(الصفحة 330)
ولايخفى عدم دلالتها على المنع في المقام ; لوضوح أنّ المخا لفـة با لعموم لا تعدّ بنظر العرف مخا لفـة ، ضرورة ثبوت هذا النحو من المخا لفـة في نفس الكتاب العزيز ، مع أنّ قولـه تعا لى :
(وَلَو كانَ مِنْ عِندِ غَيرِ اللّـهِ لَوَجَدُوا فِيـهِ اختِلافاً كَثيراً)(1) ينادي بعدم الاختلاف فيـه .
مضافاً إلى أنّ صدور الأخبار المخا لفـة للكتاب بهذا المعنى من الأئمّـة (عليهم السلام) كثيرة جدّاً .
وا لسرّ فيـه ما عرفت من عدم كون هذه المخا لفـة مخا لفةً بنظر العرف والعقلاء ، وثبوت المناقضـة ، والتنافي بين الموجبـة الكلّيـة والسا لبـة الجزئيّـة ، وكذا بين السا لبـة الكلّيـة والموجبـة الجزئيّـة وإن كان أمراً بديهيّاً إلاّ أنّ ذلك في غير محيط جعل القوانين وتقنينها ، كما لايخفى .
(الصفحة 331)الفصل الثامن
في استثناء المتعقّب لجمل متعدّدة
هل الاستثناء المتعقّب للجُمل المتعدّدة ظاهر في رجوعـه إلى الكلّ أو خصوص الأخيرة ، أو لا ظهور لـه في واحد منهما ؟ وجوه وأقوال .
ولابد من البحث هنا في مقامين :
المقام الأوّل: إمكان الرجوع إلى الجميع
وليعلم أنّ ذلك إنّما هو بعد الفراغ عن إمكان رجوعـه إلى الكلّ مع أ نّـه قد يقال باستحا لتـه ; نظراً إلى أنّ آلـة الاستثناء قد تكون حرفاً ، وقد تكون اسماً ، وعلى التقديرين تارةً يكون المستثنى عنواناً كلّياً منطبقاً على كثيرين ، واُخرى يكون فرداً واحداً متصادقاً عليـه جميع العناوين المستثنى منها ، وثا لثـة يكون أفراداً متعدّدة كلّ واحد منهما فرد لعنوان من تلك العناوين ، مثل ما إذا قال : أكرم العلماء وأهن الفسّاق وأضف الهاشمي إلاّ زيداً ، وكان زيد المستثنى مردّداً بين زيد العا لم وزيد الفاسق وزيد الهاشمي وبين خصوص الأخير .
أمّا إذا كانت أداة الاستثناء اسماً وكان المستثنى عامّاً ، فالإخراج من الجميع
(الصفحة 332)
من دون ملاحظـة الوحدة بينهما يستلزم استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد ، وهو مستحيل ، وكذا فيما لو كان المستثنى فرداً واحداً .
وأمّا لو كان المستثنى أفراداً متعدّدة ، فمضافاً إلى ذلك يلزم استعمال المستثنى أيضاً في أكثر من معنى واحد .
وأمّا لو كانت أداة الاستثناء حرفاً ، فبناءً على كونـه موضوعاً للجزئيّات ، فاستعما لها في أكثر من فرد واحد مستلزم لذلك المحذور الذي جريانـه في الحروف أوضح ; لأنّ اندكاكها في متعلّقاتها أشدّ من فناء الألفاظ في معانيها الاسميـة(1) .
أقول:
قد عرفت أنّ استعمال اللّفظ في الأكثر من معنى واحد بمكان من الإمكان ، وأنّ الوجوه التي استندوا إليها لإثبات الاستحا لـة لم تكن ناهضةً لإثباتها ، والموضوع لـه في الحروف وإن لم يكن عامّاً إلاّ أ نّـه لا إشكال في استعما لها في أكثر من واحد ، والجامع بين معانيها وإن كان منتفياً ، ضرورة عدم وجود الجامع الحقيقي بين الابتداءات الخارجيّـة مثلاً ، ومفهوم الابتداء الذي هو معنى اسمي لم يكن ابتداء حقيقةً إلاّ أ نّـه مع ذلك يمكن استعما لها في أكثر من واحد تبعاً للأسماء ومتعلّقاتها ; نظير قولـه : سر من كل نقطـة من البصرة فإنّ الكثرة ـ التي هي مفاد الكلّ ـ تسري إلى «من» أيضاً فيفيد وجوب السير مبتدئاً من كلّ نقطـة .
ومنـه يظهر أنّ جواز استعمال الحرف في أكثر من واحد أوضح من جواز استعمال الاسم كذلك ; لما عرفت من تبعيّـة المقتضيـة لسرايـة مدلولـه إليـه ، كما هو واضح .
- 1 ـ لاحظ معالم الدين: 125 ـ 130، مقالات الاُصول 1: 475.
(الصفحة 333)
بل يمكن أن يقال بعدم استلزام الرجوع إلى الجميع ; لتعدّد الإخراج حتّى يبتنى على القول بجواز استعمال الحروف في أكثر من معنى .
أمّا فيما كان المستثنى مشتملاً على الضمير : فلأنّ الموضوع لـه في باب الضمائر هو الإشارة إلى مرجعـه ، ومن الممكن أن يكون في المقام إشارة في جميع الجُمل المتقدّمـة ، ويكون الإخراج واحداً ، ولايلزم تجوّز في ناحيـة الضمير في أكثر من معنى واحد ; لأنّ الإشارة واحدة وإن كان المشار إليـه كثيراً .
وأمّا فيما إذا لم يكن مشتملاً على الضمير : فلأنّ استعمال المستثنى أكثر من واحد لايوجب أن يكون الإخراج متعدّداً حيث يلزم استعمال أداة الاستثناء في أكثر من واحد كما هو .
المقام الثاني: في مقام الإثبات
إذا عرفت ذلك ، فاعلم أ نّـه قد يقال ـ كما في تقريرات المحقّق النائيني ـ بأنّ التحقيق يقتضي التفصيل بين ما إذا كانت الجُمل المتعدّدة المتقدّمـة مشتملةً على عقد الوضع بأن يكون ذلك مكرّراً في جميعها وبين ما إذا لم يكن كذلك ، بل كان ذكر عقد الوضع منحصراً بصدر الكلام ، كما إذا قيل : أكرم العلماء وأضفهم وأطعمهم إلاّ فسّاقهم ، بأن يقال برجوعـه إلى الجميع دون خصوص الأخيرة في الثاني ، وبرجوعـه إلى خصوصها في الأوّل .
وا لسرّ في ذلك : أ نّـه لابدّ من رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع لا محا لـة ، فإذا لم يكن مذكوراً إلاّ في صدر الكلام ، فلابدّ من رجوعـه إليـه ، بخلاف ما إذا كان تكراره في الجملـة الأخيرة يوجب أخذ الاستثناء محلّـه من الكلام ، فيحتاج
(الصفحة 334)
تخصيص الباقي إلى دليل آخر مفقود على الفرض(1) .
أقول:
لايخفى أنّ ما ذكره من أ نّـه لابدّ من رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع مخا لف لما ذكروه في قبال أبي حنيفـة من أنّ الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي ، فإنّ مرجع ذلك إلى رجوع الاستثناء إلى عقد الحمل ، والحكم المذكور في الكلام ، وإلاّ لم يكن الاستثناء من النفي إثباتاً أصلاً ، وكذا العكس ، فلابدّ من القول برجوعـه إلى الحكم ، وحينئذ فيتّجـه التفصيل بين ما إذا كان عقد الحمل متكرّراً أو واحداً .
وتفصيلـه بملاحظـة ما عرفت أنّ المستثنى قد يكون مشتملاً على الضمير ، وقد لايكون ، وعلى التقدير الأوّل :
فتارة:
يكون عقد الوضع أيضاً واحداً وعقد الحمل متكرّراً ، غايـة الأمر أنّ عقد الوضع في غير الجملـة الاُولى إنّما اُفيد با لضمير سواء كان المستثنى أيضاً مشتملاً على الضمير ، كما في المثال المذكور في كلامـه ، أو لم يكن ، كما لو حذف الضمير في المثال من المستثنى .
وا لظاهر في هذا القسم الرجوع إلى الجميع ، لا لما ذكره ، بل لأنّ ظاهر اتّحاد السياق يقتضي أن يكون مثل الجُمل المشتملـة على الضمير في عوده إلى الاُولى ، كما لايخفى .
واُخرى:
يكون با لعكس ، مثل قولـه : أضف العلماء والتجّار والهاشميّين إلاّ فسّاقهم .
وا لظاهر في هذا القسم أيضاً الرجوع إلى الجميع ; لكون عقد الحمل غير متعدّد .
- 1 ـ أجود التقريرات 1: 496 ـ 497.