(الصفحة 422)
يكون الجهل والعجز من الأعذار العقليـة ; لعدم إمكان الانبعاث با لبعث مع الجهل بـه ، أو عدم القدرة على الإتيان با لمبعوث فلا محا لـة لايكون المكلّف معاقباً على المخا لفـة ومذموماً عليها ، وقد حقّقنا في مبحث الترتّب من مباحث الألفاظ أنّ التكليفين باقيان على فعليتهما في صورة التزاحم . غايـة الأمر : أنّ عجز المكلّف صار سبباً لكونـه معذوراً في مخا لفـة أحدهما ; لعدم قدرتـه على امتثا لهما .
نعم ، بينـه وبين المقام فرق ، وهو أنّ مخا لفـة المكلّف في المقام ـ إذا أخطأت الأمارة ـ لا تكون مستندة إلى عذر عقلي ; لأنّـه لو لم تكن الأمارة حجّـة من قبل الشارع لما وقع المكلّف في مخا لفـة الواقع ; لأنّـه كان يعمل بمقتضى الاحتياط الواجب بحكم العقل في موارد العلم الإجما لي . وحينئذ فتكون المخا لفـة مستندة إلى اعتبار الشارع قول العادل ، وأمثا لـه من الأمارات .
وحينئذ فيمكن أن يقال:
بمثل ما مرّ في الجواب عن محذور التفويت والإلقاء من أنّ جعل الشارع واعتباره للأمارات يمكن أن يكون بملاحظـة أنّـه لو لم تكن الأمارة حجّـة من قبل الشارع لكان مقتضى حكم العقل وجوب الاحتياط على الناس ، وحينئذ فيلزم الحرج الشديد ، والاختلال العظيم ، الموجب لرغبـة أكثر الناس عن الشريعـة ، وخروجها عن كونها سمحـة سهلـة ، وذلك يوجب انتفاء المصلحـة العظيمـة ; وهي مصلحـة بقاء الشريعـة .
فاعتبار قول العادل الراجع إلى الترخيص فيما لو أدّى على خلاف الواقع ، وقام على نفي وجوب الواجب الواقعي ليس إلاّ لملاحظـة حفظ الشرع الذي يكون ذا مصلحـة عظيمـة ، فيرخّص في ترك صلاة الجمعـة الواجبـة واقعاً القائمـة على نفي وجوبها الأمارة ، لا لعدم كونها ذا مصلحـة ملزمـة ، بل لرفع اليد عن مصلحتها في مقابل المصلحـة التي هي أقوى منها بمراتب .
فوجوب صلاة الجمعـة وإن كان حكماً فعلياً إلاّ أنّ الشارع يرفع اليد عن
(الصفحة 423)
مثلـه من بعض الأحكام الفعليـة لأجل مصلحـة هي أقوى المصا لح وأتمّها ، فهو نظير من يقطع يده لأجل حفظ نفسـه فيما لو توقّف عليـه ، فقطع اليد وإن لم يكن ذا مصلحـة ـ بل يكون عين المفسدة ـ إلاّ أنّ معارضتـه مع شيء آخر أقوى منـه أوجب الإقدام عليـه ، مع كونـه ذا مفسدة ، كما لايخفى .
ثمّ إنّ ما ذكرنا:
يجري في جميع الأمارات والاُصول ، ولا اختصاص لـه بالأوّل ، فإنّ اعتبار قاعدتي الفراغ والتجاوز ، وإ لغاء الشكّ بعد الوقت ، وعدم وجوب ترتيب الأثر عليـه ، مع أنّ ذلك قد يؤدّي إلى عدم الإتيان با لمأمور بـه ـ بعضاً أو كلاّـ يمكن أن يكون لملاحظـة أنّ تفويض الناس إلى ما يقتضيـه عقولهم من ثبوت الاشتغال إلى أن يعلم الفراغ ربّما يوجب تنفّر الناس وإعراضهم عن أصل الشريعـة ; لعدم تحقّق العلم لهم بإتيان التكا ليف واجدة لجميع ما يعتبر فيها ، إلاّ قليلاً ; ضرورة أنّ أكثرهم في شكّ من ذلك غا لباً . فهذه المصلحـة التي هو أقوى المصا لح أوجبت رفع اليد عن بعض المصا لح الضعيفـة ، وإن كان الحكم على طبقها حكماً فعلياً ، وكان الإتيان بها محبوباً للمولى في نفسها ، كما لايخفى .
فتلخّص من جميع ذلك:
أنّ الحكم الواقعي الفعلي عند قيام الأمارة على خلافـه يخرج عن الفعليـة ، بمعنى أنّ المولى لايريد إجرائـه ، فيصير كالأحكام الإنشائيـة التي لايكون المقصود بها عمل الناس على طبقها ، إلاّ في زمان ظهور دولـة الحقّ بقيام صاحب الأمر(عليه السلام) ، كا لحكم بنجاسـة العامّـة على ما في بعض الروايات .
وأمّا ما أفاده بعض محقّقي العصر
ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ : من أنّـه لايعقل الحكم الإنشائي ، بل الذي يكون في الواقع هو إنشاء الأحكام ، وهو عبارة عن تشريعها وجعلها على موضوعاتها المقدّرة وجودها بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط على نهج القضايا الحقيقيـة . ودعوى أنّ الحكم الواقعي في مورد
(الصفحة 424)
ا لأمارة لايكون فعلياً واضحـة الفساد ، فإنّـه لايمكن أن لايكون الحكم فعلياً إلاّ إذا اُخذ في موضوعـه عدم قيام الأمارة على الخلاف ; بحيث يكون قيداً في ذلك ، ومعـه يعود محذور التصويب(1) .
ففيـه:
أنّ المراد با لحكم الإنشائي هو الحكم الذي ينشأه العقلاء المقنّنين للقوانين العرفيـة في اُمورهم الدنيويـة أيضاً ، ثمّ يخصّصونـه ببعض الأفراد ، أو يقيّدونـه ببعض القيود ; ضرورة أنّ العقلاء في جعل القوانين ليسوا بحيث يجعلون القانون بجميع خصوصياتـه ; من حيث القيود أو الشمول ، بل ينشأون الأحكام بنحو العموم أو الإطلاق ، ثمّ يخصّصونـه أو يقيّدونـه .
كيف ، ولو قلنا بأنّ الأحكام الواقعيـة كانت مجعولـة على موضوعاتها بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط لم يبق وجـه للتمسّك بالإطلاق عند الشكّ في كون الحكم مقيّداً ، أو في تقيّده بقيد آخر ; إذ مع فرض كون المتكلّم في مقام البيان لابدّ لـه من بيان الحكم المتعلّق با لموضوع بجميع ما اعتبر فيـه ، وعند ذلك لايبقى شكّ في القيد ، ومعـه لايجوز التمسّك بالإطلاق ، كما لايخفى .
أجوبـة الأعلام عن المشكلـة ونقدها
ثمّ إنّـه تفصّى المحقّق المعاصر عن أصل الإشكال ـ على ما في التقريرات ـ بأنّ الموارد التي توهّم وقوع التضادّ بين الأحكام الظاهريـة والواقعيـة على أنحاء ثلاثـة :
أحدها : موارد قيام الطرق والأمارات .
ثانيها : موارد مخا لفـة الاُصول المحرزة .
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 103.
(الصفحة 425)
ثا لثها : موارد تخلّف الاُصول الغير المحرزة ، والتفصّي عن الإشكال يختلف في كلّ منها .
أمّا باب الطرق والأمارات:
فليس المجعول حكماً تكليفياً ، حتّى يتوهّم التضادّ بينـه وبين الحكم الواقعي ، بل المجعول فيها إنّما هو الحجّيـة والوسطيـة في الإثبات ، وهو أمر عقلائي ، وممّا تنا لـه يد الجعل . وحينئذ فليس حال الأمارة المخا لفـة إلاّ كحال العلم المخا لف ، فلايكون في البين إلاّ الحكم الواقعي فقط ; أصاب الطريق الواقع أو أخطأ ، فإنّـه عند الإصابـة يكون المؤدّى هو الحكم الواقعي ، كا لعلم الموافق ، ويوجب تنجيز الواقع ، وعند الخطأ يوجب المعذوريـة وعدم صحّـة المؤاخذة عليـه ، كا لعلم المخا لف ، من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول(1) ، انتهى ملخّصاً . هذا ما أفاده في التفصّي عن الإشكال في خصوص ا لأمارات .
ويرد عليـه أوّلاً:
أنّـه ليس في باب الأمارات والطرق العقلائيـة الإمضائيـة حكم مجعول أصلاً ، لا الحجّيـة ولا الوسطيـة في الإثبات ، ولا الحكم التعبّد بـه ; ضرورة أنّـه ليس فيها إلاّ مجرّد بناء العقلاء عملاً على طبقها ، والمعاملـة معها معاملـة العلم ، من دون أن يكون هنا جعل في البين ، والشارع أيضاً لم يتصرّف فيها ، بل عمل بها ، كما يعمل العقلاء في اُمورهم .
وثانياً:
فلو سلّم الجعل الشرعي فا لمجعول فيها ليس إلاّ إيجاب العمل بالأمارات تعبّداً ، كما يظهر بملاحظـة الروايات الواردة في ذلك ، مثل قولـه(عليه السلام) :
«إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس»(2) ، مشيراً إلى زرارة ، وقولـه(عليه السلام) : «وأمّا
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 105.
- 2 ـ اختيار معرفـة الرجال 1: 347 / 216، وسائل الشيعـة 27: 143، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 19.
(الصفحة 426)
الحوادث الواقعـة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا»(1) ، وقولـه(عليه السلام) :
«عليك بالأسدي»(2) ; يعني أبا بصير ، فإنّـه لو استفيد منها الجعل الشرعي ، واُغمض عن كون جميعها إرشاداً إلى الارتكاز العقلائي فظاهرها وجوب العمل على قول العادل ، لا جعل الحجّيـة والوسطيـة ، كما لايخفى .
وثالثاً
ـ وهو العمدة ـ : أنّـه مع الغمض عن الإيرادين الأوّلين نقول : إنّ ما أفاد من كون المجعول هو الوسطيـة في الإثبات لايجدي في دفع الإشكال ; لما تقدّم في توجيهـه من أنّ مرجع الإشكال إلى استحا لـة اجتماع الإرادة الحتميـة المتعلّقـة بإيجاد شيء ، والإرادة الجائيـة من قبل الحجّيـة الراجعـة إلى الترخيص في المخا لفـة فيما لو أخطأت الأمارة ، وهذا لايندفع بما ذكره ، ولم يكن الإشكال منحصراً بالاجتماع في خصوص الحكمين ، حتّى يندفع بما ذكره من عدم كون المجعول في باب الأمارات هو الحكم .
هذا، وأمّا ما أفاده في باب الاُصول المحرزة فملخّصـه:
أنّ المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أنّـه الواقع ، وإ لغاء الطرف الآخر ، وجعلـه كا لعدم ، فا لمجعول في الاُصول التنزيليـة ليس أمراً مغايراً للواقع ، بل الجعل الشرعي إنّما تعلّق با لجري العملي على المؤدّى ، على أنّـه هو الواقع ، كما يرشد إليـه قولـه(عليه السلام) في بعض أخبار قاعدة التجاوز
«بلى قد ركعت»(3) ، فإن كان
- 1 ـ إكمال الدين: 484 / 4، وسائل الشيعـة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
- 2 ـ اختيار معرفـة الرجال 1: 400 / 291، وسائل الشيعـة 27: 142، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 15.
- 3 ـ تهذيب الأحكام 2: 151 / 592، وسائل الشيعـة 6: 317، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 3.