن الواضح أنّ مفادها رفع التكليف من جهـة عدم تعلّق العلم بـه، وكونـه مجهولاً، ولا دلالـة لها على التنزيل منزلـة اليقين بوجـه.
- ومنها: الاُصول العمليـة العقليـة، كأصالـة البراءة، وأصالـة التخيير، ومن المعلوم أنّ مقتضاها مجرّد الحكم بقبح العقاب مع فرض الجهل بالحكم، وعدم ثبوت البيان بالإضافـة إليـه، ولا معنى لاقتضائها التنزيل، كما إنّ مقتضى أصالـة التخيير ثبوتـه لأجل الجهل، وعدم ثبوت الترجيح بوجـه، وهو لايرتبط بالتنزيل أصلاً، كما لايخفى. [المقرّر حفظـه اللّـه].
(الصفحة 401)
ومنها: قاعدتا التجاوز والفراغ،
ولايخفى أنّ التأمّل في الأخبار الواردة فيهما يعطي أنّ مفادها ليس إلاّ مجرّد البناء عملاً على تحقّق المشكوك ، والحكم بثبوتـه في محلّـه .
فانظر إلى ما ورد في روايـة حمّاد ، بعد سؤا لـه عنـه(عليه السلام) أشكّ ، وأنا ساجد ، فلا أدري ركعت أم لا من قولـه(عليه السلام) :
«قد ركعت»
(1) . فهذا المضمون ونظائره ظاهر في مجرّد فرض تحقّق الشيء المشكوك ، والبناء عليـه عملاً ، ولا نظر في أدلّتهما إلى جعل المكلّف مقام القاطع ، والحكم بكونـه مثلـه ; بحيث لو ورد دليل كان القطع مأخوذاً في موضوعـه ، كقولـه مثلاً : إذا قطعت با لركوع فعليك كذا وكذا يكون مفاده شاملاً للمكلّف الشاكّ في الركوع المتجاوز عن محلّـه ، أو الفارغ عن العمل ; نظراً إلى تلك الأدلّـة .
وبالجملـة:
فا لظاهر عدم الإشكال في أنّـه ليس شيء من أدلّـة الاُصول ناظراً إلى التنزيل ، وبصدد جعل المكلّف قاطعاً تعبّداً . نعم ، لو فرض كون مفادها ذلك فا لظاهر أنّـه لا فرق بين القطع الطريقي والموضوعي ، ولا فرق في الثاني أيضاً بين ما كان مأخوذاً على وجـه الصفتيـة وما كان مأخوذاً على نعت الطريقيـة ، كما هو واضح .
- 1 ـ تهذيب الأحكام 2: 151 / 594، وسائل الشيعـة 6: 317، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 2.
(الصفحة 402)الأمر الرابع
حكم الظنّ في المقام
قد عرفت حكم القطع المأخوذ في موضوع نفس الحكم المقطوع بـه أو مثلـه أو ضدّه ، فاعلم : أنّ حكم الظنّ أيضاً مثلـه ، فيجوز أن يكون مأخوذاً موضوعاً تامّاً لنفس الحكم المظنون أو لضدّه أو مثلـه ; لعدم لزوم الدور أصلاً ، وعدم لزوم اجتماع المثلين أو الضدّين .
نعم ، لو كان مأخوذاً في الموضوع ناقصاً ; بحيث كان الموضوع مركّباً منـه ومن ا لشيء المظنون . وبعبارة اُخرى : كان قيد الإصابـة معتبراً فيـه فلايجوز أصلاً ; للزوم الدور فيما إذا كان مأخوذاً في موضوع نفس ذلك الحكم المظنون ، ولزوم اجتماع المثلين أوا لضدّين فيما إذا كان مأخوذاًفي موضوع مثل ذلك الحكم أو ضدّه .
ثمّ لايخفى أنّ التعبير بكلمـة التضادّ إنّما هو لأجل متابعتهم ، وإلاّ فقد عرفت في بعض المباحث المتقدّمـة أنّ ما اشتهر بينهم من كون النسبـة بين الأحكام هي التضادّ ممّا لا وجـه لـه ، ولعلّـه يجيء فيما بعد ، ولكن ذلك لايضرّ بعدم الجواز في مورد اجتماع الحكمين ; لأنّ اجتماعهما مستحيل ، ولو لم نقل بثبوت التضادّ ، كما لايخفى .
(الصفحة 403)الأمر الخامس
الموافقـة الالتزاميـة
هل القطع با لحكم يقتضي وجوب الموافقـة الالتزاميـة ، كما يقتضي وجوب الموافقـة العمليـة أم لا ؟
والتحقيق أن يقال:
إنّ الموافقـة الالتزاميـة الراجعـة إلى عقد القلب والالتزام بشيء ، والانقياد والتسليم لـه إنّما هي من الأحوال القلبيـة والصفات النفسانيـة ـ كا لخضوع والخشوع والرجاء والخوف ونظائرها ـ وتحقّق تلك الأوصاف وتحصّلها في النفس إنّما يكون قهرياً ; تبعاً لتحقّق مبادئها ، ويستحيل أن توجد بدون حصول المبادئ ; لأنّها ليست من الأفعال الاختياريـة الحاصلـة بالإرادة والاختيار ; لأنّها تابعـة لمبادئها ، فإذا حصلت تتبعها تلك الحالات قهراً ، وإذا لم يحصل لا تتحقّق أصلاً .
مثلاً العلم بوجود المبدء وعظمتـه وجلالتـه يوجب الخضوع والخشوع لـه تعا لى ، ولايمكن أن يتخلّف عنـه ، كما أنّ مع عدم تحقّقـه يمتنع أن يتحقّقا ; لوضوح استحا لـة عقد القلب على ضدّ أمر محسوس ، كالالتزام القلبي بعدم كون النار حارّة ، والشمس مشرقـة ، وكما لايمكن ذلك لايمكن الالتزام بضدّ أمر