(الصفحة 132)
على أنّ الاعتبار بخصوص يوم التلف ، أو يوم الغصب ، أو أعلى القيم منه إليه .
ويرد عليه ما عرفت سابقاً(1): من أنّ المستفاد من الحكم بالضمان في قاعدة الإتلاف ـ التي مرجعها إلى كون الضمان مترتّباً على الإتلاف ، وأنّ الإتلاف سبب للضمان ومتقدّم عليه ولو رتبة ـ أنّه لا يعتبر في الحكم بالضمان مطلقاً بدواً واستمراراً وجود العين وعدم عروض التلف لها ، فالعين وإن كانت تالفة تكون معروضة لوصف المضمونيّة ومتعلّقه للضمان ، وحينئذ نقول : إنّ لازم اعتبار قيمتها حال الوجود لعدم اعتبار القيمة حال التلف أن يكون اللازم القيمة في حال عدم تحقّق الضمان ; وهو حال الوجود ، فيصير مثل ما إذا قيل في الغصب باعتبار قيمة قبل الغصب ، مع أنّه لم يقل به أحد ولا يحتمله القاعدة بوجه .
والحقّ أنّ القيمة اللازمة هي قيمة العين التي اعتبر وجودها في عالم التشريع وثبوتها وبقاؤها على العهدة ، وقد عرفت(2) أنّ مقتضى القاعدتين ـ قاعدة الإتلاف وقاعدة التلف التي هي المبحوث عنها في المقام ـ بقاء نفس العين على العهدة وثبوتها على اليد ، وأنّ الانتقال إلى القيمة إنّما هو في مرحلة الأداء الذي له مراتب متعدّدة ودرجات مختلفة ، واللازم حينئذ أن يؤدّي قيمة يوم الأداء ; لأنّه يوم الانتقال إلى القيمة والبدل ، والذي تضاف إليه القيمة هي نفس العين الثابتة على العهدة وإن كانت غير موجودة في الخارج ، فالإنصاف أنّه لا مجال للرجوع عمّا أفاده المحقّق الخراساني (قدس سره) واختاره جملة من أجلاّء تلامذته من كون اللازم بمقتضى القاعدة هي قيمة يوم الأداء والدّفع .
ثم إنّه ورد في هذا المجال رواية صحيحة في باب الغصب ـ الذي هو أظهر مصاديق القاعدة المبحوث عنها في المقام ـ لابدّ من ملاحظتها ، وأنّه هل يستفاد
- (1، 2) في ص 49، 129 ـ 130 .
(الصفحة 133)
منها غير ما تفيده القاعدة من القيمة يوم الأداء على ما استظهرنا منها أم لا؟ وأنّه على التقدير الأوّل كيف يجمع بينهما؟
فنقول : هي صحيحة أبي ولاّد قال : اكتريت بغلا إلى قصر ابن هبيرة ذاهباً وجائياً بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريم لي ، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل ، فتوجّهت نحو النيل ، فلمّا أتيت النّيل خبّرت أنّه توجّه إلى بغداد ، فاتبعته فظفرت به وفرغت فيما بيني وبينه ورجعت إلى الكوفة ، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوماً ، فأخبرت صاحب البغل بعذري ، وأردت أن أتحلّل منه فيما صنعت وأرضيه ، فبذلت له خمسة عشر درهماً فأبى أن يقبل ، فتراضينا بأبي حنيفة وأخبرته بالقصّة وأخبره الرجل ، فقال لي : ما صنعت لبغل؟ فقلت : قد رجّعته سليماً ، قال : نعم ، بعد خمسة عشر يوماً ، قال فما تريد من الرجل؟ قال : أريد كراء بغلي ، فقد حبسه عليّ خمسة عشر يوماً ، فقال : إنّي ما أرى لك حقّاً ; لأنّه اكتراه إلى قصر بني هبيرة ، فخالف فركبه إلى النيل وإلى بغداد فضمن قيمة البغل وسقط الكراء ، فلمّا ردّ البغل سليماً وقبضته لم يلزمه الكراء .
قال فخرجنا من عنده وجعل صاحب البغل يسترجع ، فرحمته ممّا أفتى به أبو حنيفة وأعطيته شيئاً وتحلّلت منه ، وحججت تلك السّنة فأخبرت أبا عبد الله (عليه السلام) بما أفتى به أبو حنيفة ، فقال : في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السّماء ماءها وتمنع الأرض بركتها .
قال : فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام) فما ترى أنت؟ فقال : أرى له عليك مثل كراء البغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل ، ومثل كراء البغل من النيل إلى بغداد ، ومثل كراء البغل من بغداد إلى الكوفة وتوفّيه إيّاه .
قال : قلت : جعلت فداك قد علّفته بدراهم فلي عليه علفه؟ قال : لا ، لأنّك غاصب ، فقلت : أرأيت لو عطب البغل أو أنفق أليس كان يلزمني؟ قال : نعم ، قيمة
(الصفحة 134)
بغل يوم خالفته ، قلت : فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو عقر ، فقال : عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه ، قلت : فمن يعرف ذلك؟ قال : أنت وهو ، إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك ، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا فيلزمك .
فقلت : إنّي أعطيته دراهم ورضي بها وحلّلني ، فقال : إنّما رضي فأحلّك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم ، ولكن ارجع إليه وأخبره بما أفتيتك به ، فإن جعلك في حلّ بعد معرفته فلا شيء عليك بعد ذلك(1) .
وتنكير البغل في قوله (عليه السلام) : «قيمة بغل يوم خالفته ، إنّما هو في نسخة الوسائل ، والمحكي عن بعض نسخ الكافي والتهذيب هو «البغل» معرّفاً ، وهو الظّاهر ، كما أنّ المحكيّ عن صاحب الجواهر أنّه قال : إنّ الموجود فيما حضرني من نسخة التهذيب الصحيحة المحشّاة «تردّه عليه» من دون لفظ «يوم»(2) .
وربّما يقال بدلالة الصحيحة على أ نّ المدار في القيمة هي قيمة يوم الغصب والأخذ والاستيلاء ، وذلك في موضعين منها :
أحدهما : قوله (عليه السلام) : «نعم قيمة بغل يوم خالفته» وقد أفاد الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في وجه دلالة هذه الفقرة على كون المدار هي القمية يوم الغصب وجهين :
الأوّل : إضافة القيمة المضافة إلى البغل إلى يوم خالفته ثانياً ، فيكون المضاف واحداً والمضاف إليه متعدّداً في عرض واحد ، ويصير المعنى قيمة بغل قيمة يوم
- (1) الكافي : 5 / 290 ح 6 ، تهذيب الأحكام : 7 / 215 ح 943 ، الاستبصار : 3 / 134 ح 483 ، وعنها وسائل الشيعة : 19 / 119 ، كتاب الإجارة ب 17 ح 1 و ج 25 / 390 ، كتاب الغصب ب 7 ح 1 .
(2) جواهر الكلام : 37 / 102 .
(الصفحة 135)
خالفته ، ومن الواضح أنّ المراد بالمضاف إليه الثاني هو يوم الغصب والأخذ(1) .
واُورد عليه تارة : بأنّ المضاف إلى شيء لا يضاف إلى شيء آخر ثانياً ، وأنهّ محال من جهة استلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في استعمال ولحاظ واحد وهو مستحيل . ذكر ذلك المحقّق الخراساني (قدس سره) في حاشية المكاسب ، حيث قال : فيه إشكال ; فإنّ إضافة المضاف بما هو مضاف ثانياً يستلزم أن يكون الإضافة بما هي إضافة ملحوظة باللحاظ الآلي طرفاً لها وملحوظة على الاستقلال ، فإنّها من مقوّماته في الإضافة الثانية ، ولو كان المراد إضافته ثانياً ، لا بما هو كذلك ، أي مضاف يلزم أن يكون حين التلفظ به طرفاً لهذا على حدة ، ولذاك كذلك ، وهذا يستلزم أن ينظر إليه ذلك الحين بالنظرين المتبائنين (2) .
واُخرى : بأنّه على فرض الجواز لا يكون ذلك معهوداً في تراكيب الكلام والجمل العربية ، خصوصاً في مقام الإفتاء الذي يناسبه التعبير المتداول والاستعمال المتعارف ، وخصوصاً إذا كان في مقابل إفتاء آخر غير مطابق للواقع ، وهو إفتاء أبي حنيفة بغير ما أنزل الله تعالى . نعم ، لا مانع من تتابع الاضافات الذي مرجعه إلى إضافة المضاف إليه إلى المضاف إليه الآخر ، واضافته أيضاً إلى ثالث وهكذا ، كما ورد في الكتاب : {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوح}(3) ولكنّه غير ما أفاده (قدس سره) (4) .
وقد وجّهه السيّد الطّباطبائي في حاشيته على المكاسب : أ نّ قيد المضاف إليه إذا لم يكن له ثمر إلاّ بجعله قيداً للمضاف يكون الغرض من الإضافة هذا التقييد ، وفي المقام كذلك ، فإنّ تقييد البغل بيوم المخالفة من حيث هو لا معنى له ، فلابدّ أن
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 247 .
(2) حاشية المكاسب للمحقق الخراساني : 41 .
(3) سورة غافر 40 : 31 .
(4) اُنظر القواعد الفقهيّة للبجنوردي : 4 / 80 ـ 81 ومنية الطالب في شرح المكاسب : 1 / 311 ـ 313 .
(الصفحة 136)
يكون الغرض من ذلك كونه قيداً للقيمة ; يعني يوم المخالفة للبغل ، وذلك كما إذا قيل : «ضرب زيد يوم الجمعة» فإنّ إضافة زيد إلى اليوم لا معنى له إلاّ أن يكون الغرض منه تقييد الضرب به(1) .
ويرد عليه : وضوح الفرق بين المقيس والمقيس عليه ; فإنّ تقييد زيد بيوم الجمعة وإن كان لا معنى له ، إلاّ أنّ تقييد البغل بيوم المخالفة لا مانع منه ; لاختلاف حالاته من جهة السمن والهزال والصحة والمرض وغيرهما ، ومن جهة تفاوت القيمة السوقية والاختلاف من هذه الناحية ، مع أنّ هذا التوجيه يرجع إلى الوجه الثاني المذكور في كلام الشيخ الذي يجيء ، وعليه : فلا يبقى فرق بين الوجهين .
الثاني : كون الظرف قيداً للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل(2) ، فيكون المعنى قيمة مختصّة بالبغل يوم المخالفة ، بحيث كان يوم المخالفة متعلقاً بمختّصة ، ولا مانع منه بعد كونه شبه فعل ، ويجوز أن يكون عاملا في الظرف ، وحينئذ يكون الظرف مفتوحاً ، كما أنّه في الصورة الاُولى يكون مجروراً ، ومن المعلوم أنّ القيمة المختصة بالبغل يوم المخالفة هي قيمة يوم الغصب والأخذ .
واُورد عليه : بأنّ اختصاص الحاصل من الإضافة معنى حرفي وملحوظ آليّ ، فلا يمكن أن يرد عليه القيد ; لأنّ المعاني الحرفية ليست قابلة للتقييد ; للزوم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي واحد ولحاظ فارد .
ولكنّا قد حقّقنا في البحث عن الحروف في علم الاُصول أنّه لا مانع من ذلك وأنّ أكثر التقييدات الواقعة في الاستعمالات والمحاورات إنّما يرجع إلى تقييد المعاني الحرفية ، فقولك : «ضرب زيد يوم الجمعة عند الأمير» يكون القيدان فيه راجعين إلى وقوع الضرب على زيد ، وهو من المعاني الحرفية غير المستقلّة ، بخلاف نفس
- (1) حاشية المكاسب للسيد اليزدي : 1 / 504 .
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 247 .