(الصفحة 51)
اختياره ، بل با لتسبيب إليـه بجعل الداعي إليـه ، وهو البعث نحوه ، فلا محا لـة ينبعث من الشوق إلى فعل الغير اختياراً الشوق إلى البعث نحوه ، فا لشوق المتعلّق بفعل الغير إذا بلغ مبلغاً ينبعث منـه الشوق نحو البعث الفعلي ، كان إرادةً تشريعيـة ، وإلاّ فلا ، ومعـه لايعقل البعث نحو أمر استقبا لي ; إذ لو فرض حصول جميع مقدّماتـه وانقياد المكلّف لأمر المولى ، لما أمكن انبعاثـه نحوه بهذا البعث ، فليس ما سمّيناه بعثاً في الحقيقـة بعثاً ولو إمكاناً .
ثمّ أورد على نفسـه ببعض الإيرادات مع الجواب عنها(1) لا مجال لنقلها .
ولايخفى أ نّـه يرد على ما ذكره في الإرادة التكوينيـة وجوه من الإيراد :
منها:
أنّ ما ذكره من أنّ الإرادة هي المرتبـة الكاملـة من الشوق ، محلّ نظر ، بل منع ; فإنّ الشوق نظير المحبّـة والعشق من الاُمور الانفعا ليـة للنفس والإرادة بمنزلـة القوّة الفاعليـة لها ، ولايعقل أن يبلغ ما يكون من الاُمور الانفعا ليـة إلى مرتبـة الاُمور الفاعليـة ولو بلغ من الكمال ما بلغ ، فإنّ الكمال البا لغ إليـه إنّما هو الكمال في مرتبتـه ، لا انقلاب حقيقتـه إلى حقيقـة اُخرى ، وهذا من الاُمور الواضحـة المحقّقـة في محلّها(2) .
منها
ـ وهي العمدة ـ : أنّ ما ذكره ـ بل اشتهر في الألسن وتكرّر في الكلمات ـ من أنّ الإرادة هي الجزء الأخير من العلّـة التامّـة ليس مبرهناً عليـه ، بل إنّما هو صرف ادّعاء لا دليل عليـه لو لم نقل بكون الوجدان شاهداً وقاضياً بخلافـه ، فإنّـه من الواضح أنّ الإرادة المتعلّقـة با لمراد فيما لو كان غير نفس تحريك العضلات ليست بعينها هي الإرادة المتعلّقـة بتحريك العضلات لأجل
- 1 ـ نهايـة الدرايـة 2: 72 ـ 80.
- 2 ـ الحكمـة المتعاليـة 1: 436 ـ 437، الطلب والإرادة، الإمام الخميني(قدس سره): 109، أنوار الهدايـة 1: 63.
(الصفحة 52)
تحقّق ذلك المراد ، فالإرادة المتعلّقـة بشرب الماء ليست هي نفس الإرادة المتعلّقـة بتحريك العضلات نحو الإناء الواقع فيـه الماء ; لما قد حقّق في محلّـه من عدم إمكان تعلّق إرادة واحدة بمرادين ، وكذا لايجوز تعلّق إرادتين بمراد واحد ; ضرورة أنّ تشخّص الإرادة إنّما هو با لمراد ، كما قرّر في محلّـه(1) .
فإذا ثبتت تعدّد الإرادة، فنقول:
إنّ الإرادة المتعلّقـة بتحريك العضلات هي التي تكون علّةً تامّة لحركتها ، لا لكون الإرادة علّةً لحصول كلّ مراد ، بل لأنّـه حيث تكون القوى مقهورةً للنفس محكومةً با لنسبة إليها ، فلا محا لة لا تتعصّى عن إطاعتها ، كما أ نّـه ربّما يعرض بعض تلك القوى ما يمنعـه عن الانقياد لها ، فربّما تريد تحريكها ومعـه لا تتحرّك لثبوت المزاحم .
وبا لجملـة فالإرادة لا تكون علّةً تامّة با لنسبة إلى كلّ مراد ، بل إنّما تكون كذلك فيما لو كان المراد تحريك قوى النفس مع كونها سليمةً عن الآفة وقابلةً للانقياد عنها ; لما عرفت من عدم التعصّي عنها ، وحينئذ فلو فرض أنّ النفس أراد تحريكها في الاستقبال فهل الانقياد لها يقتضي التحرّك في الحال أو في الاستقبال ؟
والحاصل:
أنّ منشأ الحكم بامتناع تعلّق الإرادة بأمر استقبا لي هو كون الإرادة علّةً تامّة ، وبعدما عرفت من عدم كونها كذلك في جميع الموارد وفي موارد ثبوتها لاينافي كون المراد أمراً استقبا لياً كما عرفت ، لم يبق وجـه لامتناع انفكاك الإرادة عن المراد بعد وضوح إمكان تعلّق الإرادة بما هو كذلك .
منها:
أنّ ما ذكره في مقام الجواب عن المتن من أ نّـه إذا كان المراد ذا مقدّمات كثيرة تكون المقدّمات تابعةً لذيها با لنسبة إلى الشوق لا الإرادة ، فيرد
- 1 ـ الحكمـة المتعاليـة 6: 423 ـ 424.
(الصفحة 53)
عليـه ـ مضافاً إلى ما ذكرنا في محلّـه من أنّ الشوق ليس من مقدّمات الإرادة(1) ; لأنّ الإنسان كثيراً ما يريد بعض الأشياء مع عدم الاشتياق إليـه أصلاً ، بل ربّما ينزجر عنـه كمال الانزجار ، كشرب الدواء مثلاً ـ أ نّـه لو سلّمنا ذلك ، فلا نسلّم با لنسبـة إلى المقدّمات ; فإنّها لا تكون مشتاقاً إليها للمريد من حيث المقدّميـة أصلاً ، فكيف تتبع ذيها في الشوق ؟ !
هذا ، مضافاً إلى أ نّـه لو لم يكن الشوق في ذي المقدّمـة با لغاً إلى حدّ إرادتها ـ كما اعترف بـه ـ فكيف يمكن بلوغـه في المقدّمـة إلى حدّ الإرادة مع كونها مرادةً بوصف المقدّميـة ؟ ! كما لايخفى .
هذا با لنسبـة إلى ما ذكره في الإرادة التكوينيـة .
وأمّا ما ذكره في الإرادة التشريعيـة التي هي محلّ النزاع في المقام .
فيرد عليـه ـ مضافاً إلى أنّ البعث ليس لإيجاد الداعي للمكلّف إلى الفعل ، بل لإيجاد موضوع الإطاعـة والعصيان ـ أنّ امتناع انفكاك الانبعاث عن البعث الفعلي وإن كان غير قابل للمنع أصلاً إلاّ أ نّـه لو فرض أنّ العبد مبعوث إلى أمر استقبا لي ـ كما في المقام ـ فامتناع تخلّف الانبعاث إنّما هو في وقت حضوره .
وبا لجملـة ، فا لبعث إلى الأمر الفعلي يمتنع انفكاك الانبعاث الفعلي إليـه ، وأمّا البعث إلى الأمر الاستقبا لي فالانبعاث با لنسبـة إليـه يلحظ في زمان حضور وقت ذلك الأمر ، كما لايخفى .
ثمّ إنّـه ذكر بعض الأعاظم
ـ على ما في التقريرات المنسوبـة إليها ـ في مقام امتناع الواجب المعلّق ما ملخّصـه : أنّ امتناعـه ليس لأجل استحا لـة تعلّق التكليف بأمر مستقبل ، كيف والواجبات الشرعيـة كلّها من هذا القبيل ، ولا لعدم
- 1 ـ الطلب والإرادة، الإمام الخميني(قدس سره): 39، أنوار الهدايـة 1: 63.
(الصفحة 54)
إمكان تعلّق الإرادة بأمر مستقبل ، فإنّ إمكانـه بمكان من الوضوح بحيث لا مجال لإنكاره ، بل يستحيل أن لا تتعلّق الإرادة من الملتفت بـه إذا كان متعلّقاً لغرضـه ، كما هو واضح ، بل امتناعـه إنّما هو لكون الأحكام الشرعيـة إنّما هو على نهج القضايا الحقيقيـة ، ومعنى كون القضيّـة حقيقيّةً هو أخذ العنوان الملحوظ مرآة لمصاديقـه المفروضة الوجود موضوعاً للحكم ، فيكون كلّ حكم مشروطاً بوجود الموضوع بمالَـه من القيود من غير فرق بين أن يكون الحكم من الموقّتات أو غيرها ، غايتـه أنّ في الموقّتات يكون للموضوع قيد آخر سوى القيود المعتبرة في موضوعات سائر الأحكام من العقل والبلوغ والقدرة وغير ذلك .
وحينئذ ينبغي أن يسئل ممّن قال با لواجب المعلّق أ نّـه أيّ خصوصيـة با لنسبـة إلى الوقت حيث قلت بتقدّم الوجوب عليـه دون سائر القيود ؟
وليت شعري ما الفرق بين الاستطاعـة في الحج والوقت في الصوم حيث كان وجوب الحج مشروطاً بها ولم يكن وجوب الصوم مشروطاً با لوقت ، فإن كان الملاك في الأوّل هو كونها مأخوذاً قيداً للموضوع ومفروض الوجود ، فا لوقت أيضاً كذلك ، بل الأمر فيـه أوضح ; لأنّـه لايمكن إلاّ أخذه مفروض الوجود ; لأنّـه أمر غير اختياري ، وكلّ ما هو كذلك لابدّ أن يؤخذ مفروض الوجود ، ويقع فوق دائرة الطلب ، ويكون التكليف با لنسبـة إليـه مشروطاً لا مطلقاً ، وإلاّ يلزم تكليف العاجز .
والحاصل:
أنّ القول بتقدّم التكليف عليـه ـ كما هو الشأن في سائر القيود التي يتقدّم التكليف عليها ، كا لطهارة والساتر وغير ذلك ـ يستلزم محالاً في محال ; لأنّـه يلزم أوّلاً لزوم تحصيلـه ، كما في تلك القيود ، والمفروض عدم إمكان تحصيلـه ، وثانياً تحصيل الحاصل ; لاستلزامـه تحصيل ما هو مفروض الوجود .
وبا لجملـة دعوى إمكان الواجب المعلّق في القضايا الشرعيـة التي تكون
(الصفحة 55)
على نهج القضايا الحقيقيـة في غايـة السقوط . هذه خلاصـة ما ذكره المحقّق النائيني على ما في التقريرات(1) .
ويتوجّـه عليـه ما عرفت سابقاً:
من أنّ القيود على قسمين :
فإنّـه قد تتعلّق إرادة المريد با لصلاة في المسجد مثلاً بمعنى كون مراده هو هذا الأمر المقيّد لأجل دخا لـة القيد في حصول غرضـه ، فلا محا لـة يصير بصدد تحصيل مطلوبـه حتّى لو لم يكن المسجد موجوداً يريد بناءه حتّى يصلّي فيـه أو يأمر ببنائـه لذلك .
وقد تتعلّق إرادتـه با لصلاة على تقدير تحقّق المسجد بمعنى أ نّـه لايكون طا لباً لأصل الصلاة ومريداً لها لكن على تقدير وجود المسجد يرى نفسـه مجبوراً بالإتيان بها لبعض الجهات ، فربّما يتوصّل بأسباب مختلفـة ووسائط متعدّدة لأجل عدم تحقّق المسجد لعدم كونـه مشتاقاً إلى الصلاة مريداً لها أصلاً ولكن على تقدير تحقّقـه يجبر نفسـه على الإتيان بها فيـه ، ولهذا نظائر كثيرة ، فإنّـه قد تتعلّق إرادة الإنسان بضيافـة صديقـه مطلقاً ، فإنّـه لا محا لـة يصير بصدد تحصيل مقدّماتـه حتّى لو لم يكن في بلده يدعوه إليـه ، وقد تتعلّق إرادتـه بضيافتـه على تقدير مسافرتـه إلى بلد المضيف ونزولـه في منزلـه وغير ذلك من الأمثلـة الكثيرة .
ففي الصورة الاُولى من المثا لين لايكون القيد مفروض الوجود حتّى يكون التكليف متأخّراً عنـه وثابتاً على تقدير وجوده ، بل هو من القيود الواقعـة تحت دائرة الطلب لا فوقها لو كان أمراً مقدوراً للمكلّف ، كما أ نّـه لو لم يكن مقدوراً يكون التكليف ثابتاً قبلـه وإن لم يكن متوجّهاً إليـه أصلاً ، وهذا هو الفرق بين الاستطاعـة في الحجّ والوقت في الصوم .
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 186 ـ 189.