(الصفحة 347)
ربما يقال بالأوّل ; نظراً إلى أنّ ثبوت الإتّفاق على مثل الضمان في الموردين ، والاختلاف في شمول الأدلّة اللفظية المتقدّمة لغير البالغين كاشف عن كاشفية الإجماع وأصالته ; لأنّه لو كان نظر المجمعين إلى تلك الأدلّة لكان اللازم الاختلاف لثبوته فيها .
الثالث : سيرة العقلاء قاطبة على أنّ الصبيّ إذا أتلف مال الغير أو غصبه فوقع تلف المغصوب في يده مثلا يكون ضامناً للمتلف أو المغصوب ، ولم يردع الشارع عن هذه السيرة ، بل أمضاها بالأدلّة العامّة والمطلقة المتقدّمة .
ويدفعه ـ مضافاً إلى منع تحقق السيرة العقلائية في جميع الموارد ، لأنّه إذا كان غير مميّز وفاقداً للإدراك والشعور لا يحكمون بضمانه بوجه ، وإلى أنّ الأدلّة العامّة لا مجال لإيرادها بعنوان الإمضاء بعد كونها دليلا مستقلاًّ بنفسه ـ أنّ السيرة المتحققة هي سيرة المتشرّعة ، وهي ناشئة عن فتاوى مجتهديهم وآراء مقلّديهم ، ولا تكون دليلا في مقابل الإجماع .
وقد انقدح ممّا ذكرنا تمامية القاعدة من حيث المستند ، ولكن ربما يتخيّل أنّ في مقابل تلك الأدلّة ما ورد من قول عليّ (عليه السلام) : أما علمت أنّ القلم رفع عن ثلاثة : عن الصّبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ(1) ، نظراً إلى ظهوره في أنّه لم يكتب على الصبي قبل الإحتلام شيء ، ولم يجعل عليه في الإسلام حكم لا تكليفاً ولا وضعاً ; لأنّه مقتضى إطلاق «رفع القلم» ، فهذه الرواية بمنزلة المخصّص لتلك الأدلّة اللفظية ، كما أنّها تخصّص ما ورد في باب التكاليف ; مثل قوله تعالى : {أَقِيمُوا الْصَّلاَةَ}(2) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى عدم نهوض مثل ذلك في مقابل الإجماع المحقّق الّذي
- (1) الخصال : 94 ح 40 و ص 175 ح 233 ، وعنه وسائل الشيعة : 1 / 45 ، أبواب مقدّمة العبادات ب 4 ح 11 .
(2) سورة البقرة 2 : 43 .
(الصفحة 348)
عرفته ; لكونه دليلا قطعيّاً لا يقاومه شيء ، وإلى أنّ الظاهر من «رفع القلم» في نفسه هو رفع قلم المؤاخذة المتفرّعة على التكاليف الإلزاميّة الوجوبية أو التحريمية ; لأنّ مخالفتها توجب استحقاق العقوبة والمؤاخذة ، وعليه : لا تشمل الرواية حتى التكاليف والأحكام الاستحبابية ومثلها ، فضلا عن الأحكام الوضعية التي هي محلّ البحث في المقام .
ويؤيّده عطف النائم على الصبي مع ثبوت الحكم الوضعي في حقّه ـ : ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري في مكاسبه في مقام استظهار عدم الاعتبار بعقد الصبي وايقاعه مع وقوعه عن قصد من حديث «رفع القلم» . قال :
بل يمكن بملاحظة بعض ما ورد من هذه الأخبار في قتل المجنون والصبي استظهار المطلب من حديث «رفع القلم» ، وهو ما عن قرب الإسناد بسنده عن أبي البختري ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ (عليهم السلام) أنّه كان يقول في المجنون والمعتوه الذي لا يفيق ، والصبي الذي لم يبلغ : عمدهما خطأ تحمله العاقلة ، وقد رفع عنهما القلم(1) ; فإنّ ذكر «رفع القلم» في الذيل ليس له وجه ارتباط إلاّ بأن تكون علّة لأصل الحكم ; وهو ثبوت الدية على العاقلة ، أو بأن تكون معلولة لقوله (عليه السلام) : «عمدهما خطأ» يعني أنّه لـمّا كان قصدهما بمنزلة العدم في نظر الشارع ، وفي الواقع رفع القلم عنهما .
قال : ولا يخفى أنّ ارتباطها بالكلام على وجه العليّة أو المعلولية للحكم المذكور في الرّواية ـ أعني عدم مؤاخذة الصبي والمجنون ـ بمقتضى جناية العمد وهو القصاص ، ولا بمقتضى شبه العمد ـ وهو الدية في مالهما ـ لا يستقيم إلاّ بأن يراد من «رفع القلم» ارتفاع المؤاخذة عنهما شرعاً من حيث العقوبة الاُخرويّة والدنيوية
- (1) قرب الإسناد : 155 ح 569 ، وعنه وسائل الشيعة : 29 / 90 ، كتاب القصاص ، أبواب القصاص في النفس ب 36 ح 2 .
(الصفحة 349)
المتعلّقة بالنفس كالقصاص ، أو المال كغرامة الدية ، وعدم ترتّب ذلك على أفعالهما المقصودة المتعمّد إليها ممّا لو وقع من غيرهما مع القصد والتعمّد لترتّبت عليه غرامة اُخروية أو دنيوية ، إلى أن قال :
ثمّ إنّ مقتضى عموم هذه الفقرة ـ بناءً على كونها علّة للحكم ـ : عدم مؤاخذتهما بالإتلاف الحاصل منهما ، كما هو ظاهر المحكي عن بعض ، إلاّ أن يلتزم بخروج ذلك عن عموم «رفع القلم» ولا يخلو من بعد ، لكن هذا غير وارد على الاستدلال ; لأنّه ليس مبنيّاً على كون «رفع القلم» علّة للحكم ; لما عرفت من احتمال كونه معلولا لسلب اعتبار قصد الصبي والمجنون ، فيختصّ رفع قلم المؤاخذة بالأفعال التي يعتبر في المؤاخذة عليها قصد الفاعل ، فيخرج مثل الإتلاف ، فافهم واغتنم(1) .
أقول : محصّل مرامه اختصاص حديث «رفع القلم» بالأفعال التي يعتبر في ترتّب الأثر عليها وثبوت المؤاخذة بها قصد الفاعل ، كالقتل بالإضافة إلى القصاص ، أو ترتّب الدية في ماله ، وكالانشائيات في باب العقود والايقاعات . وأمّا مثل الإتلاف فلا دلالة للحديث على عدم ثبوت المؤاخذة به في ماله ; لأنّه لا يعتبر في ترتّب الحكم بالضمان عليه صدوره عن قصد والتفات ; ضرورة أنّ إتلاف النائم موجب لضمانه مع وقوعه عن غير قصد ، فيكون إتلاف الصبي كذلك .
ولكن يرد إشكال على الشيخ (قدس سره) بناءً على ما اختاره في باب الأحكام الوضعية من عدم كونها مجعولة مستقلّة كالأحكام التكليفية ، بل إنّما هي منتزعة عنها ومأخوذة منها(2) ، فالزوجية منتزعة من جواز الوطء والاستمتاع مثلا ، والملكية مأخوذة من جواز التصرّف المطلق ، والضمان في باب الإتلاف مثلا منتزع من لزوم
- (1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 282 ـ 284 .
(2) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 125 ـ 130 .
(الصفحة 350)
أداء المثل أو القيمة عقيبه ، وخلاصة الإشكال : أنّه إذا لم تكن الأحكام الوضعية مستقلّة بالجعل ، بل كانت منتزعة عن التكاليف ومتفرّعة عليها ، فاللازم الالتزام بعدم ثبوتها في الصبي ; لعدم ثبوت التكليف في حقّه ، فإذا لم يكن الصبيّ مكلّفاً بلزوم أداء المثل أو القيمة عقيب الإتلاف ; لأنّه حكم تكليفيّ وهو غير ثابت في حقّه ، فكيف يكون إتلافه سبباً للضمان ، مع أنّ الضمان منتزع عن التكليف على ما هو المفروض؟
بل يمكن توسعة دائرة الإشكال بناءً على القول المشهور من استقلال الأحكام الوضعية في الجعل كالأحكام التكليفية أيضاً(1) ; نظراً إلى أنّ اعتبار الأحكام الوضعية وجعلها ـ سواء كان جعلا تأسيسيّاً ، أو امضائياً لما عليه العقلاء والعرف ـ إنّما هو بلحاظ الأحكام التكليفية المترتّبة عليها ، وإلاّ يصير لغواً بلا فائدة ; فإنّ اعتبار الزوجية بين الرجل والمرأة إنّما يصحّ إذا كانت موضوعة لأثر ; مثل جواز النظر والاستمتاع والوطء ، وكذا الملكية في باب البيع ومثله ، وكذا الضمان في باب الإتلاف مثلا ; فإنّ الحكم بثبوت الضمان فيما إذا أتلف مال الغير إنّما لا يكون لغواً إذا كان الضمان موضوعاً لوجوب أداء المثل أو القيمة ، وبدونه يكون لغواً غير ملائم للصدور عن العاقل ، فضلا عن الشارع الحكيم .
وحينئذ إذا فرض في مورد عدم ثبوت الحكم التكليفي كما في الصبي الذي هو مفروض البحث ، فكيف يصحّ جعل الحكم الوضعي ولو قيل باستقلاله في الجعل والاعتبار؟
وقد اُجيب عن الإشكال ـ مضافاً إلى النقض بالنائم الذي لا شبهة في ضمانه في
- (1) تمهيد القواعد : 37 ، الوافية : 202، زبدة الاُصول : 62 ، الفوائد الحائرية : 95 ، هداية المسترشدين في شرح اُصول معالم الدين : 1 / 58 ، فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) : 3 / 125 ، القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي : 4 / 177 .
(الصفحة 351)
مثل الإتلاف ـ بوجهين :
أحدهما : أنّ ثمرة جعل الحكم الوضعي في الصبي هو وجوب تفريغ ذمّته على الوليّ ، ولا مانع من أن يكون فعل الصبي موضوعاً للحكم التكليفي الإلزامي على شخص آخر ، كما مرّ في الرواية الواردة في جنايته العمدية الدالّة على أنّ عمد الصبي خطأ ، والدّية تحملها العاقلة ، وفي المقام لا مانع من أن يكون إتلافه سبباً لضمانه ، وأثر الضمان وجوب أداء المثل أو القيمة من مال الصبي على الوليّ .
ثانيهما : أنّ ثمرته ثبوت الحكم التكليفي عليه بعد بلوغه ، مضافاً إلى أنّ من أحكام الضمان جواز الإبراء وهو ثابت قبل البلوغ . ودعوى أنّه لِمَ لا يجعل إتلافه سبباً لضمانه بعد البلوغ بحيث كان الحكم الوضعي ثابتاً بعد البلوغ أيضاً؟ مدفوعة ـ مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر الدليل ; حيث إنّ مقتضاه ترتّب الضمان بمجرّد الإتلاف لا الفصل بينهما ـ بأنّ لازم ذلك كون السببية مجعولة لفعل الصبي ، والسببية أيضاً من الأحكام الوضعية ، فما الفرق بينها وبين الضمان؟ فتدبر .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا تمامية القاعدة ثبوتاً وإثباتاً .
الجهة الثانية : في بيان المراد من القاعدة ; وهو ـ كما ظهر ممّا تقدّم في الجهة الاُولى ـ الفرق بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية باختصاص الاُولى بالبالغين ، وشمول الثانية لغير البالغين أيضاً ، فكما أنّ إتلاف البالغ لمال الغير موجب لضمانه له ، كذلك إتلاف الصبيّ غير البالغ ولو كان فاقداً للتمييز والشعور ، كما أنّه ظهر ممّا ذكرنا هناك أنّ المراد بالأحكام الوضعية الثابتة لغير البالغين أيضاً هي الأحكام الوضعية التي لم يؤخذ في موضوعها القصد والالتفات ، كالإتلاف والحيازة والغصب والجنابة وسائر الأحداث .
وأمّا ما اُخذ في موضوعها القصد كالإنشاء في باب المعاملات والعقود والايقاعات كالبيع والعتق والطلاق ، فلا تكون ثابتة في حق الصبي ; لما ورد من أنّ