(الصفحة 427)
ا لمؤدّى هو الواقع فهو ، وإلاّ كان الجري العملي واقعاً في غير محلّـه ، من دون أن يكون قد تعلّق با لمؤدّى حكم على خلاف ما هو عليـه . وبا لجملـة : المجعول في باب الاُصول هو الهوهويـة العمليـة التي بنى عليها الشيخ في باب الأمارات(1) ، انتهى .
ويرد عليـه أوّلا:
أنّ الجري والبناء العملي والهوهويـة العمليـة ليس أمراً قابلاً للجعل الشرعي ; لأنّـه من الاُمور التكوينيـة الغير القابلـة للجعل ; ضرورة أنّـه فعل للمكلّف ، فإنّـه هو الذي يعمل بمؤدّاها بما أنّـه الواقع . وأمّا قولـه(عليه السلام) :
«بلى قد ركع» فهو يرشد إلى ما ذكرنا من رفع اليد عن الحكم الفعلي ، والاكتفاء بخلوّ المأمور بـه عن بعض الأجزاء .
وثانياً:
أنّـه على تقدير تسليم إمكان تعلّق الجعل الشرعي با لجري العملي فنقول : مَن الذي أوجب على المكلّف ، وأجاز لـه البناء على أنّ المؤدّى هو الواقع ؟ فلا محا لـة يقال في الجواب : إنّ الجاعل والباعث لـه على ذلك هو الشارع المرخّص في العمل على طبق الاُصول ، وحينئذ فيعود الإشكال بأنّـه كيف يجتمع ذلك مع الإرادة الحتميـة المتعلّقـة بفعل المأمور بـه بجميع أجزائـه وشرائطـه ، كما لايخفى .
هذا، وذكر في مقام التفصّي عن الإشكال في الاُصول الغير المحرزة
ـ بعد التفصيل في متمّمات الجعل ـ ما ملخّصـه : أنّ للشكّ في الحكم الواقعي اعتبارين :
أحدهما : كونـه من الحالات والطوارئ اللاحقـة للحكم الواقعي أو موضوعـه ، كحا لتي العلم والظن ، وهو بهذا الاعتبار لايمكن أخذه موضوعاً لحكم يضادّ الحكم الواقعي ; لانحفاظ الحكم الواقعي عنده .
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 110 ـ 111.
(الصفحة 428)
ثانيهما : اعتبار كونـه موجباً للحيرة في الواقع ، وعدم كونـه موصلاً إليـه ومنجّزاً لـه ، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعاً لما يكون متمّماً للجعل ومنجّزاً للواقع ، كما أنّـه يمكن أخذه موضوعاً لما يكون مؤمّناً عن الواقع حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمريـة . فلو كانت مصلحـة الواقع مهمّـة في نظر الشارع كان عليـه جعل المتمّم ، لمصلحـة احترام المؤمن وحفظ نفسـه ، فإنّـه لمّا كان حفظ نفس المؤمن أولى با لرعايـة وأهمّ في نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الكافر اقتضى ذلك تشريع حكم ظاهري طريقي بوجوب الاحتياط في موارد الشكّ ; حفظاً لدمـه .
وهذا الحكم إنّما يكون في طول الحكم للواقع ، نشأ عن أهمّيـة المصلحـة الواقعيـة ; ولذا كان الخطاب بالاحتياط خطاباً نفسياً ناشئاً عن أهمّيـة مصلحـة الواقع ، فهو واجب نفسي للغير ، لا واجب با لغير ; ولذا كان العقاب على مخا لفـة التكليف بالاحتياط عند تركـه وأدائـه إلى مخا لفـة الحكم الواقعي ، لا على مخا لفـة الواقع ; لقبح العقاب عليـه مع الجهل .
إن قلت:
إنّ مقتضى ذلك صحّـة العقوبـة على مخا لفـة الاحتياط ، صادف الواقع أو خا لفـه ; لكونـه واجباً نفسياً ، وإن كان الغرض من وجوبـه هو الوصلـة إلى الأحكام الواقعيـة ، إلاّ أنّ تخلّف الغرض لايوجب سقوط العقاب . فلو خا لف الاحتياط ، وأقدم على قتل المشتبـه ، وصادف كونـه مهدور الدم كان اللازم استحقاقـه للعقوبـة .
قلت:
فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام ، والذي لايضرّ تخلّفـه هو الأوّل ; لأنّها تكون حكمـة تشريع الأحكام ، وأمّا علّـة الحكم فا لحكم يدور مدارها ، ولايمكن أن يتخلّف عنها ، ولا إشكال أنّ الحكم بوجوب حفظ نفس المؤمن علّـة للحكم بالاحتياط ; لأنّ أهمّيـة ذلك أوجب الاحتياط .
(الصفحة 429)
ومن ذلك يظهر:
أنّـه لا مضادّة بين إيجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي ، فإنّ المشتبـه إن كان ممّا يجب حفظ نفسـه واقعاً فوجوب الاحتياط يتّحد مع الوجوب الواقعي ، ويكون هو هو ، وإن لم يكن كذلك فلايجب الاحتياط ; لانتفاء علّتـه ، وإنّما المكلّف يتخيّل وجوبـه ، هذا كلّـه إذا كانت مصلحـة الواقع تقتضي جعل المتمّم من إيجاب الاحتياط .
وإن لم تكن المصلحـة الواقعيـة بهذه المثابـة من الأهمّيـة فللشارع جعل المؤمّن بلسان الرفع كحديث الرفع(1) ، أو بلسان الوضع كقولـه :
«كلّ شيء لك حلال»(2) ، فإنّ المراد من الرفع ليس رفع التكليف عن موطنـه ، بل رفع التكليف عمّا يستتبعـه من التبعات ، وإيجاب الاحتياط ، فا لرخصـة المستفادة من حديث الرفع نظير الرخصـة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، فكما أنّ هذه الرخصـة لا تنافي الحكم الواقعي كذلك الرخصـة المستفادة من حديث الرفع .
والسرّ في ذلك:
هو أنّ هذه الرخصـة تكون في طول الحكم الواقعي ، ومتأخّر رتبتها عنـه ; لأنّ الموضوع فيها هو الشكّ في الحكم ; من حيث كونـه موجباً للحيرة في الواقع وغير موصل إليـه ، فقد لوحظ في الرخصـة وجود الحكم الواقعي ، ومعـه كيف يعقل أن تضادّ الحكم الواقعي .
وبالجملـة:
الرخصـة والحلّيـة المستفادة من حديثي الرفع والحلّ تكون في عرض المنع والحرمـة المستفادة من إيجاب الاحتياط ، وقد عرفت أنّ إيجاب
- 1 ـ التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
- 2 ـ الكافي 6: 339 / 2، وسائل الشيعـة 25: 118، كتاب الأطعمـة والأشربـة، أبواب الأطعمـة المباحـة، الباب 61، الحديث 2.
(الصفحة 430)
ا لاحتياط يكون في طول الواقع ومتفرّعاً عليـه ، فما يكون في عرضـه يكون في طول الواقع أيضاً ، إلاّ يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضـه(1) ، انتهى .
ويرد عليـه أوّلاً:
أنّ الفرق بين أخذ الشكّ باعتبار كونـه من الحالات والطوارئ وبين أخذه باعتبار كونـه موجباً للحيرة في الواقع ، دعوى المناط في رفع التضادّ هو الأخذ على الوجـه الثاني ممّا لا محصّل لـه ، فإنّ مجرّد الطوليـة لو كان كافياً في رفع التضادّ فا للازم رفعـه بناءً على الوجـه الأوّل أيضاً ; لأنّ الحالات الطارئـة أيضاً في طول الواقع ، وإن لم يكن كافياً فيـه ، فالأخذ على الوجـه الثاني أيضاً لايرفع التضادّ ، بل نقول : إنّ الاعتبارين مجرّد تغيير في العبارة ، وإلاّ فلا فرق بينهما واقعاً ، كما لايخفى .
وثانياً:
أنّ ما أجاب بـه عن الإشكال الذي أورده على نفسـه بقولـه : إن قلت : من عدم وجوب الاحتياط واقعاً في مورد الشكّ مع عدم كون المشكوك ممّا يجب حفظـه ; لكون وجوب حفظ المؤمن علّـة للحكم بالاحتياط ، لا علّـة للتشريع ممّا لاوجـه لـه ، فإنّ وجوب الاحتياط حكم ظاهري مجعول لغرض حفظ الواقع ، ولابدّ أن يتعلّق حقيقـة بكلّ مشكوك ، سواء كان واجب الحفظ أم لم يكن ، وإلاّ فلو تعلّق بخصوص ما كان منطبقاً على الواجب الواقعي فقط فيحتاج إلى متمّم آخر ، فإنّ وجوب الاحتياط المتعلّق على المشكوك الواجب بحسب الواقع لايصلح للداعويـة نحو المشكوك كونـه هو الواقع ، وقاصر عن تحريك العبد نحوه ، فيصير جعل إيجاب الاحتياط لغواً ; لأنّ جميع موارد الشكّ يكون تعلّق وجوب الاحتياط بها مشكوكاً ، كما لايخفى .
وثالثاً:
أنّ ما أفاد من أنّ الرخصـة ، وكذا أصا لـة الحلّيـة إنّما يكون في
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 114 ـ 119.
(الصفحة 431)
عرض الاحتياط الذي هو في طول الواقع ، فلابدّ أن تكون الرخصـة أيضاً في طولـه ممنوع جدّاً ; لأنّـه قد ثبت في محلّـه أنّ ما في عرض المتقدّم على شيء لايلزم أن يكون متقدّماً عليـه ; لأنّ التقدّم والتأخّر إنّما يثبت في موارد ثبوت ملاكهما ، كا لعلّيـة والمعلوليـة ، ولا معنى لثبوتهما من دون ملاك ، كما هو واضح .
ورابعاً:
أنّ ما ذكره ـ على تقدير تسليم صحّتـه ـ لايجدي في رفع الإشكال با لتوجيـه الذي ذكرناه ، فتدبّر .
وممّا تفصّى بـه عن الإشكال ما أفاده السيّد الأصفهاني
ـ على ماحكاه عنـه المحقّق المعاصر في كتاب «ا لدرر» ـ وملخّصـه : أنّـه لا إشكال في أنّ الأحكام إنّما تتعلّق با لمفاهيم المتصوّرة في الذهن ، لكن لا من حيث إنّها كذلك ، بل من حيث إنّها حاكيـة عن الخارج .
ثمّ إنّ المفهوم المتصوّر تارة يكون مطلوباً على نحو الإطلاق ، واُخرى على نحو التقييد ، وعلى الثاني فقد يكون ذلك لعدم المقتضي في غير المقيّد ، وقد يكون لوجود المانع ، مثلاً قد يكون عتق الرقبـة مطلوباً على سبيل الإطلاق ، وقد يكون الغرض في عتق الرقبـة المؤمنـة خاصّـة ، وقد يكون في المطلق ، إلاّ أنّ عتق الرقبـة الكافرة مناف لغرضـه الآخر ، ولأجلـه قيّد العتق المطلوب بما إذا تحقّق في الرقبـة المؤمنـة ، فتقييده في هذا القسم إنّما هو من جهـة الكسر والانكسار ، لا لتضييق دائرة المقتضى .
ومن المعلوم : أنّ ذلك يتوقّف على تصوّر العنوان المطلوب أوّلاً مع العنوان الآخر المتّحد معـه في الوجود المخرج لـه عن المطلوبيـة الفعليـة ، فلو فرضنا عنوانين غير مجتمعين في الذهن فلايعقل تحقّق الكسر والانكسار . فا للازم من ذلك : أنّـه متى تصوّر العنوان الذي فيـه جهـة المطلوبيـة يكون مطلوباً صرفاً ، من دون تقييد وكذا العنوان الذي فيـه جهـة المبغوضيـة .