(الصفحة 6)
ولدت معـه ، كا لنحو والصرف وغيرهما ، فبينما لزمت أمثال هذه العلوم سمـة الجمود والتحجّر ، نجد علم الفقـه بديعاً في مسا لكـه ، قشيباً في أدلّتـه ، وما من يوم يمضي إلاّويزداد حداثـة وغضارة ، وذلك بفتح باب الاجتهاد والاستنباط عندنا .
هذا ، وترتكز عمليـة الاستنباط من الكتاب والسنّـة على مقدّمات عديدة وكثيرة ، كعلم الاُصول والرجال والمنطق واللغـة . . . حيث يقوم كلّ منها بدوره في الاستنباط ، إلاّ أنّ لعلم الاُصول عنصر الصدارة من بينها ، بل لولاه لما تمكّن الفقيـه من الاستدلال ، ولهذا أولاه علماؤنا عنايـة فائقـة من بين سائر المقدّمات الدخيلـة في الاستنباط ، باذلين في تحقيقـه جهوداً خلاّقـة وأوقات شريفـة .
وقد تمخّضت هذه الجهود عن علم يفوق جميع العلوم العقليـة والنقليـة في شموليتـه واستيعابـه ، وصلابتـه واستحكامـه ، وعذوبتـه واسترسا لـه ، وتوسّع توسّعاً كبيراً على يد المبتكرين والمفكّرين من علمائـه الذين أفردوا لـه دوائر عديدة وموسوعات كبيرة .
ومن جانب آخر فقد بعدت أفكاره عن المنال ، وعزّت عرائس أفكاره على عقول الرجال ; نتيجةً لممارسة العباقرة لهذا العلم ومدارستهم لـه ، فكان من الطبيعي أن يظهر على الجانب المعاكس تيّاران :
أحدهما:
يهدف إلى تقليص هذا العلم وتلخيصـه ، وحذف زوائده وفضولـه ، ويعدّ المحقّق صاحب «ا لكفايـة» (رحمه الله) المؤسّس لهذا التيّار . إلاّ أنّـه ـ وللأسف ـ راح الوضوح والبيان ضحيةَ التلخيص ، وتعقدّت «ا لكفاية» وصعب فهمها ، ونشأ عن هذا الكثير من الشروح والحواشي التي لاتعبّر إلاّ عن رأي مؤلّفيها في غا لب الأحيان ، والتي يقرنها أربابها بقولهم : «لعلّ مراده(قدس سره) كذا» أو «يحتمل كذا» ولو علم المحقّق الخراساني (رحمه الله) با لسلسلـة الطويلـة من الشروح التي أحدثتها
(الصفحة 7)
وتحدثها «كفايتـه» وعلم بما سيعانيـه دارسوها ومدرّسوها، لما اختصرها ولا اختزلها ، ولكتبها موسّعـة مسهبـة ، كاشفاً عن قناعها ; فإنّ طلسمـة كتاب دراسي أمر مرغوب عنـه عند مربّي الأجيال .
وثانيهما:
التيّار الداعي إلى الحدّ من وضع المصطلحات الجديدة ، وإ لى بيان جميع المقدّمات الدخيلـة في فهم المطا لب الاُصوليـة . وهذا لايعني الدعوة إلى الإطناب المملّ ولا الإيجاز المخلّ ، كما هو واضح . وتعدّ مدرسـة المحقّق النائيني (رحمه الله) خير مثال لهذا التيّار البليغ ; حيث تظهر روح مطا لبها مجسّدة بقا لب من الألفاظ الفصيحـة البليغـة .
ومع كلّ المزايا التي تجلّت في مدرستي العلاّمتين الخراساني والنائيني(رحمهما الله)فقد انطوتا في بعض مواضعهما على الخلط بين التكوين والتشريع ، والوحدة الحقيقيـة والوحدة الاعتباريـة ، وعلى عدم الوصول إلى مغزى بعض المسائل الفلسفيـة التي جعلت أساساً للمسألـة الاُصوليـة ، فجاء الدور لمدرسـة السيّد الإمام الخميني ـ أعلى اللّـه مقامـه الشريف ـ ليضع حدّاً فاصلا بين الحقيقـة والاعتبار في المسائل الاُصوليـة ، ففيها ما يحكّم فيـه العرف الساذج وإن خا لف الدقّـة العقليـة والبراهين الفلسفيـة ، وفيها ما يرجع فيـه إلى المباني الفلسفيـة والحكمـة المتعا ليـة ، فالإفراط والتفريط في الاتكاء على علم المعقول ، كلاهما على جانب كبير من الخطأ .
ونظراً لرسوخ الإمام العلاّمـة في الحكمـة وإحاطتـه ببواطن اُمورها وخفيّات مسائلها ، لذا أبان الكثير منها عند مساس الحاجـة إليها ، ففي مبحث تعلّق الأوامر با لطبائع أو الأفراد لم يوافق المحقّق الخراساني على التمسّك بقاعدة «ا لماهيـة من حيث هي ليست إلاّ هي» مشيراً إلى أنّ منظور الحكماء بهذه
(الصفحة 8)
ا لقضيـة هو الحمل الأوّلي الذاتي ، لا الشائع الصناعي الذي هو مقصود الاُصولي .
كما لم يسلّم ما هو المعروف بين الفلاسفـة والاُصوليّين من اعتباريـة تقسيم الماهيـة والأجناس والفصول ، ذاهباً إلى أنّ تقسيم الماهيـة إلى أقسامها الثلاثـة إنّما يكون بلحاظ الواقع ونفس الأمر ; إذ مجرّد اعتبار شيء لابشرط ، لايوجب انقلاب الواقع وصيرورة الشيء قابلا للاتحاد والحمل ، كما أنّ اعتباره بشرط لا ، لايحدث المغايرة ولايمنع الحمل ، وإلاّ لاختلف الواقع بحسب الاعتبار ، ولصارت ماهيـة واحدة متحدة مع شيء وغير متحدة معـه بعينـه ، وهو واضح البطلان ، وعلى ضوء هذه الدقـة بحث عن المراد من المادّة والصورة والفرق بينهما وبين الجنس والفصل وأبدى الخلط الواقع في كلام الحكماء في المسألـة .
ومن المسائل التي برع في تحقيقها تحقيقاً حكمياً المسأ لـة المعروفـة التي شغلت بال الفلاسفـة والاُصوليين ; أعني مسألـة الطلب والإرادة ، حيث أفرد لها رسا لـة مستقلّـة ، وأفرغ فيها من ذوقـه المتألّـه ما يعجز عن نيلـه أكابر الفلاسفـة والحكماء و(ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) وقد قامت المؤسّسـة بتحقيقها ، وسيتمّ طبعها في القريب العاجل إن شاء اللّـه تعا لى .
وهناك شواهد اُخرى كثيرة لم يسعنا استقصاؤها في هذه العجا لـة ، يظهر منها أنّ الإمام الخا لد (رحمه الله) قد أرسى قواعد مدرستـه الاُصوليـة على ركائز من الحكمـة المتعا ليـة ، فلئن عبثت يد الطاغوت بتراث الإمام الفلسفي ، ولم ينجُ منها إلاّ النزر اليسير ، ففي أبحاثـه الاُصوليـة معا لم لمدرستـه الفلسفيـة ، وفيها ضالّـة الفيلسوف وبغيـة العارف .
هذا ، والمدرسـة الخمينيـة شجرة طيّبـة ; آتت اُكلها كلّ حين بإذن ربّها ، وتخرّج منها الكثير من العلماء والمحقّقين ومراجع الدين العاملين ـ أيّدهم اللّـه
(الصفحة 9)
تعا لى ـ نخصّ منهم با لذكر هنا : آيـة اللّـه العظمى المحقّق المجاهد الشيخ الفاضل اللنكراني ـ أدام اللّـه أيّام عوائده ـ حيث لازم الإمام الراحل ـ طاب ثراه ـ سنوات عديدة ، ونهل من معينـه العذب فقهاً واُصولا ، وكتب الكثير من الأبحاث الراقيـة التي أفاضها الإمام العظيم (رحمه الله) أثناء إقامتـه بمدينـة قم المشرّفـة ، فجاءت تقريراتـه آيـة في وضوحها وسلاستها ، ومثالا في تجرّدها من الزوائد والفضول ، لذا آثرت مؤسّسـة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني(قدس سره) نشر ما التقطـه دام ظلّـه من لآلئ بحث اُستاذه (رحمه الله) في الاُصول ، رغم عدم تماميتـه أوّلا وآخراً ; لما رأتـه من المزيـة التي تفرّد بها سماحـة العلاّمـة الحجّـة الفاضل حفظـه اللّـه سائلةً لجنابـه دوام الصحّة والعمر المديد ; إنّـه سميع مجيب .
مؤسّسـة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني(قدس سره)
فرع قم المقدّسـة
(الصفحة 10)
|