(الصفحة 106)
العرف ، فحمل تلك الروايات على كثرتها على الضمان المعهود المغروس في أذهان العقلاء حمل قريب جدّاً ، موافق لفهم العرف والعقلاء .
قال : بل الظاهر من حديث اليد غير ما أفاده المحقّقون ، ممّا لازمه التعرّض لأداء التالف حتّى يلتزم بأنّ أداء المثل والقيمة أداء للشيء بنحو ، كما أشرنا إليه . والتحقيق : أنّ الغاية المذكورة فيه غاية للضمان ، والعهدة في زمان وجود العين ; فإنّ قوله (صلى الله عليه وآله) : «على اليد ما أخذت» يراد منه أنّ الآخذ ضامن للمأخوذ ; بمعنى أنّه لو تلف تكون خسارته عليه ، وغاية هذا الأمر التعليقي ـ أي عهدة الخسارة على فرض التلف ـ هو أداء نفس العين ليس إلاّ(1) .
أقول : يرد عليه ـ مضافاً إلى ما عرفت من الفرق بين الثبوت على العهدة الذي هو معنى الضمان ، وبين اشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة ، وإلى أنّ الظّاهر أنّه لا فرق عند العقلاء والعرف فيما يرجع إلى معنى الضمان بين صورة وجود العين ، وصورة تلفها وانعدامها بحيث يكون معنى الضمان في صورة البقاء ثبوت نفس العين على العهدة ، وفي صورة التلف ثبوت المثل أو القيمة على العهدة بحيث يكون ثبوت نفس العين في هذه الصورة مخالفاً لنظر العرف ـ أنّ ظاهر قوله : «من أتلف مال الغير فهو له ضامن»(2) فرض الضمان في صورة التلف مع إضافته إلى المتلف ـ بالفتح ـ ولا معنى له إلاّ كون العين بوجودها الاعتباري بعد التلف ثابتة على عهدة المتلف ـ بالكسر ـ .
فالتعبير بالضمان في قاعدة الإتلاف يرشدنا إلى عدم كون ضمان العين محدوداً ببقائها وعدم تلفها ، بل هو ثابت بعد التلف أيضاً ، ولا يجتمع ذلك إلاّ مع اعتبار بقاء
- (1) كتاب البيع : 1 / 506 ـ 508 .
(2) لم نجده في كتب الحديث بهذا اللّفظ ، فمن المحتمل قويّاً كونه من الروايات الواردة في موارد مختلفة ، مثل ما ورد في وسائل الشيعة : 27 / 327 ، كتاب الشهادات ب 11 .
(الصفحة 107)
العين وثبوتها على العهدة بعد التلف أيضاً ، وجعل الأداء في حديث «على اليد» غاية للضمان في زمان وجود العين فقط ، يوجب حمل الحديث على التعرّض لبعض ما يتعلّق بضمان العين المأخوذة ، وهو خلاف الظاهر جدّاً ، كما لا يخفى .
وخلاصة ما يرد على سيّدنا الاُستاذ ـ دام ظلّه العاليـ أنّ الضمان بالمعنى الذي أفاده ـ وهو عهدة الخسارة ـ هل هو أمر تعليقي وهو عهدة الخسارة لو تلف ، بحيث تكون التعليقية دخلية في ماهيّته وحقيقته ، حتى لو فرض تحقّق المعلّق عليه لا تبقى ماهية الضمان ، كالواجب المشروط مثل الحجّ ، فإنّ اتصافه بكونه واجباً مشروطاً إنّما هو فيما إذا لم يتحقّق شرطه ; وهو الاستطاعة في المثال ، فإذا تحقّق الشرط يصير واجباً مطلقاً فعليّاً ، وفي المقام لابدّ أن يقال بالضمان مادام لم يتحقّق التلف ، فإذا تحقّق وصارت العهدة منجّزة يخرج عن الضمان .
وعليه : فاللازم أن يقال بأنّه لا مجال للحكم بالضمان في صورة التلف ، مع أنّ قاعدة الإتلاف صريحة في إثبات الحكم بالضمان بعد تحقّق التلف بسبب الإتلاف ; فإنّ الإتلاف في رتبة السبب ، والضمان في رتبة المسبّب ومتفرّع عليه ، مضافاً إلى ما عرفت من أنّه لا فرق عند العقلاء والعرف بين صورة وجود العين وصورة تلفها في الحكم بالضمان ، بل في كون الضمان بعد التلف نفس الضمان قبله وبمعناه ، من دون تغيّر في معناه أصلا .
وإن كان مراده من الضمان نفس عهدة الخسارة من دون التعليق على التّلف ، وعليه فهو ثابت بعد التلف أيضاً ، فنقول : لابدّ على هذا الاحتمال من حمل الضمان في قاعدة الإتلاف المفروضة بعد التلف على كون المراد به مجرّد عهدة الخسارة ، مع أنّه من الواضح أنّ عهدة الخسارة حينئذ لا تكون معنى مغايراً لاشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة ; لعدم الفرق بين الأمرين إلاّ في مجرّد التعبير واللفظ ; إذ لا معنى لعهدة الخسارة غير الاشتغال المزبور .
(الصفحة 108)
وعليه : فاللازم إطلاق الضمان في موارد اشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة ، كما في القرض ونحوه ، مع أنّك عرفت مغايرة الضمان للاشتغال عند العقلاء ; فإنّ ما على الذمة إنّما هو أمر كلّي ، والضمان متعلّق بالأمر الجزئي ، ولا يطلق أحد العنوانين على الآخر ، فلا يقال للمديون : إنّه ضامن ، ولا يقال للضامن : إنّه مديون ومشغول الذمّة ولو بعد تحقّق التلف ، كما في مورد قاعدة الإتلاف ومجريها ، إذن فلا محيص عن أن يقال في مفاد حديث «على اليد» بعد فرض دلالته على الضمان ، بكون العين المأخوذة متعلّقة للعهدة في كلتا الحالتين : حالة الوجود وحالة التلف .
غاية الأمر أنّه بعد التلف يعتبر بقاء العين عند العقلاء وكونها متعلّقة للعهدة ، ولا مانع من كون الموضوع للأمر الاعتباري ـ وهو الضمان ـ أمراً اعتباريّاً آخر ، كالأحكام التكليفيّة الثابتة في موارد الأحكام الوضعية ، مع اشتراكهما في الاعتبار والجعليّة .
ومنه يظهر أنّ أداء العين المجعول غاية للضمان ـ في الحديث ـ مطلقاً ، إنّما يتحقّق بأدائها بنفسها مع بقائها ، وبالمثل أو القيمة مع التلف ، فإنّه بعد فرض ثبوتها على العهدة ، وتعلّق الضمان بنفسها بعد التلف أيضاً ، لا يفرض له أداء إلاّ أداء مثلها أو قيمتها كما هو كذلك عند العقلاء ، فإنّه مع عدم إمكان أدائها بجميع جهاتها من المزايا الشخصية والنوعية والمالية ، ينتقل إلى المراتب النازلة مرتبة بعد مرتبة ، إلى أن يتحقّق أداؤها بخصوص المرتبة المالية التي هي العمدة في أغراض العقلاء في باب الأموال .
ومما ذكرنا ظهر الجواب عن النراقي ـ في عوائده(1)ـ حيث استظهر أنّ الغاية هي أداء نفس العين ، وهو لا يتحقّق إلاّ بحمل الحديث على وجوب الحفظ دون الضمان ، فتدبّر .
- (1) عوائد الأيّام : 318 .
(الصفحة 109)
إذا ظهر ذلك يظهر أنّ تفسير الحديث بالمعنى الذي عرفت ; وهو إفادة الضمان والثبوت على العهدة لا يتوقّف على تقدير كلمة «الضمان» كما تخيّله النراقي (قدس سره) في عوائده ; حيث جعل الضمان في رديف الحفظ أو الردّ على تقدير كون المقدّر هو الوجوب الذي هو من أفعال الخصوص ، فاستشكل في ترجيحه ; حيث قال ما ملخّصه : إنّ الاستدلال بالحديث على ضمان المثل أو القيمة بعد التلف إنّما هو على فرض تقدير الضمان الشامل لردّ العين مع البقاء ، والمثل أو القيمة مع التلف ، ولا دليل على تعيينه أصلا .
واستدلال الفقهاء واحتجاجهم على الضمان خلفاً بعد سلف وفهمهم ذلك ، لا يدلّ على أنّه كان لهم قرينة على تقديره وإن خفيت علينا ; لأنّه ـ مضافاً إلى أنّه لم يعلم ذلك من جميع الفقهاء ولا أكثرهم وإن علم من كثير منهم ـ لا يدلّ على أنّه لقرينة تقدير الضمان ، بل لعلّه لاجتهادهم تقدير جميع المحتملات عند عدم تعيّن المقدّر ، أو لمظنّة شيوع تقديره ، أو لدليل اجتهادي آخر . ونمنع كون المتبادر من هذا التركيب إثبات الضمان ، كما يظهر بالرجوع إلى أمثال هذا التركيب التي ليس الذهن فيها مسبوقاً بالشبهة ، مع أنّه على فرض التسليم لا يفيد ; لأصالة تأخّر حدوث التبادر بعد عدم كون ذلك من مقتضى الوضع اللغوي لهذا التركيب(1) .
وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ حمل الحديث على الضمان وتفسيره به لا يحتاج إلى تقدير الضمان ; لأنّ معنى الضمان هو نفس الثبوت على العهدة والاستقرار في الذمّة ، الذي هو وجود وثبوت في عالم الاعتبار ووعائه ، وهذا بخلاف ما لو كان المتعلّق للظرف هو «يجب» الذي هو من أفعال الخصوص ; فإنّه حينئذ يلزم تقدير الردّ أو الحفظ ; لعدم إمكان تعلّق الوجوب بالأعيان الخارجيّة .
كما أنّه ممّا ذكرنا ظهر بطلان ما أفاده في ذيل كلامه أيضاً ، من أنّ أداء المثل أو
- (1) عوائد الأيّام : 316 ـ 317 .
(الصفحة 110)
القيمة ليس أداء ما أخذت ، بل أداء شيء آخر ، وإطلاق الأداء على أداء غير ما أخذت غير صحيح ، فلا يكون «حتّى تؤدّي» غاية للضمان في صورة التّلف .
والوجه فيه ما ذكرنا من أنّه كما أنّ ثبوت المال على العهدة يكون في وعاء الاعتبار الذي يتفق فيه العقلاء والشارع ، كذلك غاية هذا الأمر الاعتباري هو الأداء الذي له مراتب ، فإن كانت العين موجودة غير تالفة ، فالأداء لا يتحقّق إلاّ بأدائها نفسها ، وإن صارت تالفة فأداؤها بأداء مثلها إن كانت مثلية ، أو قيمتها إن كانت قيميّة .
وبالجملة : أداء المثل مرتبة من أداء ما على العهدة ; وهي العين الخارجية . غاية الأمر أنّه لا ينتقل إلى هذه المرتبة إلاّ بعد تعذّر أداء العين بنفسها ، كما أنّ أداء القيمة أيضاً مرتبة من أداء العين ينتقل إليها بعد تعذّر أدائها بنفسها وبخصوصياتها النوعية ، فدعوى خروج المرتبتين الأخيرتين عن دائرة أداء العين ممنوعة جدّاً ، وعليه : تكون كلمة «حتّى تؤدّي» شاملة لجميع المراتب .
ثمّ إنّ مقتضى ما ذكرنا من كون مفاد الحديث هو مجرّد الحكم الوضعي ـ وهو الضمان الذي يستمرّ إلى أن يتحقّق الأداء ـ أنّه لا دلالة لهذا الحديث على لزوم حفظ المال المأخوذ ، كما أنّه لا دلالة له على لزوم ردّه ووجوبه بعنوان الحكم التكليفي ; لأنّ هذا الوجوب وإن كان ثابتاً إلاّ أنّ الدليل عليه كونه أثراً للضمان كما عرفت ، وجعل الأداء غاية للضمان لا دلالة له على وجوبه بعنوان الحكم التكليفي ابتداءً ، بل غايته ارتفاع الضمان بسببه ، فيرتفع الحكم التكليفي المترتّب عليه لا محالة .
الجهة الثانية : في محدودة الحكم بالضمان المستفاد من القاعدة :
والبحث في هذه الجهة تارة : من جهة أنّ اليد المحكوم عليها بالضمان ـ بعد وضوح عدم شمولها ليد المالك ; لأنّه لا معنى لكونه ضامناً لمال نفسه ـ هل هي مطلق اليد ولو كانت مأذونة من قبل المالك ، كيد الوكيل مثلا ، أو المستأجر في باب