(الصفحة 247)
الرّابع : دليل الاعتبار أو مناسبة الحكم والموضوع ; بمعنى أنّ شرف الإسلام وعزّته يقتضي أن لا يجعل في أحكامه وشرائعه ما يوجب ذلّ المسلم وهوانه ، وقد حصر الله ـ تعالى ـ في كتابه العزيز العزّة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين(1) ، وعليه : فكيف يمكن أن يجعل الله حكماً يكون سبباً لعلوّ الكفّار على المسلمين ، ومنافياً للعزّة الموجودة فيهم المنحصرة بهم؟ وهذا ليس من باب إعمال الظنّ في استخراج الحكم الشرعي حتى يقال : إنّ الأصل في الظنّ عدم الحجية والاعتبار إلاّ إذا قام دليل عليه ، بل من باب تنقيح المناط القطعي ، بل يكون استظهاراً من الأدلّة اللفظية على ما عرفت .
قال المحقق البجنوردي (قدس سره) بعد ذكر هذا الدليل : وعندي أنّ هذا الوجه أحسن الوجوه للاستدلال على هذه القاعدة ; لأنّه ممّا تركن النفس إليه ويطمئنّ الفقيه به(2) .
أقول : الظاهر أنّ هذا الوجه أيضاً لا ينطبق على جميع موارد القاعدة ; فإنّ مثال التزويج المتقدّم من موارد القاعدة على حسب قولهم ، مع أنّه لا يكون فيه ذلّ بوجه ; فإنّ الزوجية المتقوّمة بالطرفين المفتقرة إلى رضا كليهما كيف تكون مستلزمة للذلّ والهوان إذا أرادت المؤمنة أن تزوّج نفسها من الكافر؟ فهل إرادة التزويج من ناحية المرأة إرادة للوقوع في المذلّة ، أم هي متاع يشتريها الزوج بأغلى الثمن؟ كما في بعض الروايات الواردة في جواز النظر إليها قبل العقد(3) ، وكون الطلاق بيد الزوج الذي هو من أخذ بالساق(4) لا يوجب كون التزويج هواناً وذلاًّ .
- (1) سورة المنافقون 63 : 8 .
(2) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 1 / 192 .
(3) وسائل الشيعة : 20 / 87 ـ 90 ، كتاب النكاح ، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب 36 ح 1 ، 7 و 11 .
(4) المعجم الكبير للطبراني : 17 / 179 ح 473 ، العلل المتناهية : 2 / 646 ح 1071 ، مجمع الزوائد : 4 / 334 ، كنز العمال : 9 / 640 ح 27770 ، مستدرك الوسائل : 15 / 306 ، كتاب الطلاق ، أبواب مقدّماته وشرائطه ب 25 ح 18329 .
(الصفحة 248)
الخامس : ما دلّ على وجوب التعظيم للشعائر وحرمة الإهانة من العقل والنقل ; فإنّ الشارع إذا حرّم على الناس إهانة الشعائر ومنها المؤمن ، فكيف يرضى بتسلّط الكافر عليه ، مع أنّ فيه من الإهانة ما لا يخفى .
ويرد على هذا الوجه ما ورد على الوجه السابق .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذا المقام تماميّة بعض الأدلّة التي استدلّ بها على القاعدة وإن كان بعضها الآخر مخدوشاً كما عرفت ، فلا مجال للمناقشة فيها من حيث الدّليل .
المقام الثاني : في مفاد القاعدة ، قد ظهر ممّا ذكرنا في المقام الأوّل ، خصوصاً ما مرّ(1) في تقريب دلالة آية نفي السبيل ، أنّ مفاد القاعدة أنّه لم يجعل في الشريعة الإسلامية حكم يوجب ثبوت السبيل للكافر على المؤمن وعلوّه بالإضافة إليه ، فكلّ ما يرى خلافه من مفاد الأدلّة الأوّلية الدالّة بعمومها أو إطلاقها على تحقّق السبيل والعلوّ فهو غير مجعول لله تبارك وتعالى ، فنسبة القاعدة إلى تلك الأدلّة نسبة دليل الحاكم الناظر إلى الدليل المحكوم الشارح له والمبيّن للمراد منه سعة وضيقاً ، كنسبة قاعدة نفي الحرج إلى الأدلّة الأوّلية من دون فرق بينهما أصلا .
فكلّ ما يوجب ثبوت سبيل الكافر على المؤمن بأيّ نحو كان فهو غير مجعول في الشريعة ، وإن كان مقتضى الأدلّة الأوّلية الثبوت ، فآيات الإرث وإن كانت مطلقة من جهة الوارث ، إلاّ أنّ قوله (صلى الله عليه وآله) في رواية : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه (2)، والكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يرثون ، يوجب تضييق دائرتها واختصاص الإرث بالوارث المسلم إذا كان المورِّث مسلماً .
- (1) في ص 240 .
(2) تقدّمت في ص 243 .
(الصفحة 249)
المقام الثالث : في موارد تطبيق القاعدة ، وهي وإن كانت كثيرة في مختلف أبواب الفقة ، إلاّ أنّا نقتصر على إيراد جملة منها ، فنقول :
منها : تملّك الكافر للعبد المسلم بأيّ نحو من أنحاء التملّك الاختياري ; سواء كان بالبيع أو الشراء ، أو بمثل الصلح والهبة وغيرهما من النواقل الشرعية ; فإنّ هذا التملّك غير جائز بمقتضى قاعدة نفي السبيل ; لأنّ التملّك من أوضح مصاديق السبيل المنفي في القاعدة ، وكذا من أظهر أفراد العلوّ ، فهو غير مجعول وغير ممضى في الشريعة .
ولأجله لو وقع تملّكه له قهراً ـ كما إذا انتقل إليه بالإرث من المورّث الكافر الذي لم يتحقق البيع عليه قهراً بعد ، أو أسلم العبد الكافر في ملك مولاه الكافر ـ لا يقرّ يده عليه ، بل يباع عليه قهراً وإن كان المولى غير راض به ، كما يدلّ عليه مرسل حماد بن عيسى ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اُتي بعبد ذمّي قد أسلم ، فقال : اذهبوا فبيعوه من المسلمين وادفعوا ثمنه إلى صاحبه ولاتقرّوه عنده(1) ، وهذه الرواية متعرّضة لحكم كلا التملّكين : الاختياري ، والقهري . أمّا الأوّل : فقوله (عليه السلام) : «فبيعوه من المسلمين» ، الظاهر في عدم جواز البيع من الكافر ، وأمّا الثاني : فهذا القول أيضاً بلحاظ الأمر بالبيع قهراً على مولاه ، وقوله (عليه السلام) : «ولا تقرّوه عنده» .
وفي هذا المورد من موارد تطبيق القاعدة جهات من البحث :
الاُولى : أنّه ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) أنّ هذه القاعدة معارضة بعموم أدلّة صحة البيع(2) ، ووجوب الوفاء بالعقود(3) ، وحلّ أكل المال بالتجارة عن
- (1) الكافي : 7 / 432 ح 19 ، تهذيب الأحكام : 6 / 287 ح 795 ، النهاية : 349 ح 2 ، وعنها وسائل الشيعة : 17 / 380 ، كتاب التجارة ، أبواب عقد البيع وشروطه ب 28 ح 1 .
(2) مثل : (أحلّ الله البيع) سورة البقرة 2 : 275 .
(3) سورة المائدة 5 : 1 .
(الصفحة 250)
تراض(1) ، وعموم الناس مسلّطون على أموالهم(2)(3) .
مع أنّك عرفت في المقام الثاني أنّ هذه القاعدة ـ كقاعدة نفي الحرج ـ حاكمة على الأدلّة الأوّلية الدالّة بعمومها أو إطلاقها على ثبوت السبيل والعلوّ للكافر على المسلم ، فدليل صحة البيع وإن كان يشمل بإطلاقه هذا البيع ، إلاّ أنّ مقتضى حكومة هذه القاعدة الالتزام بعدم كون إطلاقه مراداً للمولى ، وإن كان ثابتاً بمقتضى اللفظ ، فلا مجال حينئذ لدعوى المعارضة بعد ثبوت الحكومة ووضوح تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم ، كما قد حقّق في محلّه من علم الاُصول .
الجهة الثانية : الظاهر أنّ مرسلة حمّاد المتقدّمة الدالّة على لزوم بيع العبد المسلم للذمّي من المسلمين بمنزلة المفسّر للآية الدالّة على أنّه تعالى لن يجعل سبيلا للكافر على المؤمن ، بعد وضوح كونها آبية عن التخصيص ، ومقتضى تفسيرها لها أنّ نفس الملكية لا تكون سبيلا ، بل السّبيل هي الملكية المستقرّة ; بمعنى أنّ الشارع لم يرض ببقاء ملك الكافر للعبد المسلم ، ولذا أوجب على الحاكم بيعه من المسلمين ودفع ثمنه إليه ، ويدلّ عليه قوله (عليه السلام) : «ولا تقرّوه عنده» الظاهر في أنّ المبغوض هو إقراره عنده .
وأمّا حمل السبيل على السلطنة غير المنافية للملكية ـ غاية الأمر كون المالك محجوراً عليه في التّصرّف مجبوراً على بيعه ، كما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره) في كتاب المكاسب(4) ـ فمّما لا دليل عليه ، مضافاً إلى أنّ الكافر لا يكون محجوراً عليه في التصرّف كالصغير ; لأنّه لو أراد بيع عبده بنفسه يكون بيعه صحيحاً ، بخلاف
- (1) سورة النساء 4 : 29 .
(2) عوالي اللئالي : 1 / 222 ح 99 و ص 457 ح 198 ، و ج 2 / 138 ح 383 و ج 3 / 208 ح 49 .
(3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 585 .
(4) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 585 .
(الصفحة 251)
الصغير إذا أراد بيع عبده ، وإلى أنّ نفس الملكية مع الاستقرار سبيل على الظاهر وعلوّ قطعاً . نعم ، يبقى على ما ذكرنا أمران :
أحدهما : أنّ لازم ما ذكرنا أن لا يكون تملّك الكافر للعبد المسلم غير جائز ; لأنّ المفروض أنّ المنفي هي الملكية المستقرّة لا أصل الملكية ، مع أنّه خلاف الفتاوى .
ثانيهما : أنّ مقتضى الرواية لزوم البيع عليه والنهي عن إقراره عنده ، وهذا لا ينافي ثبوت الملكية المستقرة ; لأنّه لو فرض عدم تحقق البيع عصياناً أو لعدم وجود المشتري مثلا يكون العبد باقياً على ملك الكافر ، وقد عرفت فرض إرث الكافر العبد المسلم من المورّث الكافر ، فالرواية الدالّة على الأمر والنهي المتقدمين لا تنفي الملكية المستقرّة .
والجواب عن الأمر الأوّل : أنّه لا ملاءمة بين الحكم بجواز التملّك ، وبين الحكم بلزوم البيع عليه والنهي عن إقراره عنده ، فمن ثبوت الثاني كما هو المذكور في الرّواية يستكشف عدم ثبوت الأوّل ، وهذا بخلاف العبد المنعتق على المشتري بمجرّد الاشتراء ، فإنّ الانعتاق لا ينافي الحكم بصحة الاشتراء ، بل هو مترتّب عليها ومتفرّع على تحققّها ، بخلاف المقام الذي لا يجتمع الحكم فيه بصحة البيع من الكافر مع الحكم بلزوم البيع عليه فوراً ، كما لا يخفى ، مضافاً إلى ظهور الرواية في اختصاص جواز البيع بالمسلمين .
وقد أجاب المحقق البجنوردي (قدس سره) عن الوجه الثاني بالالتزام بالتخصيص ; بمعنى أنّ الرواية تكون مخصّصة للآية ودالّة على أنّ هذا المقدار من الملكية الموقّتة ـ أي البقاء إلى زمان تحقق البيع ـ قد خرج عن تحت العموم تخصيصاً بالرواية(1) .
مع أنّك عرفت إباء سياق الآية عن التخصيص ، وأنّ الرواية تكون بمنزلة
- (1) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 1/196 .